-الأسرة المُقدّسة-- تحقيقات وتعليقات، حاشية هامشية نقدية رقم 2
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7991 - 2024 / 5 / 28 - 16:47
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
يقول ماركس: حتى يومنا هذا (1844)، كان الاقتصاد السياسي يتخذ الثروة كنقطة انطلاق، مع الافتراض بانّ حركة الملكية الخاصة هي التي تولّد هذه الثروة للأمم. ويُستخلص من ذلك سبباً لإطراء المُلْكيّة الخاصة. أما برودون فينطلق من النقطة المعاكسة التي كان الاقتصاد السياسي يقنعها بالسفسطائيات؛ إنه ينطلق من الفقر الذي تولده حركة الملكية الخاصة للوصول إلى آرائه التي ترفض الملكية الخاصة. " 64
إن أول نقد للمُلكية الخاصة ينطلق بصورة طبيعية من الواقعة التي يتجلّى فيها جوهر هذه المُلكية المتناقض بشكله الأكثر حسية؛ الأكثر وضوحاً، والأكثر إثارة للاشمئزاز الفوري بالنسبة للشعور الإنساني: هذه الواقعة هي الفقر، هي الشقاء." 65
إن "النقد" مشخصاً بإدغار يجمع واقعتي الفقر والملكية الخاصة في واقعة واحدة. ولا يعترف بالعلاقة الداخلية بين الواقعتين، إلا بعد أن يستخرج منهما واقعة وحيدة. إن ادغار لا يستطيع إنكار أن برودون هو الآخر، يجد علاقة داخلية بين الفقر والملكية الخاصة، إذ انه بالضبط بسبب هذه العلاقة يُلغي الملكية الخاصة (يدعو لإلغائها) لكي يزيل الشقاء." 65
وقد ذهب برودون إلى أبعد من ذلك. فقد أثبت بكل دِقّة كيف أنّ حركة رأس المال تولّد الشقاء. أما النقد بشخص ادغار، فهو لا يتنازل إلى مستوى هذه السفاسف، هو يعترف بأن الفقر والملكية الخاصة نقيضان، بحيث يجعل من الثروة والفقر كُلّاً (وحدة متناقضات) ويسأل هذه الوحدة بصفتها كلاً، ما هي مقدمات وجودها". وباعتبار أن "النقد" بشخص ادغار قد فرغ لتوه من خلق "الوحدة باعتبارهاً كلاً" بالتالي فإن خلق ذاته للكل (فعاليته الذاتية في خلق الكل) هو مقدمة وجود هذا الكل." 65 بهذا السؤال عن مقدمة وجود الكُلّ، يتحرّى ادغار، طبقاً لطريقة لاهوتية نوعية، عن المقدمات لوجود الكل خارجاً عنه (لوجود الخليقة خارج الله الخالق).
إن التأمل النظري، باعتبار الموضوع أصبح خارجه بعد الخلق، فهو يتحرك خارجاً عن الموضوع الذي يدّعي معالجته. (يتأمله عن بعد كما يتأمل الخالق مخلوقاته). وفي حين أن التناقض برمته ليس سوى حركة قطبية (وحدة ضدين): وأن طبيعة هذين القطبين (الضدين) هي الشرط المسبق لوجود الوحدة أو الكلّ، فإن "النقد" يعفي نفسه من دراسة هذه الحركة الحقيقية مبدعة الكل (الوحدة) لكي يكون قادراً على الإعلان بأن "النقد النقدي" باعتباره "سكينة المعرفة" و(حقّ اليقين) يضع نفسه حقاً فوق قطبي التناقض النهائيين. وأن نشاطه بعد أن خلق "الكل باعتباره كليّة" (وحدة)، يستطيع بمفرده أن يزيل التجريد الذي خلقه" 66 ويحقّ عليه قول المثل: "جُحا جاب جُحا أكل" جحا أضحى مضرباً للمثل!
إن البروليتاريا والثروة نقيضان (ضدان) وبهذا الاعتبار يؤلفان كلية (Totality). وهما الاثنتان من تشكيلات عالم الملكية الخاصة. والقضية، هي معرفة أي مكان محدد (موقع) يشغل كل منهما في هذا التناقض. إذ إن القول بأنهما وجهان لكلية واحدة (وجهان لعملة واحدة) لا يكفي. 66 إن المُلكية الخاصة بوصفها كذلك (مُلكية خاصة)، وبوصفها ثروة، مجبرة على إدامة وجودها الخاص، بالتالي أيضاً إدامة نقيضها (ضدها)، أي البروليتاريا. والمُلكية الخاصة التي لاقت رضاها في ذاتها، تؤلف الجانب الإيجابي (المهيمن) من التناقض." 66
أي أن سلب قوة العمل هو الذي ينتج الثروة الفعلية؛ "الايجابية". بهذا المعنى تشكل قوة عمل البروليتاريا "ثروة سلبية" أو ثروة كامنة ممكنة.
أما البروليتاريا وحتى تزيل سلبيتها عليها أن تزيل نفسها بنفسها، وفي الوقت نفسه أن تزيل نقيضها التابعة له، والذي يصنع منها بروليتاريا، أي الملكية الخاصة. البروليتاريا هي الجانب السلبي من التناقض كما أسلفنا، هي القلق في قلب التناقض، (العنصر الحيّ للثروة وخالقها)، إنها الملكية الخاصة المنحلة والسائرة نحو الانحلال الذاتي. 66 المُلكية الخاصة بإفقارها البروليتاريا تحفر قبرها بيدها.
يقول ماركس في عبارات ممتلئة بالشعرية: "إن الطبقة المالكة، وطبقة البروليتاريا (غير المالكة) تمثلان الضياع (الاغتراب) الإنساني نفسه (وجهي الضياع). إلا أن الأولى، تجد نفسها مرتاحة في هذا الضياع: إذ أنها تلاقي فيه تثبيتاً وازدهاراً، وتكتشف في ضياعها هذا سلطانها الخاص، وتمتلك فيه مظهراً لوجود إنساني. أمّا الثانية فتشعر بالانسحاق في هذا الضياع وترى فيه عجزها وواقع وجود غير إنساني. فهي على حد تعبير هيغل، في الخزي والتمرّد ضد هذا الخُزي، التمرّد الذي يدفع بها إليه بالضرورة التناقض بين طبيعتها الإنسانية وظروف حياتها، (هذه الظروف) التي هي نفي شامل وقاطع وصريح لهذه الطبيعة"*
*أجرينا بعض الدمج في هذه العبارة بين ترجمتي دكتور رزق الله هيلانِ (ص 66) وبين ترجمة حنا عبود (ص 40) حتى تكون أكثر وضوحاً للقارئ.
في قلب هذا التناقض، يكون إذن المالك الخاص (صاحب الملكية الخاصة) هو الطرف المحافظ، ويكون البروليتاري هو الطرف الهدّام (الثوريّ). من الأول يصدر الفعل الذي يحافظ على التناقض، ومن الثاني الفعل الذي يقضي عليه" 67
إذا أخذنا الملكية الخاصة في حركتها الاقتصادية، نلاحظ أنها تتجه ذاتياً (طيقياً) نحو انحلالها الذاتي. وقلنا أن هذا الانحلال ليس تلقائياً ولا أوتوماتيكيا أي اقتصادياً، بل تتوسطه القوة السياسية للبروليتاريا وحلفائها كحركة اشتراكية-ديمقراطية مسلحة بنظرية ثورية تهدف إلى التحويل التاريخي للشرط البورجوازي.
إن المُلْكية الخاصة تفعل ذلك فقط بتطور مستقل عنها لا شعوري يتحقق ضد إرادتها". وقد يظن القارئ أن هناك مُلكية خاصة تمشي في الأسواق وتأكل الطعام، لكن ليس المقصود بهذا الكلام سوى كناية عن المالكين الخاصين الذين تتطور الأمور ضد إرادتهم وخارج إدراكهم، وحسب طبيعة الأشياء، نحو دمار ملكيتهم الخاصة. ونلاحظ هنا أن اللاشعور عند أفراد الطبقة المالكة أمر معاصر، ولا يشبه ابدا اللاشعور الفرويدي (البدائي والقديم). تستطيع الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج الإحاطة بمصالحها إيجابياً، أي وضعياً وما هو قائم بالفعل، لكنها لا تستطيع الإحاطة بالحركة السالبة لهذا الوضع التي هي حركة البروليتاريا الاشتراكية، التي يتوجب عليها، حتى تكون قادرة على انجاز حركتها التاريخية هذه، أن تمتلك هذا الوعي الشمولي بالوضع القائم وبممكنات سلبه، وأن تكون قادرة على تنظيم نفسها بوعي واستقلالية وبناء تحالفاتها مع الطبقات المتظلّمة والمهمشة الأخرى وفق مقتضيات هذا الوعي الطبفي.
يقول ماركس: يتحقق هذا الانحلال الذاتي للملكية الخاصة بمجرد توليدها للبروليتاريا بوصفها بروليتاريا؛ بوصفها الشقاء الواعي لهذا الشقاء الروحي والجسدي. الإنسانية الواعية لهذه اللاإنسانية، التي بفعل هذا الوعي تهدم نفسها بتجاوزها ذاتها"
واضح تركيز ماركس على مسألة الوعي عند البروليتاريا. فمن دون وعي طبقي بذاتها وموقعها في عملية الإنتاج وبدورها في التحويل التاريخي لهذا الشرط البورجوازي اللاإنساني، لن تستطيع انجاز هذه المهمة التاريخية، والتي بإلغائها للمُلكية الخاصة ونظام الطبقات الاجتماعية تلغي نفسها بالذات كطبقة. لدينا ما يشبه هذا العمل في الدعوة المُحَمَّديّة، حيث اعتمدت الدعوة وكوادرها المنظمة الواعية على قبيلة قريش لبناء دولة للعرب، وهي بهذا أي قريش تكون قد حكمت على ذاتها كقبيلة بالزوال.
إن البروليتاريا تنفِّذ الحكم الذي تصدره الملكية الخاصة على نفسها بتوليدها البروليتاريا. وإذا ظفرت البروليتاريا بالسلطة، فهذا لا يعني أنها أصبحت الجانب المطلق من المجتمع، إذْ انها لا تظفر إلا بإزالة نفسها وإزالة نقيضها (الملكية الخاصة)؛ نقيضها الذي يتضمنها.
يقول ماركس في تعقيب على "النقد النقدي": إذا كان المؤلفون الاشتراكيون (ماركس وانجلز) يسندون للبروليتاريا هذا الدور التاريخي، فمرد ذلك ليس مطلقاً لكونهم يعتبرون الكادحين كآلهة، كما يتظاهر "النقد النقدي" بذلك معتقداً."
وأقول تعقيباً على ذلك، أن وعي البروليتاريا بدورها التاريخي وتنظيم صفوفها وتحالفاتها وفق هذا الوعي وهذه المهمة التاريخية، يحولها من موضوع لاستغلال الطبقات المالكة ومن فراخة للثروة إلى ذات تاريخية مشخصة بكوادر وقيادات حزب سياسي وبحركة اشتراكية منظمة، ما يعني أنها تتحول إلى قوة تاريخية موجودة بالذات (لا بالعرض فقط) قادرة على الفعل التاريخي، حيث تكتسب بهذه الصفة الذاتية الفعالة طابعاً إلهياً في التحويل التاريخي للمجتمع البورجوازي وفي خلق مجتمع اشتراكي جديد. وبهذه الطريقة تتحول من طرف سلبي في التناقض إلى قطب فعّال لما يريد مهيمن فيه. أي تتحول من موضوع للتاريخ إلى ذات تاريخية خالقة للمجتمع الجديد.
لقد فعل برودون في قضية المساواة ما فعله تماماً النقاد الألمان الذين يستخرجون بالضبط دليلاً ضد وجود الله من تصور الانسان الذي يجدونه في أساس الأدلة على وجود الله" وأقول: إنّ الانسان الكامل نُكتَة العالم وبرزخه الأعظم وسر أسراره.
إن البرولياريا الكاملة النمو (كمعطى تاريخي للملكية الخاصة) هي التي يتم عملياً تجريدها من كل إنسانية، وحتى من مظهر الإنسانية. وفي ظروف حياة البروليتاريا تتكشف جميع ظروف حياة المجتمع الحالي بما يمكنها أن تتضمنه من اشد الأشياء لا إنسانية.
ففي البروليتاريا أضاع الانسان نفسه (الاغتراب في المجتمع البورجوازي)، ولكنه اكتسب في الوقت ذاته الوعي النظري لهذا الضياع، وفضلاً عن ذلك، فإن الشقاء الذي لم يعد بمقدوره أن يتجنبه أو يموهه -الشقاء الذي يفرض نفسه عليه حتماً كتعبير عملي عن الضرورة-يكرهه مباشرة على التمرد ضد مثل تلك اللاإنسانية. ولهذا السبب فإن البروليتاريا قادرة، ويجب عليها بالضرورة، أن تحرر نفسها بنفسها."
بالطبع ومن البداهة أن هذا الشقاء العملي مقابل تنعُّم الطبقة المالكة يمكن أن يدفع البروليتاريا أو بعض قطاعاتها للتمرد التلقائي. لكن هذا التمرّد لا يشترط بالضرورة أن تكتسب البروليتاريا تلقائياً الوعي النظري لهذا الضياع. فالوعي النظري بحاجة لمثقفين، ولا يمكن في البدء ظهور المثقفين إلا في الطبقات المرفهة المتعلمة، أي البورجوازية، وهذا يفترض وبحكم واقع البروليتاريا البائس تحسس فئات من هؤلاء المثقفين لهذا البؤس والبحث عن جذوره في بنية المجتمع الحديث. إذن حتى تكتسب البروليتاريا الوعي النظري لاغترابها (ضياعها) عليها أن تكسب هوى مثقفين بورجوازيين يعملون بجد لإقامة مثل هذا الوعي. وينتجون العلم التاريخي بالتنظيم الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي الحديث. فقط باكتسابها تأييد مثقفين عضويين يقيمون الوعي ويكسبونها إياه تستطيع البروليتاريا أن تحرر نفسها بنفسها. وكون المجتمعات الرأسمالية متفاوتة التركيب الطبقي بشكل كبير، تحتاج البروليتاريا من أجل تحرير نفسها وتحرير كامل المجتمع، إلى تحالفات مع باقي الطبقات الهامشية في المجتمع، خاصة الفلاحين الفقراء، وفقراء المدن. وكونها تمثل القومية الكبيرة في المجتمع فهي بحاجة للتحالف مع الأقليات القومية المظلومة أيضاً في المجتمع. إن أية دعوة اشتراكية باسم البروليتاريا لا تتضمن الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج دعوة مشبوهة، ولا تقود إلى تحرر المجتمع السياسي ولا إلى إلغاء الضياع الإنساني.
هكذا لا تستطيع البروليتاريا أن تحرر نفسها دون أن تلغي شروط وجودها، أي دون أن تلغي جميع شروط الحياة اللاإنسانية في المجتمع الحالي الرأسمالي.
وفي عبارة موحية يقول ماركس: "لا يهم أن نعرف الهدف الذي يتصوره مؤقتاً هذا البروليتاري أو ذاك، أو حتى البروليتاريا باسرها، بل المهم هو معرفة ما هي البروليتاريا، وما الذي ستكون مضطرة تاريخياً أن تفعله طبقاً لهذا الكيان. إن هدفها وعملها التاريخي مرسومان، بصورة محسوسة ومحتومة، في وضعها الذاتي كما في كل تنظيم المجتمع البورجوازي الحالي" وقد يخطر بذهن القارئ أن البروليتاريا تكتسب الوعي بمهمتها التاريخية، وأن يصل هذا الوعي إلى أعلى درجات الوضوح، عفوياً أي تلقائياً عبر النضالات النقابية. وهذا الكلام غير وارد تاريخياً، خاصة أن ماركس يركّز رهانه على مسألة الوعي عبر النضالات المتتالية والاضرابات والأزمات، وعبر رهانه على تقدم علم فهم الاقتصاد السياسي للمجتمع البورجوازي، وعلى ظهور نقد لهذا الاقتصاد وظهور مفكرين اشتراكيين من كل نوع، وتقدم التعبير السياسي للبروليتاريا على شكل أحزاب اشتراكية-ديمقراطية خاصة في ألمانيا وروسيا، أي في الحلقات المتأخرة من البر الأوروبي. كانت بريطانيا الأكثر تطوراً، وكانت نقاباتها الأكثر حضوراً، لكنها كانت الحلقة السياسية الأضعف على مستوى الوجود السياسي للبروليتاريا الأوروبية. خلاصة القول: لا وعي تاريخي للبروليتاريا بمهمتها التحررية من دون وجود مثقفين عضويين خاصين بها وبمهمتها، مثقفين عضويين هم قادة الأحزاب والحركات الاشتراكية -الديمقراطية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا التقدم في وعي البروليتاريا بمهمتها التاريخية يفترض وجود درجات لوعيها تعبر عنه تعددية الأحزاب الاشتراكية في المجتمع الواحد، لكن الوعي يقسم من حيث الأساس إلى وعي قائم بالفعل لدى البروليتاريا ووعي ممكن هو المطلوب وهو موضع الرهان لدى مثقفي البروليتاريا العضويين ومنظريها الاشتراكيين.