جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثاني والستون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8183 - 2024 / 12 / 6 - 04:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لاضير، ونحن نتطلع إلى عرض محتوى كتاب "فينومينولوجيا الروح"، من أن نتبنى القراءة التي قام بها كريستوف بوتون وإيمانويل رينو لنفس الكتاب. أشار هذان الأستاذان عند قراءة الفصل الأول بعنوان "تجربة الوعي" إلى أنه سعى إلى عدة أهداف، لا يمكن إدراكها كلها عند قراءة المقدمة، وفسرا ذلك، على وجه الخصوص، من خلال حقيقة أن المقدمة تهدف إلى توفير الإطار المنهجي لما سيتحول إلى تحقيق فلسفي في الأشكال المختلفة للمعرفة كما يتم بناؤها واختبارها بواسطة الوعي. يبدأ هيجل بطرح مشكلة المطالبات المتساوية بصحة جميع أشكال المعرفة، من خلال العودة إلى المشروع الكانطي لنقد المعرفة الذي يؤكد محدوديتها غير القابلة للاختزال، ودحضه من قبل شيلينج الذي يفترض الوصول المباشر إلى المطلق. ثم يقدم منهج "فينومينولوجيا الروح" باعتباره الطريقة الوحيدة لحل هذه المشكلة وتحقيقًا لهذه الغاية يقدم مفاهيم الوعي وصورة الوعي وتجربة الوعي (الفقرات 9-17).
مشكلة فحص الادعاءات بصحة المعرفة (الفقرة 1-8)
تبدأ المقدمة بنقد كانط. بالنسبة لهيغل، لا يتعلق الأمر بالرفض الكامل لمشروعه في نقد المعرفة، بمعنى فحص السؤال "ماذا يمكنني أن أعرف؟"، ولكن بتحديد جهة أخرى غير تلك التي تم تطويرها في "نقد العقل الخالص". الفكرة الشائعة القائلة بأن هيجل وقع تحت كانط فكرة مغلوطة.
كيف السبيل إلى "استكشاف وفحص واقع المعرفة؟" (الفقرة 9، 165/58) يعيد هيجل هذا السؤال إلى الواجهة من خلال مناقشة الخيار الكانطي، ثم الخيار الشيلينجي، على التوالي. ما عابه على كانط هو في المقام الأول كونه بنى نقده للمعرفة على افتراضات مسبقة لا تخضع في حد ذاتها للنقد، وبهذا المعنى، لم يذهب بالنقد إلى مدى أبعد. ضد الافتراض الكانطي للأصل التجريبي الذي بموجبه ليس لدينا سوى حدس حسي، أكد شيلينج أن المعرفة الفلسفية تتكون من التفكير في الأشياء انطلاقا من الوجود المطلق الذي يتوقف عليه واقعها، بناءً على معرفة المطلق التي يوفرها الحدس العقلي. يرفض هيجل هاتين الطريقتين المتعارضتين لضمان حقيقة المعرفة من خلال نهج تأسيسي: تأسيس العلم في معرفة ملكات المعرفة (كانط)، تأسيس العلم في المعرفة المباشرة للمطلق (شيلينج). يوضح هذا النقد المزدوج البعد المناهض للتأسيسية في الفلسفة الهيجلية، والذي، بدلاً من البحث عن أساس للحقيقة، يهدف إلى تجذير الشك في صحة المعرفة، أو، كما سنرى، "شكوكية في طور الإنجاز" (§6، 161/56).
نقد كانط وشيلينغ (§ 1-4)
تركز الفقرات الثلاثة الأولى على نقد كانط للمعرفة، وقد جرى تقديمه كتمش يقتضي إرادة فحص ملكة المعرفة قبل المعرفة. لفهم معنى هذا النقد، قد يكون من المفيد البدء مرة أخرى ب"دروس في تاريخ الفلسفة"، حيث يتم تقديم الفلسفة الكانطية بلمسة من السخرية:
"تسمى هذه الفلسفة كذلك بالنقدية لأن هدفها الأول، كما يقول كانط، هو نقد ملكة المعرفة. قبل أن نعرف، يجب علينا أن نفحص ملكة المعرفة […]. يتم تمثل المعرفة كأداة، كعملية للاستخواذ على الحقيقة […]؛ يجب أن نعرف ما يتغير في الموضوع حتى لا نخلط بين هذه التغيرات وتحديدات الموضوع. يبدو الأمر كما لو كان بإمكاننا اصطياد الحقيقة بالعصي والمجارف. قبل الحقيقة، لا تعرف المعرفة شيئا حقيقيا […]. إن فحص ملكة المعرفة يعني معرفتها. الشرط إذن هو التالي: يجب أن نعرف ملكة المعرفة قبل المعرفة؛ إنها نفس أرادة السباحة قبل النزول إلى الماء".
يفترض كانط إمكان المعرفة (إمكان ملكة الفهم) لتحديد كيف تكون المعرفة ممكنة. نحن هنا أمام شكل من أشكال الحلقة المفرغة: من أجل تحديد حدود المعرفة، يجب أن أكون بالفعل حائزا على المعرفة... ولتجنب هذه المعضلة، يؤكد هيجل أن المعرفة عملية لا يمكن دراستها بشكل مستقل عن تطورها الفعال. تماما كما يتوجب عليك القفز في الماء إذا أردت تعلم السباحة.
فضلا عن ذلك، فإن الطريقة التي يطرح بها كانط مشكلة شروط إمكان المعرفة بشكل عام تعتمد على مجموعة من التصورات غير المناسبة، أو من أخطاء التصنيف، التي تم التنديد بها في الفقرة الأولى من المقدمة. المعرفة ليست "اداة"، أو "وسيلة" تهدف إلى التقاط المطلق عن طريق تشويهه، أو "وسطا" يأتي إلينا عبره المطلق معدلاً بقوانين الانكسار. عيب هذا المفهوم الأداتي عن المعرفة هو أنه يقيم بين المعرفة والمطلق "حدا يفصل بينهما بشكل مطلق" (§ 1، 155-156/53-54).
بالنسبة إلى كانط لا يمكن للإنسان أن يعرف ما يوجد في الحقيقة إلا من خلال منظور قدراته المعرفية المحدودة. إنه لا يعرف إلا الوجود كما هو بالنسبة إليه، الوجود المتعلق بنمط معرفته، الشيء الذي يستبعد كل معرفة بأي شيء من المطلق.
هاتان الصورتان غير مناسبتين لأنهما تشيران إلى أن المعرفة تواكب دائما تحول الموضوع الذي نسعى إلى معرفته، بحيث تكون دائما مختلفة عن موضوعها. من صورتي الأداة والوسط اللتين يفترضهما التصور الكانطي للمعرفة، تنحدر صورة الحد الذي لا يمكن تجاوزه والذي يفصل المعرفة عن المطلق، ظاهرة الشيء في ذاته. ومع ذلك، فإن فكرة المعرفة في الواقع تفترض بالنسبة لهيجل التطابق مع الموضوع، أي فكرة الحقيقة. كيف يمكن أن تكون هناك حقيقة أو معرفة إذا كانت المعرفة لا تتوافق أبدا مع موضوعها؟ إن فكرة المعرفة التي لا تتعلق بالواقع نفسه، ولكنها مع ذلك تكون صحيحة، هي فكرة غامضة بالنسبة لهيجل، الذي يتحدث في هذا الصدد عن "فرق عكر بين الحقيقة التي هي كذلك على الإطلاق وحقيقة من نوع آخر” (§3، 158/54). ويبدو في الواقع أنه إذا كان للكلمات معنى، فإن المعرفة يجب أن تكون حقيقية بالنسبة إلينا بشكل مطلق وليس بشكل نسبي، كما يجب أن تعتمد الحقيقة على قدرة المعرفة على فهم الواقع نفسه، أو بعبارات أخرى "المطلق". وهذا يعني أن الواقع موجود بشكل مطلق وليس بسكل نسبي بالنسبة إلينا. وهذا هو معنى الإقرار الذي بموجبه "وحده المطلق يكون حقيقيا، [...] وحده الحق بكون مطلقا" (§ 3، 158/54). وبينما قصد كانط تأسيس المعرفة، انتهى إذن النهج الذي طبقه إلى تساؤل جذري حول قيمة المعرفة. وبينما ادعيطى أن الدافع وراءه هو "الخوف من الخطإ"، فقد تبين أن هذا هو "الخوف من الحقيقة" (§ 2، 157/54)، وهو عدم ثقة في العلم تم إدراجه في الافتراضات المسبقة نفسها لنقده للمعرفة. ماذا يمكن أن نستنتج من فشل النقد الكانطي للمعرفة؟ فهل من العبث السعي إلى تبرير ادعاءات المعرفة، وهل يجب أن نبدأ مباشرة من المعرفة المطلقة؟ كان الجواب الشيلينجي على هذا السؤال هو أنه بما أن المرء لا يستطيع الوصول إلى أي معرفة قبل المعرفة، فمن المناسب أن يبدأ فورا بالمعرفة المطلقة، مستنتجا نسق المعرفة بأكمله من المبدأ الأسمى للمعرفة الوارد في الحدس العقلي. يرفض هيجل هذا الموقف بقوله إن العلم «لا يمكنه، في ما يتعلق بالمعرفة غير الحقيقية، لا أن يكتفي برفضها باعتبارها رؤية عادية للأشياء والتأكيد على أنها معرفة مختلفة تماما، وأن هذه المعرفة لا شيء على الإطلاق بالنسبة إليها». ولا أن يستدعي معرفة فضلى في حد ذاتهل” (§4، 159/55).
يردد هذا المقطع صدى المقدمة التي عارضت التقدم المضني في الفينومينولوجيا والمؤدي بالوعي، خطوة بخطوة، إلى المعرفة المطلقة، إلى "الحماسية البادىة فورا، كما هو الحال عند إطلاق النار من مسدس، بالمعرفة المطلقة، والتي تنتهي بالفعل إلى وجهات نظر أخرى بقدر ما يعلن أنه لا يأخذها في اي اعتبار" (101/ 24).
لماذا يعتبر النهج الشيلينجي غير مشروع؟ لأن الادعاء بالبدء بحدس المطلق غير مبرر تماما مثل ادعاء أشكال المعرفة غير الفلسفية التي يرفضها. لا يكفي، في الواقع، تأكيد تفوق المعرفة الفلسفية من خلال وصفها بأنها "علم"، لأن أشكال المعرفة غير الفلسفية تصدر عنها أيضا مثل هذه الادعاءات بالعلم، وهي على وجه التحديد تؤكد باسم هذا الأخير تفوقها على المعرفة الفلسفية: “ضمان شيء ما يساوي تماما ضمان شيء آخر تماما” (§ 4، 159-160/55، (الترجمة بتصرف طفيف).
لا يمكن تبرير المعرفة التأملية إلا إذا توقف تأكيد صحتها عن أن يكون فوريًا فقط، إلا إذا تم تاسيسها عقلانيًا أو "علميًا". لكن لا يمكن لنا الحصول على مثل هذا التبرير العلمي إلا من خلال إظهار أوجه القصور والتناقضات في المطالبات الأخرى المتعلقة بالمعرفة واحدا تلو الآخر. إذا كان النهج الذي يتكون من البدء مباشرة من المعرفة المطلقة غير مشرةع، فذلك لأنه اعتباطي، ووجهة النظر المحددة التي يجب على الفلسفة من خلالها نشر العرض المنهجي للحقيقة يجب أن تكون موضوع تبرير عقلاني. ولكن كما أوضحت المقدمة، فإن هذا النهج غير مشروع كذلك لأنه يكتفي بمناشدة قدرة بعض الأفراد على أن يكونوا قادرين على التفلسف، دون إعطاء الجميع الوسائل ليتعلموا هم أنفسهم الفلسفة، دون منحهم "السلم" للصعود إلى المعرفة المطلقة (المقدمة 99/ 23).
يهدف كتاب "فينومينولوجيا الروح" إلى إشراك قارئه في عملية "التكوين-التعليم"، أو "الثقافة" ( Bildung )، التي سنرى في الفصل السادس أنها ذات بعد تاريخي. وبهذا المعنى يقال إن رحلته هي رحلة "التاريخ المتحقق بتفاصيله الثقافية التي يتشكل بها الوعي نفسه في العلم" (§ 6، 161/56).
(يتبع)
المرجع: https://books.openedition.org/enseditions/42151