في مسألة الروح والذاكرة
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7746 - 2023 / 9 / 26 - 15:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أما وقد افتتحت النقاش أيها الصديق العزيز حول فيديو "مركبات الريح" حيث يظهر فيه أُمبرتو إيكو وهو يتحدث عن الذاكرة والروح، ولكونك بدأت الحوار والسؤال بآية من القران الكريم فأقول: قرآن تعني: قرّ الآن، ثبت وخيّم وأقرّ. وقرّ: تعني التلقين، أي صبُّ الكلام في الاذن مع الإقرار في الآن نفسه. هو تلقين مع إقرار. وأنت استشهدت بالآية (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الاسراء: 85]
"الروح الأمين" هو أمر الكون الجديد، والإسراء هي سورة "بني إسرائيل" في تفسير ابن عربي، وهو سجال بين يهود مكة والنبي محمد. حيث يجيب النبي على "سؤال الروح": إنّه أمر تاريخي وعقل تراكمي يُعاد انتاجه وفق مقتضيات العصر. فإذا كان اليهود قد أوتوا الكتاب أي التوراة، فإن أوامر محمد وعصره التي لا يعرفها أحبار بني إسرائيل والتي تجاوزتهم تفسر قوله: وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، لأن كمال العلم يكون بمحمد لا بموسى، فلا دعوة تاريخية وعمل وممارسة تاريخية سياسية من دون كمال علم. وأنتم يا بني اسرائيل ليس لديكم عمل ولا فعل تاريخي، بالتالي لم تحصلوا على كمال العلم. والدليل قول القرآن الكريم: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِين[الأعراف:143]
والذي أفاق موسى من نومه وأرجعه إليه هو محمد في ظهوره ودعوته الاجتماعية التاريخية، حيث كان موسى أول المؤمنين بدعوته التائبين إليه العائدين. أقول لكم: الروح من أمر ربي، فإذا وقع الامر في النفس بات روحاً. والروح هي أوامر العصر مشخصة بصاحب الدعوة الاجتماعية التاريخية، بالتالي هي دعوة معاصرة، أي مستوعبة لعلوم العصر الاجتماعية التاريخية. إن أوامر عصر الامبريالية لم تكن حاضرة في وقت ماركس، لأن تبلور الظاهرة الامبريالية جاءت بعد موته مباشرة. أي في الفترة (1880-1900) وهي الفترة التي بدأ فيها لينين عمله الاجتماعي التاريخي.
كأنّي بمحمد النبي يقول لهم: أنتم أيها اليهود تسألون عن الروح ولا تعرفون شيئاً عن الأوامر الاجتماعية التاريخية التي نزلت واستجدت بعد عهدكم "العهد القديم"، لقد استجد الأمر ونزل "عهد جديد" جئتُ (أنا محمد) لأتممه. أنتم تعلمون القليل وأنا صاحب الدعوة المعاصرة كامل العلم وصاحب تكملته؛ أي العمل والدعوة العملية الاجتماعية التاريخية لبناء دولة للعرب ودين جديد للعالمين. كذلك قعل لينين للبروليتاريا الروسية، بتأسيس دولة اشتراكية جديدة، وفعل ماو ذلك كذلك للشعب الصيني.
أما بخصوص الذاكرة والذِكْر فيقول القرآن الذي هو تلقين وإقرار في الآن عينه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]
ويلاحظ أن الآية تستخدم الضمير (نحن)، فالذاكرة تراكمية جمعية وعقل فعّال، لا ذاكرة فرد بعينه فحسب، بل ذاكرة البشرية جمعاء. ونحن له حافظون، فلا يكون لأحد من الافراد أن يحيط بهذا الذِكْر إلا الله، حيث قوله في سورة الاخلاص: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) [الاخلاص: 1]. والرقم (9) لآية الحِجْر، إشارة إلى التخمير والستر، حيث "الباب التاسع" من ديوان أبي نواس هو باب الخمريات؛ باب الخمر والستر والصون والحفظ، ليس من الفناء فحسب، بل ومن الاستراق والتحريف، لأن جاهلاً لا يستطيع تحريف عبارة عالم ولو فعل ذلك لما استطاع. جاء في سورة الحِجر أيضاً: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) والآيات هي على التوالي (7، 8، 9 بالجمع الافقي) وهي النظرية، والممارسة العملية، والحفظ والصون من الاستراق والتحريف. وهي مبادئ أساسية في كل دعوة تاريخية للتغيير الاجتماعي.
أما قول أُمبرتو إيكو في "فيديو" "مركبات الريح"، من أن دانتي في الجزء الثاني من (الكوميديا الإلهية: الفردوس أو باراديسو) يقدم الله على أنه كتاب كبير هو مكتبة المكتبات، أي أنه محيط بجميع المكتبات فيتقاطع مع قولنا: لا يكون لأحد أن يحيط بهذا الذِكْر للبشرية إلا الله الاحد، الفرد الصمد. وعليك أيها القارئ أن تتنبه إلى أن الله الاحد يحيط بالذِكْر، أي أنه سيد الذِكْر وحاكمه وصاحب الامر التاريخي، أي هو الحافظ للذِكر البشري والامر أمره، اي هو صاحب الامر والنهي، هو المؤسس لمرحلة تاريخية جديدة وزمن جديد.
وسورة الحِجْر هي السورة 15 (6) في مصحف عثمان وعدد آياتها 99 (9) وهي مكية ما عدا الآية 87 (15) فهي مدنية.
تبدأ السورة بحروف مقطعة (الر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ)، والحِجْر هي مساكن ثمود قوم صالح المعروفة قديمًا بمدينة الحِجر. وهي عاصمة العرب النبط.
(ألر): على قول ابن عباس: "أنا الله أرى". وعلى قولنا: أن (ر) تأتي في (أبجد هوز) بعد (ق)[قر-شت] أي تعني أنه بعد أن قرّ القرار، وتمت الاستجابة والإقرار لأمره أمر العصر جاء قوله: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق: 1] وسورة العلق وهي مكيّة بإجماع، وهي أول ما نزل من القرآن، وهي تسع عشرة آية. كان أمر القرء والقراءة بداية الدعوة والعمل الاجتماعي التاريخي العظيم. (الر) كناية الهبوط من سماء النظرية والعلم إلى أرض العمل والممارسة التاريخية-السياسية.
جاء في مادة (حجر) في معجم مقاييس اللغة لابن فارس قوله: (حجر): الحاء والجيم والراء أصل مطَّرد، وهو المنع والاحاطة على الشيء. فالحَجْر: حجر الانسان، وقد تكسر حاؤه: حِجْر. والعقل يسمى حِجْرأ لأنه يمنع من إتيان ما لا ينبغي. كما سمي عقلاً تشبيها بالعقال.
ةالحَجَر: معروف (ومنه الحجر الأسود المقدس. وله حِجْر هو البيت الحرام الذي بمكة). والحِجْر: هو حطيم مكة، هو المُدار بالبيت. والحِجْر: الحرام. وفي الأشهر الحُرم يقول الرجل للرجل: حِجْراً؛ أي حرماً. والله أعلم. ومِحْجر العين: ما يدور بها، وهو الذي يظهر من النقاب (الخِمار)
راجع ابن فارس: (م. م اللغة ج2 ص 138-139)