الثورة البروليتارية والثورات من النموذج -العتيق-*
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7770 - 2023 / 10 / 20 - 08:13
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
أما وقد سألت أيها الصديق العزيز عن ملابسات وغموض بعض فقرات الفصل المذكور أعلاه، في القسم الرابع (IV) من "تاريخ الحضارات" لـ جان جاك غوبلو أقول:
الثورات من النموذج "العتيق" هي الثورات ما قبل الثورة البروليتارية، خاصة الثورات البورجوازية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعلى رأسها الثورة الفرنسية الشهيرة 1789. لكن الثورات "العتيقة" لا تقتصر على البورجوازية فهناك ثورات أقدم كثورة العبيد في روما بقيادة سبارتاكوس، وثورة الزنج "الشيعية" في منتصف القرن الثالث الهجري ضد الدولة العباسية، وثورة عرابي ضد الغزو البرطاني 1882، وثورة 1919 في مصر، وثورة الفلاحين في ألمانيا في منتصف القرن السادس عشر ضد الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وثورة الديسمبريين في روسيا في الربع الأول من القرن التاسع عشر. كلها ثورات "عتيقة" لأن الثورة البروليتارية تتميز عنها بسمتين بارزتين هما: التنظيم السياسي والوعي المفارق لوعي الطبقات السائدة أو الوعي الطبقي التاريخي. لا شيء يشبه الثورة البروليتارية الاشتراكية كما حصلت في روسيا تحت قيادة البلاشفة سوى "الثورة" المحمدية في القرن السابع الميلادي وتحويل النظام القبلي وبناء دولة لجميع العرب لأول مرة في تاريخهم.
وبالرغم من وجود الفروق المذكور أعلاه بين الثورة البروليتارية الاشتراكية وبين ما سبقها من ثورات، خاصة الثورات البورجوازية، إلا ان الثورة الاشتراكية البروليتارية مشروطة بالتطور الرأسمالي المركّب بفعل اختلاف درجة تطور اقطاره، وحدود التطور الرأسمالي عامة. أي مشروط بخصوصية البلد الرأسمالي الواحد وتميزه، ضمن إطار التطور المركب، وبعمومية الوضع الرأسمالي، أي أعلى حد بلغه التطور الرأسمالي إجمالاً.
إن عبارة "التطور المركب" تعني بالضبط أن البورجوازية في بلد متأخر كروسيا القيصرية عشية الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية، هي عاجزة تاريخياً وبنيوياً عن انجاز الثورة الديمقراطية البورجوازية (المهام الديمقراطية) على عكس زميلاتها في أوربا الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأنه بالتالي يتوجب على البروليتاريا الاشتراكية قيادة هذه المهمات حتى تحقيقها، وعدم الوقوف عندها بل اتمامها وتكملتها بمهمات اشتراكية مطروحة وملحة. هذا الوضع المركب هو ما واجهته الثورة الاشتراكية الروسية بقياد البلاشفة. وما واجهته الثورة الصينية بقياد الحزب الشيوعي الصيني.
إن إعاقة الرأسمالية للتقدم الاجتماعي والاقتصادي في أغلب بلدان العالم، خاصة بعد انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا وما ولدته من أزمة عامة للرأسمالية بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، جعل من مسألة التقدم الاجتماعي ضرورة، ترتدي اليوم في عصر الازمة العامة للرأسمالية، طابعاً "كلياً" وكونياً ولا يمكن مقاومته. وكما قال لينين: الشيوعية تندفق من كل نقاط الحياة الاجتماعية" والثورة الاشتراكية هي أمر اليوم على النطاق العالمي. أي بكلام آخر: لم تعد الثورات البورجوازية "العتيقة" ذات بال بعد اليوم فيما يخص مسألة التقدم الاجتماعي والتطور الصناعي. لقد دخلنا عصر الثورات البورجوازية الديمقراطية "الحديثة " التي تقودها البروليتاريا الاشتراكية بفعل قانون التطور المركب السالف الذكر. وهذا لا يفترض أبداً أن تقدم العمل الاشتراكي يحصل بصورة أوتوماتيكية وقياسية ومتزامنة في عدة أقطار أو أنه العمل الوحيد على حائط التاريخ. إنه عمل متفاوت جداً ومركب بطبيعة تطور الرأسمالية محلياً وعالمياً.
فطالما أنه لا توجد رأسمالية خالصة، كذلك لا توجد ثورة بروليتارية خالصة على صعيد المشاركين فيها، كذلك كانت الثورة الفرنسية والثورات البورجوازية عموماً، فهي عبارة عن تحالف لعدة طبقات.
وكون البروليتاريا طبقة كونية (عالمية) وتأخذ موقعاً حاسماً في عملية الإنتاج الرأسمالي، وهي طبقة تمتلك بالقوة إمكانية الهيمنة (كالبورجوازية) لأن لكل منهما نمط انتاج يميزه، فهي المرشحة لقيادة التحرك الديمقراطي، وهذا الدور بالقوة وليس بالفعل، وهي لذلك تحتاج إلى عمل تنظيمي وسياسي واع وتاريخي حتى تستطيع لعب هذا الدور المهيمن والقيادي.
بعد هذا الاستعراض للطبيعة المميزة للثورة البروليتارية واشتراطاتها الرأسمالية والتاريخية، يتحدث الكاتب عن تحليل لينين لدور الفلاحين في الثورة الديمقراطية سنة 1907، حيث يتحدث عن "ثنائية حال ودور الفلاحين" حيث أن الفلاحين كطبقة لهم دور في الثورة الديمقراطية البورجوازية فيما لو تمت تحت قيادة البورجوازية، ولهم دور مختلف أكثر جذرية وأكثر ثورية في تحركهم تحت قيادة الاشتراكية البروليتارية.
يكتب ماو تسي تونغ في مقالته الهامة "في التناقض" 1937: " إذا نظرنا إلى عملية الثورة الديمقراطية البورجوازية في الصين، التي بدأت بثورة 1911 (بقيادة صن يات صن) وجدنا لها أيضاً مراحل خاصة متعددة. فالثورة في فترة قيادة البورجوازية لها والثورة في فترة قيادة البروليتاريا لها تتمايزان على الأخص، كمرحلتين تاريخيتين مختلفتين اختلافاً كبيراً. ذلك أن القيادة التي مارستها البروليتاريا غيرت وجه الثورة (الديمقراطية البورجوازية) بصورة جذرية وأدت إلى ترتيب جديد في العلاقات الطبقية، وإلى انطلاق عظيم في ثورة الفلاحين، ومنحت الثورة الموجهة ضد الامبريالية والاقطاعية صفة الحزم الذي لا يعرف المهادنة، وجعلت من الممكن الانتقال من الثورة الديمقراطية إلى الثورة الاشتراكية وهلمَّ جرّا" (في التناقض ص 473-475 المختارات المجلد الاول).
ثم يتابع الفصل من الكتاب الحديث عن المشاعات الزراعية الروسية القديمة (ميري أو الملكية الأميرية أو الشريفية باللغة التركية). وكان ماركس قد تحدث عن هذه المشاعات القروية الفلاحية ومصائرها التاريخية في رسائل إلى فيرا زازوليتش قبيل وفاته.
الملكية الشريفية الواردة في الفصل تعني "ملكية أميرية" مع حيازات من قبل الفلاحين تدوَّر قطع الأرض سنوياً، بحيث كل سنة يزرع الفلاح قطعة أرض مختلفة. حيث يعتقد لينين بعد انجاز كتابه "تطور الرأسمالية في روسيا" 1899 بأنها ستتحول ولكن ببطء نحو الشكل الرأسمالي للاستثمار، وأنها في ظروف روسيا نهاية القرن التاسع عشر لن تتحول إلى مشاعة اشتراكية مباشرة، بل سيصيبها التحول الرأسمالي الذي يشمل وقتها كل روسيا. وسوف تحتفظ لأمد بسمات اقطاعية.
إن مصيرها سيتحدد ما أن تقوم ثورة ديمقراطية بورجوازية في شكليها التاريخيين: تسوية بين البورجوازية الضعيفة والطبقات الاقطاعية التي مازالت قوية (طريق التطور البروسي) أو ثورة ديمقراطية بورجوازية التي تكون البروليتاريا قد تمكنت من قيادتها والهيمنة داخلها.
في المجتمع الحديث توجد طبقتان فقط لديهما إمكانية الهيمنة هما البورجوازية والبروليتاريا، وذلك لامتلاك كل منهما نمط انتاج خاص به: النمط الرأسمالي للإنتاج، والنمط الاشتراكي. وهما مرشحتان في روسيا بداية القرن العشرين لقيادة التحرك الفلاحي. وباعتبار أن البورجوازية الروسية ممثلة بحزب الكاديت (الحزب الدستوري الديمقراطي) وهي طبقة ذات أصول اقطاعية، أو بالأحرى هي بورجوازية-اقطاعية على شاكلة أعيان المدن السورية بين الحربين، فسيكون من العبث تخيل قدرتها على قيادة ثورة فلاحية تطيح بالقيصرية وبالمشاعة الروسية (الميرة أو الملكية الأميرية الشريفية) تطالب بالأرض وبالإصلاح الزراعي وتوزيع ملكيات الاقطاعيين. كان حظ الطبقة الثانية (البروليتاريا) في قيادة تحرك ثوري فلاحي هي الأرجح تاريخياً، خاصة وأن الحركة الاشتراكية الروسية كانت أنضج تاريخياً وسياسياً من الحركة البورجوازية الليبرالية الدستورية.
الثورة "من تحت" تعني ثورة طبقات شعبية، تحالف يضم البروليتاريا والفلاحين الفقراء والبورجوازية الصغيرة المدينية في مواجهة جبهية مباشرة تاريخية مع الطبقات الحاكمة. إن قيام ثورة اجتماعية في روسيا مطلع القرن العشرين كان بالنسبة للينين إمكانية فحسب (احتمال) خاصة قبل ثورة 1905 في روسيا. وحتى يتحقق هذا الاحتمال: "الثورة من تحت" كان لا بد من تضافر ظروف فريدة، أشبه ما تكون "بالاستثناء". وهذا التضافر وجد فرصته في اندلاع الحرب العالمية الأولى، ومع إضرابات العمال الروس، وتمرد الفلاحين والجنود بفعل ويلات الحرب وحرماناتها.
إن هذا "الاستثناء" وانتصار الثورة الاشتراكية في روسيا 1917 هو "وحدة القطع" أو تفرد الواقع الروسي، وتركز جدل القطع العالمي عنده (مفردية أو تفرد الوضع الروسي بخصوص تضافر شروط الثورة الاشتراكية). هذا القطع الذي ظهر لنا كأنه "صدفة تاريخية" يخفي وراءه ضرورة عامة هي الوضع الرأسمالي في ظروف الحرب العالمية الأولى والمواجهة الكبرى بين الدول المتقدمة المتنازعة. وضع رأسمالي مولد للإفقار والتفاوت والحروب الدموية حيث تتواجه الشعوب جملة. هذه الضرورة العامة وما يرافقها من قوانين (ميول رئيسية) كقانون التطور المركب والمتفاوت للرأسمالية كنظام كوني وفي أقطارها المختلفة (قانون لا تناسب (تفاوت) التطور الرأسمالي)، يجعل من الضروري أن تنتصر الثورة في بلد بعينه، تجمعت فيه الشروط وتضافرت تاريخياً، بفعل جدل الصراع الدولي. وهذا ما حصل لروسيا سنة 1917. أقول لكم: إن تفرد روسيا في هذا الشأن مكتوب في منطق التطور الرأسمالي الكوني، بحكم عمل قانون (تفاوت (لا تناسب) التطور الرأسمالي) الذي ذكره ماركس. والدليل على أنه مكتوب في المنطق العام للتطور الرأسمالي، هو ظهور هذا التفرد (المفردية) مرة أخرى وتكراره بعد ثلاثين عاما في الثورة الصينية الاشتراكية سنة 1949 بقيادة الحزب الشيوعي الصيني.
نقطة ثانية: أن تضافر الشروط الموضوعية المحلية والدولية غير كاف لانتصار ثورة اشتراكية، إذا لم يترافق مع وجود طبقة "كلية" عندها إمكانية الهيمنة كالبروليتاريا، وحظوظ انتصار الثورة في شطر حاسم منه مقررة من قبل عامل "ذاتي" (ذات تاريخية) أي درجة تنظيم ووعي القوى الثورية، خاصة الطبقة "الكلية" أي التاريخية المهيمنة وتعبيراتها السياسية المنظمة.
في حال عدم توفر هذا العميل التاريخي (الوسيط التاريخي) [هذا البرزخ] للتقدم عبر الثورة الاجتماعية الشعبية (الثورة من تحت)، يبقى الطريق الآخر أو الخيار الاخر قائماً، والذي تحدث عنه غرامشي في "كراسات السجن"؛ أي "الثورة السلبية " أو "المنفعلة" حسب الترجمة العربية أو "الثورة من الأعلى أو من فوق" وهي سلسلة إصلاحات تقوم بها الطبقات الحاكمة استجابة لتطور القوى المنتجة أو لتحولات عالمية كتطور بلدان يفرض تحديات وجودية ومخاطر. واستجابة لضغوط القاعدة الشعبية والطبقات الهامشية التي لا تُحسّ مباشرة وبشكل واضح. ومثال هذه الإصلاحات (الثورة من فوق) اصلاح الفلاحين في روسيا 1861، تحرير العبيد في أمريكا 1863، التنظيمات العثمانية أو الإصلاحات الإدارية 1838-1872 ، إصلاحات محمد علي باشا في النصف الأول للقرن التاسع عشر ، إصلاحات بسمارك 1870 وإصلاح ميجي في اليابان 1867-1882 . ويمكن للقارئ أن يلاحظ أن هذه الإصلاحات قد تمت في القرن التاسع عشر وهي إصلاحات بورجوازية تمت استجابة لصعود الطبقة البورجوازية في بلدان أوربا الغربية واظهارها للتفوق التاريخي عبر نمط الإنتاج الرأسمالي على الأنماط ما قبل الرأسمالية.
ان الثورة الاشتراكية في روسيا عبر تضافر الظروف وتوافر العامل الذاتي (الطبقة الكلية والوعي الطبقي التاريخي والتنظيم) لا يعني أن الثورة البروليتارية سوف تنتصر تباعاً في جميع البلدان وبشكل آلي، بالتالي علينا تسجيل الملاحظات التالية:
1-عدم جعل الثورة البروليتاريا فعلاً اطلاقياً وجبرية تاريخية
2-عدم فصلها ميتافيزيقياً عن الانقلابات الاجتماعية السابقة، وعن السياق العام والخاص للتطور الرأسمالي.
3-دراسة كل حالة بشكل مفصل، دراسة تمايزها واشتراكها مع الثورات الاشتراكية الأخرى، ودراسة خصوصية الاشكال الدنيا للثورة الاجتماعية، كالثورات البورجوازية الصغيرة الفلاحية الديمقراطية التي قامت بإصلاح زراعي وحولت شكل ملكية الأرض لصالح طبقة الفلاحين (انقلاب البعث في سوريا والعراق وثورة الضباط الاحرار في مصر) وقد أنجزت هذا الانقلاب والتحويل في العلاقات الزراعية في الريف تحت شعارات اشتراكية عقائدية بورجوازية صغيرة لكسب طبقة العمال في صفها. يمكن أن نضيف اليها طبقة البازار في إيران والثورة الشعبية بقيادة طبقة البازار البورجوازية الصغيرة والمتوسطة. مع أن الثورة الإيرانية يغلب عليها الطابع السياسي أكثر منه الاجتماعي.
نقطة أخيرة. أقول إن مفهوم الثورة الاجتماعية كما عرفه ماركس في مقدمة كتابه "اسهام في نقد الاقتصاد السياسي" 1859، يجب هو أيضاً (التعريف) ألا يعامل كأنه مقولة فوق –تاريخية. الثورة الاجتماعية تنقلنا من نمط انتاج سائد إلى آخر متقدم عليه. (الثورة الفرنسية نقلت المجتمع من النمط الاقطاعي إلى النمط الرأسمالي البورجوازي للإنتاج)، والثورة الروسية نقلت المجتمع من النمط الرأسمالي البورجوازي إلى النمط الاشتراكي، مع وجود تركيب في فترات الانتقال، كأن تقود الدولة الاشتراكية تطوراً رأسماليا (رأسمالية الدولة الاشتراكية بالتقابل مع رأسمالية الدولة البورجوازية أو رأسمالية الدولة الامبريالية). مع أن هذا التركيب في المهام قد لا يتواجد دحتماً في السير التاريخي الفعلي، بالتالي توجد في هذه الحالات فترة بين الثورتين البورجوازية والاشتراكية
إن قيادة البروليتاريا المنظمة والواعية وعيا طبقيا تاريخيا للثورة الاجتماعية الاشتراكية امر حاسم، لكن التطورات التاريخية الفعلية قد لا تجري هذا المجرى دائماً. والتمسك بهذا الخيار الاستثنائي يقود إلى حذف أحداث اجتماعية كبيرة من المشهد التاريخي الفعلي. ومن هنا يظهر التوتر التاريخي بين النظرية الثورية الاشتراكية والممارسة التاريخية الفعلية.
إذاً لطرح سوء الفهم بخصوص الثورات الاجتماعية وتوسيع الأفق لكي يشمل التحليل الماركسي للتطور التاريخي المجتمعات التقليدية التي لم تخرج بعد من العلاقات الاقطاعية أو الخراجية الاسيوية، أي لكي تشمل التحولات البورجوازية (الثورات الديمقراطية البورجوازية) في البلدان المتخلفة أو المجتمعات "التقليدية" بعد الحرب العالمية الثانية، وفي أيامنا بلغت هذه التحولات البورجوازية حدها التاريخي الأقصى وعادت الاشتراكية تطرح نفسها من جديد كخيار تاريخي للخروج من مستنقع التخلف الاقتصادي والاجتماعي، تطرح نفسها كإمكانية تاريخية يمكن العمل عليها وانضاجها بالوعي الطبقي التاريخي والتنظيم.
*الفصل موضع النقاش مأخوذ من كتاب: انطوان بِلتيه-جان جاك غوبلو: "المادية التاريخية وتاريخ الحضارات"، ترجمة الياس مرقص، دار الحقيقة بيروت الطبعة الأولى 1980