-التخلف والتنمية- - عرض الباب الخامس؛ السيطرة الوطنية على التنمية
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7797 - 2023 / 11 / 16 - 10:25
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
"التصنيع حادث سياسي، وهو الوعي بالتخلف والتبعية "
في عصر الامبريالية، وعلى مدى مائة عام، تبين بالتجربة التاريخية، أنه لا يمكن للتنمية أن تولد إلا بعمل واع ومدروس ومنظم، لأجل السيطرة على الصيرورة الاقتصادية الاجتماعية.
إن التنمية كعمل واع ومنظم تقوده دولة وطنية ذات إرادة مناهضة للشرط الامبريالي، وللعلاقة الامبريالية، تطرح مسألة وطنية النظم في العالم المتخلف بشكل جوهري وحاسم.
لا يمكن للوطنية أن ترفع رأسها إلا عبر مناهضة الشرط الامبريالي الذي هو شرط محبط للتنمية الحقيقية في بلد متخلف. إن الموقف الحازم من الامبريالية وسياساتها أمر حاسم في هذا الشأن.
هذه السيطرة على عملية التنمية هي حصيلة إرادة وطنية؛ إرادة طبقات مناهضة للإمبريالية. وهي تغيير عميق في أساليب العمل والوجود والتفكير.
إن الوضع الدولي الحالي عبر الصراع الدولي الراهن بين النظام الامبريالي بقياد الولايات المتحدة الأميركية من جهة وبين الصين الصاعدة وروسيا من الجهة الاخرى، وضع موات للنضال الوطني من أجل التنمية. وكنا قد كتبنا مقالة موحية في هذا السياق عنوانها: "فك الارتباط المعكوس ونهاية التخلف" (صعود الصين) يمكن الرجوع إليها في موقع الحوار المتمدن.
إن التحالفات الدولية المواتية مفيدة بالتأكيد، لكنها لا تغني عن العمل الوطني والإرادة الوطنية.
إن التنمية هي فعل طبقي-سياسي تاريخي بامتياز، بالتالي لا يمكن ان تكون نتاج إدارات تقنية عالية الكفاءة. إن الامر الحاسم هو سيطرة طبقة تقدمية على سلطة الدولة، وإعادة توجيه الاقتصاد والسياسات الاقتصادية توجيهاً شعبياً بقوة هذه السيطرة (سلطة الدولة). هذا يخلق حميّة قادرة على استقطاب تطلعات الشعب نحو التقدم. إن تأهيل الأشخاص والكوادر السياسية، وتجديد العقلية عبر عمل واع منظم ومثابر، يحتل مكاناً هاماً في مبادرة التنمية. التنمية صنيع شعب أعطي فرصة تاريخية للخروج من حلقة التخلف، وهذا بحاجة إلى سيطرة طبقية تقدمية وقيادة تاريخية تشرف على مجمل العملية التنموية. إن مثال الصين واضح.
وعلى هذا فالتنمية هي قبل كل شيء عمل سياسي، وتأكيد للإرادة الوطنية في التقدم، ولا يمكن تصورها دون تغيير عميق وأساسي في المجتمع. إن سر غياب التنمية يكمن في طبيعة الطبقات المسيطرة على سلطة الدولة، والتي هي طبقات اقطاعية وبورجوازية على امتداد ما يقارب مائة عام من تاريخ الأقطار العربية.
"لقد تحقق النمو الاقتصادي في القرن التاسع عشر دونما تدخل كثيف من الدولة". وفيما عدا اليابان، حيث لعب الامبراطور ميجي دوراً حاسماً، وألمانيا حيث لعب بسمارك دوراً، فإن الافراد المدخرين والمنظمين كانوا الفاعلين الرئيسيين للثورة الصناعية (1750-1850)" 139
وقد يعتقد القارئ وفق صياغة كهذه، أن الدولة على الاطلاق تلعب هذا الدور، وهذا تضليل كبير، خاصة وأن للدولة طبيعة طبقية؛ حسب الطبقة المسيطرة على سلطة الدولة.
في القرن التاسع عشر لعبت البورجوازية التي صعدت إلى السلطة دوراً تقدمياً في انجاز عملية التنمية والتطور الصناعي. وقد تأخرت ثلاثة بلدان في انجاز الوحدة القومية والتنمية هي إيطاليا، وألمانيا واليابان التي كانت موحدة لكنها اقطاعية ومتأخرة. وقد جرت عملية التنمية والتطور الصناعي والتحديث عبر تسوية تاريخية بين الاقطاع الذي بقي قوياً والبورجوازية الضعيفة. وقد حصل كل ذلك في الثلث الأخير للقرن التاسع عشر (1860-1880) على وجه التقريب. أما في اليابان وعبر إصلاح ميجي 1867-1882 فقد جرى إعادة توجيه للطبقة الاقطاعية، حيث باعت الدولة الإمبراطورية الملكيات الكبيرة للإقطاعيين إلى الفلاحين بسندات دين، يسددها الفلاح المشتري لقطعة الأرض للإقطاعي، وبهذه الأموال استطاعت الطبقة الاقطاعية التحول إلى طبقة صناعية بورجوازية.
ومع تطور الظاهرة الامبريالية في الرأسمالية (1870-1900) وسيطرة الاحتكارات في البلدان الرئيسية، باتت البورجوازية طبقة رجعية في الأيديولوجيا والسياسة، وراحت تحارب أي نزوع لدى الدول المتأخرة والمتخلفة نحو تنمية وطنية حقيقية. من هنا أخذت البروليتاريا الاشتراكية هذا الدور التقدمي في التنمية في القرن العشرين عبر قيادة ثورتين اشتراكيتين: روسيا 1917، والصين 1949. وقد قادت الدولة الاشتراكية تنمية رأسمالية، ومن هنا أخذت هذه الدولة اسمها في مرحلة الانتقال باسم "رأسمالية الدولة الاشتراكية" تمييزاً لها عن "رأسمالية الدولة البورجوازية" في المراكز الرأسمالية والأطراف.
لكن الدولة على العموم، تلعب في عصرنا دوراً اقتصادياً مسيراً ومنظماً، ليس فقط في البلدان الاشتراكية كالصين مثلاً، ولكن حتى في البلدان التي تدّعي الدفاع عن المشروع الحر (الليبرالي) كالولايات المتحدة مثلاً. إن تدخل الدولة في النمو الاقتصادي بات أكثر من واضح.
لقد أصبحت الدولة بنفقاتها العميل الرئيسي للاقتصاد والشركات الكبرى. إنها أيضا تضع يدها على معظم مراكز البحث والتأهيل، وجميع البنى التحتية للاقتصاد من عملها. وتشارك أيضاً بنسبة لا باس بها في الاستثمار، حسب البلدان.
وهكذا رأت الدولة نفسها منقادة أكثر فأكثر إلى أن تلعب دوراً حاسماً في توجيه الاقتصاد ومن ثم المجتمع، حتى في البلدان الصناعية غير الاشتراكية. مع ملاحظة أن الخطة في البلدان غير الاشتراكية تضعها الشركة الاحتكارية العملاقة وتدعمها الدولة البورجوازية، بينما في البلدان الاشتراكية، تضع الخط الدولة وتنفذها الشركة. وقد يعتقد معتقد أن الدولة الرأسمالية البورجوازية في بلد متطور كالولايات المتحدة ليس لها السلطة العليا على الشركة المفردة، العكس هو القائم، فالدولة تستطيع في ظروف صراع مع دولة أخرى وازنة أن تفرض سياسات حمائية تحرم الشركة من التعامل مع شركات أو دول تعتبرها تهديداً لأمنها القومي. وحتى تستطيع الدولة الأميركية فرض توجيهاتها على شركات غير أميركية توجد في بلدان أوروبا وكندا واليابان طالما النظام الأميركي هو القائد.
إن الحديث عن خطة لتنمية الاقتصاد في بلد متخلف ليس لها أي معنى من دون سيطرة وطنية حقيقية على عملية التنمية، أي من دون سيطرة طبقات لها مصلحة في التنمية وكسر حلقة التخلف. إن وضع الخطط الإحصائية والتقنية من قبل خبراء "التنمية المستدامة" تصبح مع غياب الإرادة الوطنية وكراً للفساد الإداري.
ينبغي عدم الخلط بين إعداد الخطة وبين التخطيط الذي يعني إرادة تنفيذها والسيطرة على الصيرورة الاقتصادية والاجتماعية. المعضلة الأساسية تكمن في طبيعة السلطة السياسية والإدارية الحاكمة وإرادتها؛ قدرتها أو عجزها.
إن الخطة والتخطيط هي قبل كل شيء، خيارات لا يمكن أن تكون مستخلصة من علم الخبراء. والسلطة السياسية هي التي ينبغي أن تتولى التعبير عن هذه الخيارات، وما على الخبراء سوى توضيح اختيار المسؤولين السياسيين بتبيان نتائج جميع هذه الخيارات، وإمكانية التوافق والانسجام فيما بينها أو عدمها. وإذا لم تقرر السلطة السياسية بنفسها هذه الخيارات فلن تكون تعبيراً عن آمال الامة أو الجماعة القومية.
كان للإدارة الاستعمارية شواغل لا تنكر في ميدان التنمية الاقتصادية. ولكنها لم تكن تحرك القوة الفاعلة للسكان لتحقيق مشروعاتها، بل كانت تضعهم تحت الوصاية (الاخضاع التام)
وكان الحفاظ على النظام العام يبدو في الغالب، وكأنه الهدف الذي يحظى بالأولوية. حقاً لا تنمية بلا نظام عام، ولكن هذا النظام لا يخلق تحركاً ولا حميّة. 145
وهنا علينا التمييز بين الهيمنة والسيطرة، حيث السيطرة تفرض بالقوة والاكراه والقهر، بينما الهيمنة قوتها الوحيدة الهائلة هي الاقناع بكافة السبل. لقد خاض محمد وأصحابه مع جماعته القريبة (قريش) ثلاثة حروب، بهدف اقناعها بمشروعه الجديد، وأن المشروع على المدى البعيد هو مشروعها لبناء الدولة الجديدة. وعندما دخل مكة فاتحاً قال قولته الشهيرة: سأقول كما قال يوسف لأخوته: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". واضح أنه يمكن استعمال بعض الاكراه من أجل الاقناع والهيمنة لا حقاً.
وأقول صراحة، لا عملية تنمية في بلد متخلف من دون مشروع للهيمنة الوطنية ووحدة رؤية، إن فشل الهيمنة والانتقال إلى الاكراه المباشر للسكان يعني بالضرورة فشل عملية التنمية، وانتقال السكان إلى السلبية والعزوف عن التنمية وفعالياتها. إن تجربة التحديث السوفياتي، خاصة التجميع القسري في الزراعة بداية ثلاثينيات القرن العشرين، ذات دلالة حاسمة. إننا نستطيع أن ننسب للديمقراطية والحريات العامة هنا دوراً إنتاجياً، وأن الدكتاتورية الكلية أو الشمولية مؤشر على فساد عام يتلطى خلف الاستبداد وينخر البنية الاقتصادية الاجتماعية، ولا يترك خلفه سوى المرارة والنقمة والسلبية والعزوف عن المشاركة في الحياة العامة، ويفلّ الحس الوطني ويشتت الانتماء للجماعة الوطنية.
في سبيل التغلب على الهويات المحلية القائمة، وتعزيزاً مستمراً للهوية الوطنية خلال عملية التنمية، وفي بلد متخلف، ينبغي ألا توضع حدود الأقاليم الإدارية، بدلالة الماضي وحده، ولا بدلالة ما هو قائم وحده، بل بدلالة المستقبل. من الضروري أن يكون الإقليم مندمجاً في منظور المستقبل الوطني والتنمية الاقتصادية الاجتماعية.
لقد برهنت التجربة أن دمج الهياكل التقليدية في عملية التنمية أولى من إنكارها وقمعها. ولا بد من وجود أواصر وصلات بينها وبين الإدارة الحديثة، بحيث يسهل الامر تعبئة الطاقات وتطوير الهيئات التقليدية في النهاية. وهذا الامر ينطبق على الأحزاب السياسية والنقابات الإقليمية وجميع الروابط المنظمة الأخرى.
مما لا شك فيه أن تنمية وطنية حازمة تحتاج إلى إيديولوجية مهيمنة غالباً ما تكون اشتراكية ماركسية في وقتنا، على أن تكون مبطنة بوطنية حازمة ومعززة بمكافحة جدية للفساد الإداري ومناهضة للإمبريالية. فالفساد الإداري كعث الخشب بالنسبة للوطنية الحازمة. يستخدم الكاتب كلمة اسطورة قومية، والمقصود منها إيديولوجية مهيمنة (وطنية -اشتراكية)، خاصة وأن تجارب التحديث الوطني في مصر وسوريا والعراق، والتي اعتمدت على إيديولوجية قومية كانت تصبغ نفسها بشكل خادع باشتراكية عقائدية ذات شعارات طنانة، أعطت نتائج عكسية وولدت ردود فعل سلبية تجاه المسألة القومية والوحدة القومية العربية، وتجاه الاشتراكية الماركسية، الاشتراكية حقاً. إن تحرك اشتراكي ماركسي ذو بطانة وطنية، سوف يقتضي بالضرورة إعادة طرح المسألة القومية العربية من جديد وبشكل تاريخي وجاد، وفي خطوات مدروسة وملموسة. إن الوطنية حقاً هي المقدمة الحقيقية لطرح فعال للمسألة القومية العربية وحلها لاحقاً. وستظهر القومية لا على شكل حركة رجعية، بل هي شرط للحركة وأفق لها في البلدان العربية.
إن وحدة القرار في عملية التنمية حاسمة، ما يفرض في كثير من الحالات ظهور نظام للحزب الواحد، وهذا لا يعني التسرع والحكم عليه بانه دكتاتورية سياسية رجعية. إن مثال الصين في حكم الحزب الواحد (الحزب الشيوعي) واضح. لقد ثبت فشل الليبرالية والنظام البرلماني البورجوازي في قيادة تنمية وطنية، باستثناء البلدان التي جرى تصنيعها بدوافع سياسية وبدعم أمريكي وإمبريالي واضح لمواجهة المد الشيوعي، مثال بعض بلدان جنوب شرق اسيا.
يقول الكاتب معززاُ الفكرة: هذه الحاجة إلى وجود سلطة قوية واندفاع قومي، دفعت إلى ظهور نظام الحزب الواحد في عدد غير قليل من البلدان المتخلفة. إن ادخال النظام البرلماني في بلدان العالم الثالث لم يؤد في الغالب، إلا إلى خلق شبكة زبن انتخابية لصالح عدد من العائلات الكبيرة والمتنفذين."
إن تجربة الحزب الواحد في النظم البورجوازية العربية، كانت خادعة بتشبهها بالأحزاب الشيوعية، وهي أحزاب بورجوازية صغيرة، تفسخت مع أقرب وقت وتحولت إلى مجموعة من المضاربين.
يقول الكاتب: إن تنمية العالم الثالث تفترض السيطرة على الصيرورة الاقتصادية الاجتماعية بمجملها. وبمعزل عن كل تأثير روسي أو صيني (اشتراكي) فإن أوضاع العالم الثالث ثورية. فلا تنمية بدون مواجهة مع القوى المحافظة الداخلية والخارجية. ولا تنمية من دون مجابهة بالقوة والعنف. ولا قوة في هذه البلدان من دون وعي وتنظيم للقوى. وهنا يمكن أن يلعب الجيش، وهو القوة المنظمة الوحيدة على المستوى القومي (الوطني)، في معظم الأحيان، دوراً حاسماً في عدد غير قليل من بلدان العالم الثالث. ولكن لسوء الحظ، إذا كان الجيش قادراً على الاستيلاء على السلطة، إلا أنه من النادر أن يكون قادراً على أن يصير جيشاً شعبياً وأداة للتحرر الاقتصادي الاجتماعي. إن تجربة الجيش في السلطة بعد الحرب العالمية الثانية أدت إلى نتائج محبطة، وأعطت انطباعاً سلبياً حول دور الجيش السياسي ودوره في التنمية خاصة.
أخيراً أقول مع الكاتب: إن التنمية هي سيطرة أكثر وعياً وتنظيماً لجماعة من البشر على مصيرها، فهي بالضرورة أبعد من عالم الاقتصاد، وهي ذات أهداف وغايات عليا، ولا يمكن أن تفصل عن مدلولها الحضاري والتقدمي، ومن هنا فإن التنمية هي فعل سياسي بأرفع معاني هذه الكلمة، أي فعل سياسي-تاريخي.