-الدولة والثورة- حواشٍ وتعليقات؛ الفصل الثالث
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7900 - 2024 / 2 / 27 - 18:40
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
خبرة كمونة باريس
كان ماركس وانجلس قد وضعا برنامجاً عاماً سنة 1847، فيه شيء من التجريد، خاصة وأنه جاء قبل أن تظهر نتائج ثورة 1848 -1851 الديمقراطية في فرنسا والتي ساهمت فيها البروليتاريا الباريسية، وكانت "الشيوعية" سر هذه الثورة، والجانب الخفي فيها. يقول لينين: "في سنة 1847 لم يعط ماركس في "البيان الشيوعي" جواباً على سؤال: "بما يستعاض عن آلة الدولة المحطمة" غير جواب مجرد جداً، جواب يشير فيه إلى المهام لا إلى طرق حلها" 53 لم يتحدث وقتها عن الاشكال الملموسة التي سيتخذها "تنظيم البروليتاريا بوصفها طبقة سائدة"
بعدها حلل ماركس خبرة الثورة هذه وبين سبب فشلها. ثم جاءت كمونة باريس كانتفاضة للبروليتاريا الباريسية وفشلت أيضاً بعد شهرين من قيامها. يقول لينين: "التصليح" (التعديل) الوحيد الذي اعتبر ماركس أن من الضروري إدخاله على "البيان الشيوعي" قد استوحاه من خبرة الكمونيين الباريسيين الثورية. وهكذا، فإن ماركس وانجلس قد اعتبرا أن لأحد الدروس الأساسية الرئيسية التي أعطتها كمونة باريس أهمية كبرى تحملهما على إدخاله في "البيان الشيوعي" باعتباره تعديلاً جوهرياً. وهذا الدرس يتلخص بالآتي: "بوجه خاص برهنت الكمونة أن الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتفي بالاستيلاء على آلة الدولة (البورجوازية) جاهزة وأن تحركها لأهدافها الخاصة" (مقدمة البيان الشيوعي 24 حزيران 1872)
هذا هو منهج العلم عند ماركس: استدلال منطقي تأتي التجربة لتدحضه أو تعدّله أو لتثبته كحقيقة عينية موضوعية واقعية. يقول لينين: "تتلخص فكرة ماركس (هنا) في أن واجب الطبقة العاملة (البروليتاريا) هو تحطيم "آلة الدولة الجاهزة (البورجوازية) " وكسرها، لا الاكتفاء بمجرد الاستيلاء عليها" 49 في هذه الكلمات "تحطيم آلة الدولة البيروقراطية العسكرية " أعرب (ماركس) بإيجاز عن درس الماركسية الرئيسي بشأن واجبات البروليتاريا في الثورة حيال الدولة. " 50 إن الاستثناء البريطاني من هذه القاعدة الذي وضعه ماركس سنة 1872 لانعدام الطغمة العسكرية والبيروقراطية، قد زال الآن مع ظهور ما يسمى بالدولة الامبريالية. "فالشرط الاولي لكل ثورة شعبية حقاً "، هو في الوقت الحاضر، "تحطيم وهدم آلة الدولة (البورجوازية) الجاهزة"" 51
يعلق لينين على العبارة السائقة بالقول: "ويبدو مفهوم "الثورة الشعبية" هذا مستغرباً على لسان ماركس. ونحسب أن البليخانوفيين والمناشفة الروس، أتباع ستروفه هؤلاء الذين يريدون أن يعتبروا ماركسيين، يستطيعون أن يصفوا تعبير ماركس هذا بأنه "زلّة لسان". فقد شوهوا الماركسية تشويهاً ليبرالياً حقيراً، بحيث لم يعودوا يرون معه (فكر ماركس) غير معارضة الثورة البورجوازية بالثورة البروليتارية، وهم فوق ذلك يفهمون هذا التعارض بجمود (ميتافيزيقي) ما بعده جمود." 52
وكان لينين قد جادل بليخانوف والمناشفة سنة 1905 في كتابه الهام "خطتا الاشتراكية في الثورة الديمقراطية" محاولاً اثبات مقولته أن البورجوازية الروسية ممثلة بحزب الكاديت هي أضعف وأعجز تاريخياً من النهوض بمهمات الثورة الديمقراطية البورجوازية، وأنه بالتالي يقع على عاتق البروليتاريا الاشتراكية الديمقراطية الروسية وعبر تحالفها مع الفلاحين الفقراء انجاز مهمات هذه الثورة، والانتقال لاحقاً إلى المهمات الاشتراكية. يقول لينين: "بدون هذا التحالف لا تكون الديمقراطية وطيدة، ولا يمكن التحويل الاشتراكي. ومن المعروف أن كمونة باريس كانت تشق طريقها إلى مثل هذا التحالف، وهي لم تبلغ الهدف بحكم جملة من أسباب ذات طابع داخلي وخارجي" 53
"إن الثورتين البرتغالية والتركية (القرن العشرين) هما على حد سواء ثورتان بورجوازيتان. ولكن لم تكن لا هذه ولا تلك ثورة شعبية"، لأن جمهور الشعب، أكثريته الكبرى، لم تبرز بصورة ملحوظة، نشيطة ومستقلة، بمطالبها الخاصة الاقتصادية والسياسية لا في هذه الثورة ولا في تلك، بالعكس من الثورة البورجوازية الروسية سنوات 1905-1907 " ومن الثورة الإيرانية الشعبية 1979. لهذا لم تضطر الثورتان التركية والبرتغالية لتحطيم آلة الدولة القديمة، بل تسلمتاها وعدلتا فيها بما يناسب الوضع الجديد. أما الثورة الإيرانية، ولأنها ثورة شعبية بامتياز فقد اضطرت لتحطيم آلة الدولة التي أقامها الشاه بمساندة مباشرة من الامبريالية الأميركية. وكذلك فعلت الامر نفسه الثورة الاشتراكية الشعبية في روسيا سنة 1917، والثورة الصينية 1949.
إذن عندما تكلم ماركس حقاً عن "الثورة الشعبية حقاً"، دون أن ينس للحظة خصائص البورجوازية الصغيرة، كان يأخذ بعين الاعتبار بدقة التناسب الواقعي بين الطبقات في أكثرية دول القارة الأوروبية في سنة 1871. وقد قرر من الجهة الأخرى، أن تحطيم آلة الدولة تفرضه مصالح العمال ومصالح الفلاحين على السواء" 53
إن الطابع الطفيلي للدولة بوصفها آلة قمع خاصة بالطبقة السائدة الظالمة ضد الطبقات الهامشية المظلومة تتجلى في الامتيازات الهائلة والأجور العالية لقادة أجهزة القمع من الجيش الدائم والشرطة، وامتياز الوزراء والنواب والقضاة وغيرهم من موظفي الجهاز البيروقراطي الإداري الضخم. إن أكبر بابين للهدر والنفقات الضخمة هي الجيش الدائم والجهاز البيروقراطي الضخم من الموظفين.
إن الانتهازيين الذين ينسون "سذاجات الكمونة " " في حديثها عن قمع الظالمين بمجموع قوة الشعب من العمال والفلاحين الفقراء"، يشبهون المسيحيين في نسيانهم "لسذاجات " مسيحية العهد الأول مع روحها الثورية الديمقراطية، عندما غدا دينهم دين الدولة" 58
إن التدابير التي تقوم بها البروليتاريا الظافرة بالسلطة ، بما يتعلق بإعادة تنظيم الدولة، وتنظيم المجتمع من الناحية السياسية الصرفة، لا تكتسب بطبيعة الحال كل مغزاها وأهميتها إلا في حال تحقيق مصادرة ملكية مغتصبي الملكية، أي نقل الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج إلى ملكية اجتماعية" 59 وقد تبين تاريخياً بالتجربة الفعلية في الانتقال من النمط البورجوازي للإنتاج إلى النمط الاشتراكي أن الدولة الاشتراكية ستلعب دوراً هاماً عبر استيلائها على وسائل الإنتاج والاشراف على التطوير المجمل لقوى الإنتاج، تحت مسمى "رأسمالية الدولة الاشتراكية"، أو تنظيم الدولة على أساس اشتراكي.
لا يمكن تصور الديمقراطية، وحتى الديمقراطية البروليتارية الاشتراكية، من دون مؤسسات تمثيلية، مع فارق أن البروليتاريا الاشتراكية سوف تجمع العملين التشريعي والتنفيذي في جهاز واحد هو السوفييت. بينما كانت البورجوازية تفصلهما إلى جهاز تشريعي وجهاز تنفيذي إجرائي، أي البرلمان والحكومة. في السوفييت (الكمونات) يتم الجمع بين الحكومة والبرلمان، بحيث يشرّع مجلس السوفييت وينفذ تشريعاته. وهو مسؤول مسؤلية مزدوجة أمام جماهير الشعب. وقد بينت خبرة الاتحاد السوفيياتي، على مدى ثلاثة أرباع القرن، أن هذا الشكل من التمثيل وفي ظل ظروف تاريخية غير مواتية، معرض هو أيضاً للعطب والتشويه البيروقراطي.
إن ماركس لا يخترع مجتمعاً جديداً من خياله، بل يدرس كما يدرس مجرى التاريخ الطبيعي ولادة المجتمع الجديد من المجتمع القديم، وأشكال الانتقال من هذا إلى ذاك، وهو يأخذ الخبرة العملية للحركة البروليتارية الجماهيرية، ويسعى ليستخلص منها الدروس العملية. وهو يتتلمذ كجميع المفكرين الثوريين العظام الذين لم يتهيبوا التعلم من خبرة الحركات التاريخية الكبرى التي قامت بها الطبقات المظلومة.
إن تفريق لينين بين تعاليم الماركسية وفوضوية برودون وباكونين مهمة.
كانت الكمونة الشكل السياسي الذي اكتشف أخيراً والذي كان يمكن أن يتم في ظله انجاز التحرير الاقتصادي للعمل" أي الاشراف المباشر من قبل العمال المنتجين على مجمل عملية الإنتاج. إن البناء الكموني كان سيعيد إلى الجسم الاجتماعي جميع القوى التي ابتلعتها إلى ذلك الحين الزائدة الطفيلية (الدولة البورجوازية) التي تقتات على حساب المجتمع وتعيق تقدمه الحر." وهذا وحده كفيل بأن يبعث وحدة الأمة من جديد، بعد أن مزقتها الصراعات والمطامع الطبقية.
"الكمونة" (المشاعة) هو الشكل الذي اكتشفته أخيراً الثورة البروليتارية والذي يمكن ان يتم في ظله التحرير الاقتصادي للعمل (وهذا التحرر الاقتصادي للعمل يعني التحرر من الاغتراب الاقتصادي) الذ هو أساس لكل اغتراب آخر سياسي او ديني.
الكمونة هي أول محاولة تقوم بها الثورة البروليتاريا لتحطيم (تكسير) آلة الدولة البورجوازية، والشكل السياسي "الذي أكتشف اخيراً" والذي يمكن ويجب أن يستعاض به عن الشكل المحطم" 76 ويستخدم لينين كلمة تكسير ليشير إلى "التدرّج في بناء " الدولة الاشتراكية الجديدة "
تتمة (الفصل الرابع)
في فترات الانتقال من النمط الرأسمالي للإنتاج إلى الشيوعية، تلعب الدولة الاشتراكية دوراً محورياً. إن القضاء على ملكية الأرض (الملكية العقارية)، لا يفرض في هذه الفترة الغاء الريع العقاري (إجرة الأرض أو العقار أو السكن)، بل يتم "تحويله إلى المجتمع (وبشكل أدق إلى الدولة الاشتراكية). وعلى ذلك ، كان التملك الفعلي لجميع أدوات العمل (وسائل الانتاج) من قبل الشعب العامل لا ينفي بأي حال بقاء التأجير والاستئجار" 78 في هذه الفترات الانتقالية وكما ظهرت في تجربة روسيا بعد الثورة الاشتراكية 1917 وكذلك الصين بعد الثورة الاشتراكية 1949، تم نقل ملكية وسائل الإنتاج إلى رأسمالية الدولة الاشتراكية، وبتنا أمام ملكية عامة تشرف عليها الدولة الاشتراكية وتديرها ، هي في واقع الحال "ملكية دولة اشتراكية"، ولا يمكن الحديث عن ملكية الشعب العامل، وإدارة عمالية مباشرة ، وإشراف عمالي مباشر على وسائل الإنتاج دون الوصول إلى مرحلة بدء اضمحلال الدولة البروليتارية الاشتراكية. بهذا الخصوص يتوخى انجلس الحيطة ويفصح عنها بحذر شديد. يقول: "لا نحسب أن الدولة البروليتارية ستوزع المساكن دون أجور، على الاقل في مرحلة الانتقال" 79 إن تأجير مسكن أو أرض، "التي هي ملك للشعب" إلى هذه الاسرة أو تلك تفترض وجود موظفين مزودين بسلطات عامة يعطون الامر بتسليم الأرض أو السكن، وجهات تشرف على التنفيذ ولها قوة الدولة في الاكراه، وجهات تجمع وتتسلم الاجر أو الريع العقاري. هنا في هذا المجال تشبه الدولة البروليتارية الدولة البورجوازية، مع فارق أن الريع العقاري ليس ملكية أفراد أو طبقة بعينها بل ملك للدولة الاشتراكية التي تتصرف بهذا الفائض الاقتصادي أو الريع لصالح عموم الشعب العامل في سبيل رفاهه وتحسين الخدمات العامة. من هنا تأخذ الدولة الاشتراكية باقي اسمها "رأسمالية الدولة الاشتراكية" لأنها تتصرف كرأسمالي كبير يحتكر كل شيء. فإذا أضفنا إلى ذلك التحدي الامبريالي الخارجي، تبدى لنا مدى قوة الدولة الاشتراكية في فترة الانتقال هذه. "إن الانتقال إلى حالة يصبح معها بالإمكان إعطاء المساكن دون مقابل، يقترن بالضرورة مع اضمحلال الدولة بصورة تامة" 79 إن عبارة انجلس (أنتي-دوهرنغ) تشير صراحة إلى فترات الانتقال هذه بالقول "ضرورة عمل البروليتاريا السياسي وديكتاتوريتها باعتبار ذلك انتقالاً إلى الغاء الطبقات ومعها (اضمحلال) الدولة" 79
لقد جرى سجال ماركس وانجلز مع الفوضويين "أنصار برودون"، و"أنصار الحكم الذاتي" أو "خصوم السلطة السياسية" إلى سنة 1873. لم يعترض ماركس قط على الفكرة القائلة بأن الدولة تزول بزوال الطبقات، بل اعترض على الفكرة القائلة بعدول العمال وامتناعهم عن استخدام العنف المنظم، أي سلطة الدولة الاشتراكية، في سبيل تحطيم مقاومة البورجوازية. أي أن ماركس يؤكد -ضد الفوضوية-على ضرورة الدولة بالنسبة للبروليتاريا الحاكمة في فترات الانتقال. لبلوغ هدف اضمحلال الدولة وزوالها.
لابد في فترة الانتقال من أن تستخدم البروليتاريا الاشتراكية أدوات ووسائل وأساليب سلطة الدولة ضد المستثمِرين. من هنا يمكن الحديث عن "حكم ذاتي" لأقليات قومية، لكن ضمن منطقة نفوذ وسلطان الدولة الاشتراكية المركزية.
إن الفوضويين يريدون إلغاء الدولة السياسية دفعة واحدة وتحويلها إلى إدارة اجتماعية، قبل أن تلغى العلاقات الاجتماعية التي نشأت عنها الدولة. إنهم يطلبون أن يكون إلغاء السلطات السياسية أول عمل تقوم به الثورة الاجتماعية. وهذا ما يقود إلى فوضى اجتماعية وعنف متبادل رهيب، من هنا أخذوا اسمهم "الفوضويون" أو أصحاب المذهب الفوضوي.
عندما تزول الطبقات وتضمحل الدولة، وتتحول الوظائف الاجتماعية من سياسية إلى مجرد إدارية، وتتحول الدولة من دولة سياسية مسلحة بسلطات إلى مجرد إدارة اجتماعية عامة من قبل افراد متحدين متشاركين، لا يعود لهذا السجال مع الفوضويين أي معنى.
نسجل ملاحظة حول ظاهرة ملفتة وهي تأخر نشر مقالات أو رسائل لماركس وانجلز عشرات السنين أحياناً. ومن الملفت أن نص "الأيديولوجية الألمانيةط الذي كتب سنة 1845 لم ينشر إلا سنة 1932. وأن رسالة انجلس إلى بيبل سنة 1875 لم تنشر إلا سنة 1911، أي بعد مضي 36 سنة على وضعها.
لقد سعى انجلس إلى توجيه نضال الاشتراكيين الديمقراطيين الالمان ضد الفوضويين توجيهاً صحيحاً، وإلى جعل هذا النضال صحيحاً من الناحية المبدئية وإلى تطهيره من الأوهام الانتهازية بصدد "الدولة". ولكن وا أسفاه! لقد ظلت رسالة انجلس مدة ست وثلاثين سنة مطوية في صندوق. وسنرى فيما يأتي أن كاوتسكي، حتى بعد نشر هذه الرسالة، قد استمر يكرر في الجوهر، بعناد، نفس الأخطاء التي حذر منها انجلز. "لقد كانت ظروف الحياة تُنسي الثورة لأمد طويل" 89 أيضاً انتقاد انجلس لمشروع برنامج إرفورت. إن الانتقاد الموجه لكاوتسكي
في 29 حزيران 1891 لم ينشر في صحيفة (نيوتزايت) إلا بعد مضي عشر سنوات. والانتقاد يتناول بالضبط وبصورة رئيسية النظرات الانتهازية في الاشتراكية -الديمقراطية حول مسائل تنظيم الدولة." 90
يذكر انجلس أن الانتقال من الشركات المساهمة فترة الرأسمالية الليبرالية التنافسية إلى التروستات التي تُخضع لنفسها وتحتكر فروعاً صناعية برمتها، ليس نهاية الإنتاج الخاص (المشروع الفردي) فحسب، بل نهاية اللامنهاجية" (اللاتخطيط) أي نهاية مشاريع الافراد المبعثرين وعدم التنظيم والتخطيط. مع أن التخطيط الاحتكاري وتنظيم العملية الإنتاجية يكون على مستوى التروست، أي على مستوى الشركة الاحتكارية لا على المستوى القومي كما هو حال نظام التخطيط الاشتراكي في فترات الانتقال التاريخي من البورجوازية إلى الاشتراكية. ولهذا ظهر الوهم بان الرأسمالية الاحتكارية، أي الدولة الرأسمالية الاحتكارية تكفّ عن كونها رأسمالية وتغدو ما أطلق عليه "اشتراكية دولة" وهذا الخلط بين رأسمالية الدولة الاحتكارية (الامبريالية) من جهة وبين رأسمالية الدولة الاشتراكية، نابع من الخلط بين التخطيط الرأسمالي للشركة الاحتكارية، وبين التخطيط الاشتراكي القومي.
يوجد خلط آخر قام به بعض المفكرين الاقتصاديين التروتسكيين "" أمثال كريس هارمان، خاصة وأن لدى هارمان مغالطات يتوجب مناقشتها، تتعلق بدور رأسمالية الدولة الاشتراكية في فترات الانتقال." حيث يطلق على هذه الدولة اسم "رأسمالية دولة" من دون كلمة اشتراكية خالطاً بذلك رأسمالية الدولة الاشتراكية مع رأسمالية الدولة الاحتكارية الامبريالية. بحيث لم يعد يوجد هنا من فرق بين نظام الدولة الأميركي وبين نظام الدولة الصيني.
إن الانتهازية الاشتراكية تضع في المقام الأول مسائل سياسية عامة مجردة تستر بها المسائل الملموسة المباشرة التي تفرض نفسها في جدول الاعمال عند أول أحداث هامة، عند أول أزمة سياسية. هكذا يجد الحزب الاشتراكي نفسه فجأة في الساعة الحاسمة بحالة عجز تاريخي، وفي ارتباك وانعدام الوحدة تجاه المسائل الحاسمة، لأنه لم يسبق له أن بحث هذه المسائل.
سمة أخرى نجدها في أي حزب انتهازي، وهو تغليب التكتيك على الاستراتيجية، وطغيان المهام القريبة اليومية على البعيدة، أي طغيان الوسائل على الغايات. ونضيف الاستخفاف بالنضال النظري.
"إن هذا النسيان للاعتبارات الكبرى، الجذرية حيال مصالح اليوم العرضية، هذا الركض إزاء الحاجات العرضية والنضال من أجلها دونما حساب لعواقب ذلك، إن هذه التضحية بمستقبل الحركة في سبيل (منافع) الحاضر، إن كل ذلك قد تكون له دوافع "شريفة" أيضاً. ولكن هذه هي الانتهازية. ولعل الانتهازية "الشريفة" أخطر الانتهازيات" 94
إن الجمهورية الديمقراطية هي شكل الدولة الأنسب لنضال البروليتاريا السياسي، وفضلاً عن ذلك "لا يقف انجلس موقف عدم الاكتراث من مسألة أشكال الدولة، يحاول بالعكس أن يحلل بأقصى الدقة الاشكال الانتقالية عينها، لكيما يحدد في كل حالة خاصة حسب الظرف التاريخي الواقعي، انتقال من أي شيء إلى شيء يمثل هذا الشكل الانتقالي المعين" 96 لقد ثمّن انجلز الدولة الاتحادية في ألمانيا كشكل انتقالي نحو دولة موحدة تماماً. ولا ينبغي الرجوع إلى الوراء "بالثورة من أعلى" (التي أنجزها بسمارك) سنوات 1866-1870 بل إتمامها بـ “حركة من أسفل" أي بحركة شعبية.
وحركة توحيد ألمانيا هي عملية اتحاد مجموعة من الولايات في إطار دولة قومية تمت رسميا في 18 يناير 1871 في قاعة المرايا بقصر فرساي في فرنسا (إذلالاً لهذا البلد المحتل) بدفع من رئيس الوزراء الألماني آنذاك أوتو فون بسمارك. توافد أمراء الولايات الألمانية على القصر ليعلنوا فلهلم الأول ملك بروسيا امبراطور الإمبراطورية الألمانية بعد استسلام فرنسا في الحرب الفرنسية البروسية. يمثل توحيد ألمانيا في 1871 لحظة واحدة فقط في عمليات التوحيد التي شهدتها الولايات الألمانية فيما بينها والتي دامت أكثر من قرن قبل الإعلان الرسمي في 1871 بسبب الفوارق الدينية واللغوية والثقافية بين سكان البلاد الفدرالية الجديدة." (الموسوعة الحرة)
إن ماركس شأنه شأن انجلس يدافع من وجهة نظر البروليتاريا والثورة البروليتارية عن الجمهورية الديمقراطية المركزية الموحدة كأفضل بيئة لنضال البروليتاريا السياسي. فليس هناك من شك في أن المانيا الاتحادية شكلت بيئة أنسب كثيراً لنضال البروليتاريا الألمانية السياسي، لآنها قربت من عمال الولايات وجمعت نضالاتهم معاً. إن البيئات الكبيرة الموحدة أفضل كثيراً لنضال البروليتاريا السياسي من البيئات المجزأة. بهذا الشكل تشكل وحدة الأقطار العربية بيئة مناسبة أكثر لنضال البروليتاريا العربية السياسي من واقع تجزئة هذه الأقطار. والملفت لنظر الباحث في تجربة السنوات العشر الماضية في المنطقة العربية أو ما سمي "الربيع العربي"، أنه كلما تأزّمت النظم القطرية العربية وتشرذمت وتصدّعت، كلما بان في خلفية المشهد الجغرافيا السياسية الموحّدة للمنطقة العربية، كالمرج يبين حين يذوب الثلج مع شروق الشمس.
يرى انجلس شانه شأن ماركس في الجمهورية الاتحادية انتقالاً من الملكية إلى الجمهورية المركزية، خطوة إلى أمام، في ظروف خاصة معينة، وبين هذه الشروط الخاصة ترد مسألة الوحدة القومية.
إن تجزئة سوريا إلى دويلات بحجة "الديمقراطية الليبرالية" وبقوة الوجود الأميركي العسكري، ليس في صالح نضالات الطبقة العاملة السورية، ولا يخدم قضية تطوير النضال السياسي عامة. الفدرالية في سوريا خطوة إلى الوراء ونكوص من الجمهورية الديمقراطية المركزية إلى جزر فدرالية ضعيفة ومشوهة تفقر بيئة النضال السياسي الديمقراطي.
إن نضال ماركس وانجلس في سبيل جمهورية ديمقراطية مركزية، جعلهما يثمنان أي جهد اتحادي قومي، ويعتبرانه "خطوة إلى الامام". في إشارة صريحة إلى اهتمامهما بالمسألة القومية. ولكن يتوجب علينا عدم فهم المركزية الديمقراطية قط بالمعنى البيروقراطي (إصدار الأوامر من أعلى، من المركز دون مراعاة الخصوصية المحلية)، الذي يعطيه البورجوازيون ومنهم الصغار لهذا المفهوم. المركزية في نظر انجلس لا تنفي بتاتاً "الإدارة الذاتية المحلية ذات الطابع الواسع"، بشرط رئيس هو دفاع هذه "الإدارة الذاتية عن وحدة الدولة ".
الإدارة الذاتية التامة في المحافظة أو المقاطعة، في القضاء أو البلدية عن طريق موظفين ينتخبون على أساس حق الانتخاب العام، مع الغاء جميع السلطات المحلية وسلطات المحافظات التي تعينها السلطات المركزية للدولة.
إن الزعم بأن الجمهورية الاتحادية تعني حتماً حريات أوفى من الجمهورية الموحدة المركزية، قد دحضه انجلس "بالوقائع التي ذكرها بخصوص الجمهورية الفرنسية المركزية في سنوات 1792-1798" والجمهورية الاتحادية السويسرية " 99 إن مسألة الجمهورية الاتحادية والجمهورية الموحدة المركزية والإدارة الذاتية المحلية، يجب ان تكون موضع اهتمام الحزب الاشتراكي الماركسي.
ثمة ملاحظة أعطاها انجلز في تقديمه لكتاب ماركس "الحرب الاهلية في فرنسا" سنة 1891 وهو يتحدث عن الدولة، تتعلق بالدين. يقول لينين: فمن المعروف أن الاشتراكية –الديمقراطية الألمانية بمقدار ما كانت تتفسخ وتوغل في الانتهازية كانت تنزلق أكثر فأكثر نحو تأويل خاطئ مبتذل للصيغة المعروفة: "إعلان الدين قضية شخصية". فهذه الصيغة كانت تؤول بشكل يبدو منه أن الدين قضية شخصية حتى بالنسبة لحزب البروليتاريا الثورية!!"
الحزب الثوري شخصية اعتبارية وذات تاريخية (أمير حديث) لتحقيق مهمات الطبقة البروليتارية في الانتقال التاريخي من النظام البورجوازي إلى الاشتراكية، لا يجوز أن يكون له دين بالمعنى اللاهوتي. إن علمانية الحزب الاشتراكي الثوري ضرورية بمقدار علمانية الدولة الاشتراكية التي سوف يحققها. لا يجوز أن يكون لدولة اشتراكية ديمقراطية دين لاهوتي، كذلك الحزب الثوري. أما إذا أراد بعض أفراد حزب الاحتفاظ بوجدانهم الديني فهذه قضية شخصية، مثل رغبة قطاعات اجتماعية الذهاب إلى الجامع يوم الجمعة وإلى الكنيسة يوم الاحد، طالما أن هذا التدين لا يقحم نفسه في الصراع السياسي. إن علمانية الحزب البروليتاري قضية حاسمة لجهة مهماته الديمقراطية. لا يمكن لدولة اشتراكية أن تكون ديمقراطية حقاً ومتمذهبة أو مؤدلجة بنفس الوقت، الدولة الاشتراكية العلمانية هي دولة لجميع المواطنين، لجميع السكان من دون تمذهب مهما كان شكله ديني أم عقائدي. والحزب الثوري لديه إيمان واحد هو إيمانه ببرنامجه وبمهامه التاريخية المطروحة عليه. لقد أعلنت الكمونة "أن الدين بالنسبة للدولة هو مسألة شخصية بحتة"، لقد صوب انجلز سهامه إلى عين الانتهازية الاشتراكية الألمانية "التي أعلنت الدين قضية شخصية بالنسبة للحزب". وهبطت بهذا الشكل بحزب البروليتاريا الثورية إلى مستوى الابتذال البورجوازي الصغير. هذا البورجوازي الصغير "المفكر الحر" الذي يتكرّم بالتسليم بإمكان وجود المرء خارج نطاق الدين، ولكنه يتخلّى عن مهمة النضال الحزبي ضد "أفيون الدين" الذي يُخبّل الشعب.
يقول لينين كلاماً هاماً بخصوص تاريخ افلاس الاشتراكية الديمقراطية الألمانية مفاده: "إن مؤرخ الاشتراكية-الديمقراطية الألمانية في الغد، عندما يحلل سبب إفلاسها المشين في سنة 1914، سيجد كثرة من المستندات الهامة حول هذه المسألة، ابتداء من تصريحات التهرب التي تفتح الباب على مصراعيه أمام الانتهازية، التصريحات الواردة في مقالات الزعيم الفكري لهذا الحزب كاوتسكي." 103
يقول لينين: "تطوير الديمقراطية حتى النهاية والبحث عن أشكال هذا التطور والتحقق منه عملياً، كل هذا هو مهمة من المهام الأساسية في النضال من أجل الثورة الاجتماعية (الاشتراكية). فما من ديمقراطية إذا أخذت على حدة (معزولة عن النضال الاشتراكي) تعطي الاشتراكية، ولكن الديمقراطية في الحياة لا تؤخذ معزولة، "بل تؤخذ مع المجموع" (أي تؤخذ المهام الديمقراطية في علاقته بالمهام الاشتراكية)، وتؤثر تأثيرها على الاقتصاد، وتدفع تحول هذا الاقتصاد ايضاً وتخضع لتأثير التطور الاقتصادي." فلا يمكن مثلاً الحديث عن ديمقراطية حقاً في ظروف احتكار القلة لملكية وسائل الإنتاج وافقار غالبية السكان. إن أي إجراء اقتصادي له تبعات مباشرة على الحياة الديمقراطية، كتحويل ملكية وسائل الإنتاج من ملكية خاصة إلى ملكية عامة، حتى لو كانت ملكية الدولة الاشتراكية. هذا هو ديالكتيك التاريخ الحي الفعلي. والدولة حتى في أحسن الحالات (كالزواج البورجوازي) "شر لا بد منه" ترثه البروليتاريا المنتصرة، شأنها في ذلك شأن الكمونة، ستضطر إلى بتر أسوأ جوانب هذا الشر في الحال حتى يحين ذلك الوقت الذي يستطيع فيه جيل تربّى في ظروف اجتماعية جديدة حرة أن يطرح "عفش" الدولة بكاملها فوق كوم النفايات. إن تجاوز الديمقراطية واضمحلالها تعني بالضبط اضمحلال الدولة كسلطة منظمة لممارسة الاكراه من قبل طبقة على باقي الطبقات. لأن الديمقراطية هي شكل تاريخي لسلطة سياسية، ويجب ألا تخلط مع مسألة الحريات والحرية. إن تسمية "شيوعي" تناسب حزب يسعى إلى "تجاوز الديمقراطية"، أكثر من تسمية اشتراكي-ديمقراطي. مع أن أسماء الأحزاب السياسية الحقيقية، لا تنطبق عليها كامل الانطباق (كما يشير انجلس). فالحزب يتطور باستمرار (كتطور الفرد)، بينما يبقى الاسم.
الديمقراطية هي خضوع الأقلية للأكثرية، لأنه لا ديمقراطية من دون الاعتراف بهذا المبدأ. الديمقراطية وخضوع الأقلية للأكثرية ليسا بالشيء ذاته. الديمقراطية هي دولة تعترف بخضوع الأقلية للأكثرية، لكنها عملياً هي منظمة للعنف تستخدمها طبقة (أقلية) من أجل اخضاع باقي السكان. إن الهدف النهائي للانتقال من الاشتراكية إلى الشيوعية هو القضاء على الدولة، على الديمقراطية، القضاء على هذا النفاق، على هذا الخداع الاجتماعي السياسي. أي على كل عنف منظم دائم حيال الناس بشكل عام. وهنا سوف تلعب التربية والعادة دورهما الجيد والإنساني في التاريخ، وستكونا عضداً فعلياً للشيوعية المظفرة. ولإيضاح ذلك يقتضي الامر بحث مسألة الأسس الاقتصادية لاضمحلال الدولة.