-الغير- أو -الآخر-؛ إسهام تأسيسي
نايف سلوم
الحوار المتمدن
-
العدد: 7800 - 2023 / 11 / 19 - 11:03
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أما وقد سألت أيها الصديق العزيز عن رأيي في مقال لقيس البجاوي بعنوان "الآخر؛ بحث في تاريخ الفكر الفلسفي" أقول:
"الغير" أو "الآخر"، ليس هو (ليس) في مقابل (هو)، لأن الغير ليس ما يقابل (هو)، بل ما يقابل (أنا).
إن قول البجاوي كاتب المقال أنه "ﻳﺮﺟﻊ ﺑﻨﺎ ﺗﺄﺳﻴﺲ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻵﺧﺮ، ﻓﻲ ﺻﻮﺭﺗﻪ ﺍﻷﻭﻟﻴﺔ، ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﻓﻠﺴﻔﺔ ﻳﻐﻠﺐ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺍﻟﻄﺎﺑﻊ ﺍﻷﻧﻄﻮﻟﻮﺟﻲ ﻓﻲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻵﺧﺮ، ﻓﻜﺎﻥ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﻬﻮﻫﻮ ﻫﻮ ﺍﻟﻤﻌﻴﺎﺭ ﺍﻟﻤﺴﻴﻄﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻜﺮ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻲ ﻓﻲ ﺗﺤﺪﻳﺪ ﻛﻞ ﻛﻴﻨﻮﻧﺔ ﺃﻭ ﺗﻤﻴﺰﻫﺎ ﻋﻦ ﻏﻴﺮﻫﺎ ، ﻭﺳﻴﺼﻮﻍ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻤﻔﻬﻮﻡ ﺻﻴﺎﻏﺔ ﻣﻨﻄﻘﻴﺔ ﻓﻲ ﺷﻜﻞ ﻣﺒﺪﺃ ﺍﻟﻬﻮﻳﺔ" هو قول خاطئ ، ذلك لأن الغيرية ليست في (ليس) مقابل (هو) ، بل هي (هو) في مقابل (أنا).
وإذا حضرت (أنا) ثانية مقابل (أنيتي أنا) كموضوع لتأملي الذاتي، فهذا نوع من الاستبدالية، تماماً كما تقف بضاعة على رأسها مقابل بضاعة ثانية في السوق، فالغيرية بالنسبة للبضاعة ليست البضاعة المقابلة، لأنها بضاعة مثلها، لكن الغيرية (الآخر) بالنسبة للبضاعة هي هناك في قوة عمل العامل أو في الذات الفاعلة العاملة التي تخلق القيم والبضائع. كذلك الامر بالنسبة لليوم الآخر، فليس "اليوم الآخر" هو غد أو أمس، فهذه أيام متماثلة، بل هو آخر الآيام "يوم" يقوم فيه القائم بالحق والعدل، وهو يوم الحساب، وإصلاح الزمن المعوج، الذي خرج عن سكته.
من هنا نفهم أن (هو هو) أو قانون الهوية الارسطي لا يفيدنا هنا إلا في مسألة الهوية، وهي الوحدة التي تظهرها الهوية، والتي تبين لاحقاً مع هيغل وماركس ولينين، أنها تضمر اختلافاً وفرقاً وتناقضاً هو في أصل ظهورها كوحدة (وحدة الاضداد). الهوية إذا وعند التحقيق تظهر وحدة صراعية؛ وحد أضداد كالمجتمع الرأسمالي.
أما قول البجاوي بخصوص شك ديكارت فهو قول هام لجهة فهم اسهام ديكارت في تاريخ الفلسفة الحديث، لكن الكاتب يسيء فهم الكلام لجهة فهم الغيرية. إن قول الكاتب يدعم قولنا بخصوص مفهوم الغيرية. يقول كاتب المقال: ﻓﻜﺎﻥ ﺩﻳﻜﺎﺭﺕ ﺃﻭﻝ ﻓﻴﻠﺴﻮﻑ ﺣﺎﻭﻝ ﺇﻗﺎﻣﺔ ﻣﻔﺎﺭﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﻧﺎ ﺍﻟﻔﺮﺩﻳﺔ ﺍﻟﻮﺍﻋﻴﺔ ﻭﺑﻴﻦ ﺍﻵﺧﺮ؛ ﺣﻴﺚ ﺃﺭﺍﺩ ﺩﻳﻜﺎﺭﺕ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﺃﻥ ﻳﻌﻴﺶ ﻋﺰﻟﺔ ﺇﺑﺴﺘﻴﻤﻴﺔ (معرفية)، ﺭﺍﻓﻀﺎ ﻛﻞ ﺍﺳﺘﻌﺎﻧﺔ ﺑﺎﻵﺧﺮ ﻓﻲ ﺃﺛﻨﺎﺀ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺍﻟﺸﻚ. ﻓﺮﻓﺾ ﺍﻟﻤﻮﺭﻭﺙ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻌﺎﺭﻑ، ﻭﺍﻋﺘﻤﺪ ﻋﻠﻰ ﺇﻣﻜﺎﻧﺎﺗﻪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ، ﻷﻧﻪ ﻳﺮﻳﺪ ﺃﻥ ﻳﺼﻞ ﺇﻟﻰ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻴﻘﻴﻦ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﺘﺼﻒ ﺑﺎﻟﺒﺪﺍﻫﺔ ﻭﺍﻟﻮﺿﻮﺡ ﻭﺍﻟﺘﻤﻴﺰ ... ﻓﻮﺟﻮﺩ ﺍﻵﺧﺮ ﻓﻲ ﺇﺩﺭﺍﻙ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻟﻴﺲ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﺿﺮﻭﺭﻳﺎ، ﻭﻣﻦ ﺛﻤﺔ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻧﻘﻮﻝ: ﺇﻥ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﺍﻟﺸﻚ ﺍﻟﺘﻲ ﻋﺎﺷﻬﺎ ﺩﻳﻜﺎﺭﺕ ﺗﻤﺖ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﺇﻗﺼﺎﺀﺍﻵﺧﺮ ... ﻭﺍﻻﻋﺘﺮﺍﻑ ﺑﺎﻵﺧﺮ ﻻ ﻳﺄﺗﻲ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺧﻼﻝ ﻗﻮﺓ ﺍﻟﺤﻜﻢ ﺍﻟﻌﻘﻠﻲ ﺣﻴﺚ ﻳﻜﻮﻥ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻵﺧﺮ ﻭﺟﻮﺩﺍ ﺍﺳﺘﺪﻻﻟﻴﺎ."
لقد جاء ديكارت إلى عالم الفلسفة بناء على تحقيقات في التراث الفلسفي الذي تسلمه للتو، ووجد أن تسليمه بهذا التراث الفلسفي (الآخر) كما هو في ذاته أمر غير مفيد وخاطئ، ولا يقود إلى تقدم معرفي للفلسفة الحديثة، لهذا وضع مفارقة بين أنيته وبين التراث الفلسفي معبراً عنه كآخر بالضمير الثالث (هو). وكانت المفارقة قائمة على شك يُعلّق كل محتويات (الهو) المتسلم من الماضي، بحيث لا يتسلمه فعلاً وحقاً قبل أن يقيم الدليل العقلي الاستدلالي عليه، وحين يقيم هذا الدليل يكون وجود هذا الآخر (الهو) وجوداً عقلياً استدلالياً، لا سماعاً وتسليماً ونقلاً لتراث الماضي من دون تحقيق واستدلال منطقي وحكم، أي كما يقول هايدغر: لا يتم تسلّم "وجود الموجود" كتراث معرفي للأسلاف من دون تهديم (أي من دون تفكيك حسب عبارة جاك ديريدا)، أي من دون تحقيق ونقد وحكم، ومن ثم تسلُّم، أي دمج الناتج في الوعي الجديد. (هايدغر: ما الميتافيزيقا؟)
قال جابر بن حيان بخصوص منهجه في تسلُّم التراث: "الصانع الدرب يحذق وغير الدرب يعطل" كما يرفض الاحكام المسبقة عن قوم من الاقوام حين نشر الدعوة بينهم يقول في كتاب الخواص الكبير، المقالة الاولى: إننا نذكر في هذا الكتاب خواص ما رأيناه فقط، دون ما سمعناه أو قيل لنا وقرأناه، بعد أن امتحناه وجربناه فما صح أوردناه وما بطل رفضناه، وما استخرجناه نحن قايسناه على أحوال هؤلاء القوم" (نايف سلوم: الكيمياء الصوفية وصناعة الدعاة)
إن شك ديكارت تجاه تراث الاسلاف أو "وجود الموجود" الذي عليه تسلّمه، هو من هذا النوع.
إذن الغيرية، والآخر بالنسبة للإنية الفردية (الضمير الأول أنا) هي الضمير الثالث (هو). أما الضمير الثاني: (أنت، هي) فهي ضرب من الوثنية، فإذا وقفت عندها الإنيّة فسوف تقع في الوثنية وعبادة الاصنام.
قال الحلاج في إنكار الغيرية، ونفي الآخر الذي هو (الهو)، في طاسين الازل والالتباس، وهو الطاسين السادس من طواسين الحلاج: حيث إبليس تغير عليه العين، وهجر الألحاظ في السير وعبد المعبود على التجريد، ولعن حين وصل إلى التفريد، وطُلب حين طالب بالمزيد، فقال له اسجد، قال: لا غير! قال له: وإن عليك لعنتي، قال: لا غير! وإبليس جحد السجود لآدم، وقال: (أنا) خير من (هو)، إن عذبني بناره أبد الابد، ما سجدت لأحد، ولا أذل لشخص وجسد، وأنا في الحب من الصادقين" (الحلاج: الاعمال الكاملة) لقد أنكر إبليس غيرية آدم نتيجة التبعيد بين إنيّة آدم وبين (الهو) أما إبليس فقد بعدت عليه الشُقّة، فاعتقد أن آدم مجرد خالص الطين؛ خالص فخار وحمأ مسنون، لا روح نازل من الله!