جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثامن والخمسون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8176 - 2024 / 11 / 29 - 04:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
رأى سيريل أرنو، وهو يواصل تلخيصه ل"فينومينولوجيا الروح" أنه يجب ألا نعارض الحق بالباطل باعتبارهما شيئين مختلفين تماما، دون أي صلة تربط بينهما. يجب أن نغلم بأن هيجل يقترح أنطولوجيا جديدة، من النوع الجدلي، لم تعد مبنية على مبدأ الهوية أو التناقض.
بخلاف ذلك، يؤكد أن الهوية تشمل الاختلاف، السلبي؛ أن الشيء يجب أن يصير نقيضه قبل أن يعود إلى نفسه ويجد هويته (وحدها الهوية التي يعاد تشكيلها - أو الانعكاس في الوجود الآخر في ذاته – وليس الوحدة الأصلية أو المباشرة هي الحقيقة)؛ وأننا بين مصطلحين متعارضين نجد دائما تركيبا يؤسس لعلاقتهما، ويوطن هويتهما في مصطلح جديد يتجاوزهما بضمهما.
لكن هذه الحركة الجدلية تتعلق أيضا بالحق والباطل ومعارضتهما:
"الحق والباطل جزء من هذه الأفاهيم المحددة التي نعتبرها، في غياب الحركة، ماهيات خاصة، حيث يقف دائما كل واحد منهما على الجانب المقابل للآخر، دون اجتماع معه ويلتزم يموقعه".
في مقابل ذلك، يجب أن ندرك أن الباطل يتوافق مع لحظة أساسية، لحظة الاختلاف. لا يمكن تأسيس هوية دون اختلاف، ولهذا السبب فإن الباطل هو لحظة أساسية من الحقيقة:
"عندما نقول إننا نعرف شيئا بطريقة خاطئة، فهذا يعني أن المعرفة غير متطابقة مع جوهرها. لكن هذه اللاهوية على وجه التحديد هي فعل تمايز بشكل عام، لحظة أساسية. وإنما من المؤكد أن هذا التمايز هو الذي تنحدر منه هويتها، وتكون الهوية الواردة هي الحقيقة. لكنها ليست الحقيقة بمعنى أنه يمكن التخلص من اللاهوية، كما يرمي الخبث المفصول عن المعدن الخالص، ولا كما ترمى أداة عبوة فارغة: بخلاف ذلك اللاهوية تندرج نفسها في إطار السلبي، الذات نفسها، ما تزال حاضرة مباشرة في الحقيقة.
ذلك ما لخصه هيجل على النحو التالي: "لا ينبغي (...) أن نعتبر الحق كالميت الإيجابي الذي يتكئ على جانبه".
ومع ذلك، فقد حرص على أن يوضح أنه ليس باعتباره باطلا يكون الباطل لحظة من لحظات الحقيقة". منظورا اليهما في وحدتهما، "لم يعد الصدق والكذب يعنيان ما هما خارج وحدتهما". يجب ألا نقع في الفخاخ التي تقودنا إليها اللغة: مثلما أن المؤسف في التعبير عن وحدة الذات والموضوع، المحدود واللامحدود، الوجود والفكر، إلخ..، كون الموضوع والذات، إلخ..، يعنيان ما هم خارج وحدتهما، وأننا لذلك لا نتناولهما في وحدة بالمعنى الذي يؤديه هذا التعبير، كذلك ليس باعتباره باطلاً يكون الباطل هو لحظة الحقيقة .
لكن يبقى أنه إذا كان الحق ينطوي على الباطل في ذاته (مفهومين بشكل صحيح، أي في علاقتهما الجدلية)، تكون طريقة عرض الحقيقة التي اقترحها هيجل في "فينومينولوجيا الروح" ملائمة.
الهدف هنا هو كشف الطريقة التي تنكشق بها الروح تدريجياً لذاتها. "الانكشاف" ليس ظهورا، بمعنى وهم مضلل، ولكنه يشكل لحظة أساسية من لحظات الحقيقة:
"الانكشاف ولادة أو اختفاء، لكنه يوجد في ذاته ولا يولد ولا يختفي، ويشكل فعالية وحركة حياة الحقيقة. من هنا مرة أخرى، يستمد مشروع فينومينولوجيا، علم ظاهرية (الروح لذاتها)، مشروعيته".
بعد هذا الاعتبار العام للحقيقة، يأتي هيجل ليفحص نوعا محددا من الحقيقة: الحقيقة الرياضياتية.
في الواقع، يبدو أن قضايا الرياضيات تفلت من هذه العملية الجدلية. كم يساوي 2+2؟ ما هو مربع الوتر (hypoténuse) في المثلث القائم الزاوية؟ يبدو أنه لا بد من تقديم إجابة واضحة على هذا النوع من الأسئلة، أي على أساس المفهوم الكلاسيكي للهوية، ولمبدأ التناقض، والهروب من أي جدلية. "2 + 2 = 4"، "مربع الوتر يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين": لقد تم حل المشكلة، دون الحاجة إلى الرجوع إلى جدلية من أي نوع. إنه نفس الشيء بالنسبة للحقائق التاريخية (تاريخ ميلاد قيصر، وما، إلخ).
نرى أنه كان يجب على هيجل بالضرورة أن يجيب على هذه النقطة: إذا كانت الرياضيات، هذا النسق الملكي، تفلت من الجدل، ألا يضع ذلك هذا الأخير موضع تساؤل؟ إن الأنطولوجيا الهيجلية، الثورية في حداثتها، لن تنجو من هذه المواجهة.
لتوهما، زعزعت الجدلية والأنطولوجيا الجديدة التي تحملها، الحقل المعرفي. كان عليه أن يقترح تكوينا جديدا للمعرفة، ويحدد مكان وحدود كل علم، ويبين كيف يتم تجاوز هذه الحدود من خلال عملية جدلية، أو إذا لم يكن الأمر كذلك، يشرح لنا السبب.
تلك مهمة مداها لا نهائي، غنية بالوعود ولكن أيضًا بالصعوبات التي قد تبدو مستعصية على الحل: أليس مشروعا مثيرا للضحك تقديم نقد للرياضيات، في ضوء نجاحات هذا التخصص، وذلك دون أن تكون عالم رياضيات محترفًا؟
بطبيعة الحال، لا يتعلق الأمر عنده بإنكار حقيقة الرياضيات، بل بإظهار أن طبيعة حقيقة من هذا النوع تختلف عن طبيعة الحقائق الفلسفية. السؤال الذي يطرح نفسه: ما نوع الحقيقة التي تحيل إليها القضايا الرياضية؟ لمعرفة الجواب، المرجو متابعة المحطة التالية من هذه الجولة الحالية.
(يتبع)
نفس المرجع