جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السابع والستون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8195 - 2024 / 12 / 18 - 21:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بعدما رأينا كيف أن الفصل الأول من هذه الدراسة اتخذ من "تجربة الوعي" عنوانا له، نقف الآن على فصلها الثاني الذي كتبه لوكاس بيتود ليتانج تحت عنوان "اليقين الحسي: نقد المعطى". وهكذا نجد هذا الكاتب يشير في البداية إلى أن الفصل الأول من "ظاهريات الروح" عنوانه: «اليقين الحسي أو: الهذا والمقصود كما هو لي» (173/ 63). يتناول هذا الفصل المعرفة التي تعطي نفسها في مقام أول إلى نظر الفينومينولوجي، أي مع أول “أشكال الوعي” المذكورة في المقدمة (171/61). فيم يتمثل هذا الشكل الأول؟ ولماذا يجب أن نبدأ يه؟ إن الإجابة على السؤال الأول هي في الوقت نفسه إجابة على السؤال الثاني، لأن مكانة اليقين الحسي تفسرها طبيعته، أي مباشريته: "المعرفة التي هي في مقام أول أو بشكل مباشر متعارضنا-مع لا يمكن أن تكون أي آخر غير ما هي ذاتها معرفة مباشرة، معرفة بالمباشر أو بالموجود” ( 173/ 63).
اليقين الحسي يحتل إذن المكانة الأولى في سلسلة تكوينات العقل بفعل المتعارض-مع* لمعرفته وطريقة ارتباطه به: إنه معرفة مباشرة بالمباشر، أي كلية فيها تكون كل من المعرفة و"التعارضية-مع السلبية بالنسبة لهذه المعرفة" (109/29) مباشرتان.
إن المتعارض-مع لليقين الحسي هو الموجود “المباشر” بالمعنى الذي تنتفي فيه الحاجة إلى أي وساطة، مفاهيمية بالخصوص، للولوج إليه؛ وبالتالي فإن معرفة هذا المتعارض-مع تكون هي كذلك مباشرة - اتصال حسي مباشر بالمتعارض-مع. بعبارة أخرى، من أجل اليقين المعقول، شيء ما يُعطى لمعرفتنا على نحو مباشر.
ومع ذلك، لن يكون هناك شك كبير حول الحواس في هذا الفصل، حيث أوضحت المقدمة أن النهج الفينومينولوجي يتم وضعه مباشرة داخل الوعي، من أجل فحص “مقارنة نفسه بذاته” (166/59). يبدأ الوعي هنا باعتبار الموجود المباشر ك"الوجود-في-ذاته"، كال"حقيقة" (166/58)، أو حتى ك"الجوهر" أو "متعارضه-مع" (169/60)؛ أي كما هو موجود حقا، المطلق، وكمعياره المرجعي. هذه المعرفة تأتي أولاً لأنها لا تفترض شيئا وهي مجرد علاقة مباشرة بالمتعارض-مع. في هذا القول التمهيدي، يذكر هيجل أيضا بأن الفينومينولوجيا يجب ألا تقحم عناصر خارجة عن متعارضها-مع، أي المعرفة التي تأخذها في الاعتبار. إنه يقيم توازيا بين الموقف الأول للوعي، المشكل من الإدراك المباشر، وبين الاعتبار العلمي الذي يتناوله، الذي يجب أن يتأمل فقط الحركة الذاتية لمتعارضه-مع دون أن يضيف إليه شيئا.
في هذا الفصل، سوف يتم تدريجيًا توجيه الوعي الحسي إلى تجربة واقعة أن معرفته ومتعارض-مع لهذه المعرفة وسيطان. لقد كانت هذه التجربة محك تنوع كبير من التأويلات، سوف نكتفي بذكر أهمها. يمكن تسمية التأويل الشائع لهذا الفصل، منذ مقالة تشارلز تايلور، بال"متعالي" بمعنى أنه يوضح أن المعرفة المباشرة المفترضة لليقين الحسي تتضمن في النهاية شروطا، هنا وساطات، وبدونها لا يمكن أن تحدث هذه التجربة. وفي أعقاب هذا التاويل، تطورت التعليقات التي تؤكد على القضايا المعرفية والإبستيمولوجية للفصل الثالث. في الآونة الأخيرة، وضد هذا الاتجاه، سعى برادي بومان إلى إظهار إيجابية اليقين الحسي باعتباره معرفة مباشرة غير خارجة عن المطلق.
ينقسم الفصل إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: (1) عرض تمهيدي لليقين الحسي (173-176/63-64)؛ 2) دراسة أكثر تفصيلاً لجدلها الداخلي، بما فيها ثلاثة أقسام فرعية (176-184/64-68)؛ (3) تأمل ختامي ينتقد شكلا معينا من "الواقعية الساذجة" وينتقل إلى الفصل التالي عن الإدراك (184-188/68-70).
المقدمة: المعرفة وموضوع اليقين الحسي
الشكل الأول للوعي، مثل جميع الاشكال التالية، هو شكل المعرفة غير القابلة للانفصال عن متعارض-مع، هذه المعرفة يتم تقديمها أولاً كمعرفة ذات محتوى غني جدا: “المحتوى الملموس لليقين الحسي يجعله يبدو على نحو مباشر كمعرفة أكثر غنى، بل كمعرفة بثراء لا محدود» (173/63).
يوضح هيجل أن الطابع اللامحدود لهذا الثراء واسع النطاق، منتشر عبر الزمان والمكان، بقدر ما هو مكثف، ومتركز في "جزء" واحد. وكيف يمكن أن يظهر اليقين الحسي كمعرفة أكثر ثراء، والمقدمة تصر على عدم كفاية البداية البسيطة (86/ 15)؟ إن ثراء الإحساس، مثلا الإحساس بالعطر أو اللون، يرجع إلى أنه ممتلئ ومكتمل، إلى أنه، من خلاله، يعرف الموجود الحسي بطريقة مباشرة ودون بقية. فكل شيء له لون أو عطر يمكن أن يدركه الإحساس (البعد الممتد)، وهذا اللون أو هذا العطر يدرك في مجمله (البعد المكثف)؛ على الأقل هذا ما يتأكد منه الوعي. ومن ثم فإن هذا اليقين الذاتي لا ينفصل عن "المحتوى الملموس"، أي محتوى الإحساس، لأن هذا المحتوى هو الذي يؤدي في الوعي إلى يقين وجود الموجود المباشر. وبما أنه لا يوجد وسيط يحتمل أن يحدث تحريفاً للمحتوى، فإن هذه المعرفة بالمتعارض-مع تبدو مثل "الأكثر حقيقة" (174/63).
وبقدر ما لا يربط هيجل هذه الشكل الأول صراحةً بفلسفة أو حتى بفترة تاريخية، فقد ظهرت وجهات النظر الأكثر تنوعا في محاولة تحديد من "يختبئ" خلفه. هكذا، أمكن تاويل اليقين الحسي باعتباره موقفا مجردا، لا يدعمه أبدا أي شخص، أو باعتباره موقفًا فلسفيا تحتيا، أو حتى كممثل لهذه الفلسفة أو تلك. دون الحسن في هذه المناقشة، لنلاحظ أنه ليس من العبث أن نسعى في اليقين الحسي إلى تحديد واحد أو أكثر من المواقف الفلسفية الضمنية. يرى البعض أن هذا الشكل الأول يمكن أن يحيل جزئيا إلى أرسطو أو أبيقور بالنظر إلى الجوانب التجريبية لفلسفتيهما؛ ويمكننا أن نذكر أيضا المدرسة الإيلية، ولا سيما بارمينيدس وزينون، لأنهما يضعان الوجود الواحد مبدأً لفلسفتهما، وكذلك محاورة ثياتيتوس لأفلاطون، حيث تظهر الأطروحة التي بموجبها يكون العلم إحساسا. ويشير آخرون إلى أن معاصري هيجل، فيلهلم تراوغوت كروج وغوتلوب إرنست شولز، هم الذين تم استهدافهم في جوانب مختلفة - وربما أيضا مبدأ "المعرفة المباشرة" لفريدريش هاينريش جاكوبي. أخيرا، يرى آخرون أنه يمكننا التعرف في نفس الشكل على العديد من الفلسفات دون تناقض، بما فيها تلك اللاحقة على هيجل، ولا سيما فلسفة برتراند راسل.
تم وصف اليقين الحسي بأنه علاقة مباشرة بسيطة، بيد أن هذه البساطة هي في الواقع وحدة تجمع بين لحظتين. بالفعل، تتضمن العلاقة حدين، قطبين: من ناحية لدينا المعرفة، اليقين (الذاتي)، ومن ناحية أخرى لدينا الحقيقة (الموضوعية). وهذه المعرفة ليست، بحسب العنوان الفرعي للفصل الأول، سوى "المقصود كما هو لي". هذه الترجمة التي قام بها برنارد بورجوا تجعل الفعل معبرا عن الذات das Meinen . يعني الفعل meinen ، الشائع في اللغة الألمانية، أن: يكون لك رأي حول، تفكر، تريد أن تقول، ترى؛ تتم ترجمة Meinung على برأي أو نظر. يلعب هيجل على قرب هذا الجذر من ضمير الملكية mein (mon). هكذا يتم التعبير عن واقعة أن معرفة الوعي الحسي مباشرة، وأنها مدعومة بيقين فردي، ذاتي، وليس بمفاهيم؛ وهذا هو سبب ترجمة جان بيير لوفيفر لـ das Meinen ب"وجهة النظر الحميمية".
من ناحية أخرى، المتعارض-مع هو شيء ما مباشر، "هذا [ Diese ]". هذا المتعارض-مع ليس شيئا قابلا لأن يحدد بوضوح، يمكن تعداد خصائصه، وإلا لن يكون مباشرا. بل يكون قريبا من كيان فردي بمعنى المشار إليه (τόδε τι) الأرسطي. في اليقين الحسي، يكون اليقين والحقيقة متساويين، في هوية مباشرة: ما أنا متأكد منه صحيح. هذه الهوية، التي سنرى تفككها، لن يُعاد اكتشافها، كوسيطة، إلا في نهاية كتاب "ظاهريات الروح".
(يتبع)
المرجع: https://books.openedition.org/enseditions/42156