جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الحادي والستون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8181 - 2024 / 12 / 4 - 02:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في الحقيقة، يجب أن ندرك أن "العلم لا ينتظم إلا من خلال الحياة الخاصة للمفهوم؛ التي فيها تكون هذه الحتمية […] روح المضمون المنجز الذي يتحرك من تلقاء ذاته".
يدعم هيجل إمكانية تقديم نسق يعرض هذه الحياة ذاتها، ويحافظ عليها. لأجل ذلك، يجب على هذا العلم أن يعيد إنتاج حركة المفهوم ذاتها، هذه الحركة الجدلية التي سبق أن فحصناها والتي يصفها هيجل هنا على النحو التالي:
"تتمثل حركة هذا الذي يوجد من جهة في أن تصير من وجهة نظرها بالذات إلى [لحظة تمايز سلبية] أخرى وفي أن يصير بالتالي مضمونها محايثا [لحظة تأمل ذاتي]، ومن جهة أخرى يستعيد هذا الذي يوجد في ذاته هذا الانتشار أو هذا الوجود الذي هو [لحظة العودة إلى الذات]".
إذن لم نعد هنا في فكر الفهم، بل ارتقينا إلى مرحلة العقل، وإلى الفلسفة في أعلى أشكالها، الفلسفة التأملية:
"طبيعة المنهج العلمي هذه، المعرفة من ناحية بأنها غير منفصلة عن المضمون، ومن ناحية أخرى بأنها تحدد من تلقاء ذاتها إيقاعها الخاص، لها عرضها الخاص، كما ذكرنا سابقا، في الفلسفة التأملية".
إن النسق الذي يدعو إليه هيجل، أي علم الكل، يجب أن يحافظ على هذه الحركة التي نجدها في قلب كل شيء، والتي يعرّفها هيجل بـ”الضرورة المنطقية” ثم “التأملية”:
"بحكم الحقيقة البسيطة أن الجوهر […] ذات في حد ذاته، يكون كل مضمون انعكاسه الخاص في ذاته". هكذا، إنما في هذه الطبيعة الخاصة لهذا الذي يوجد، والتي هي للوجود في وجوده مفهوم خاص به، تكمن بكل بساطة
الضرورة المنطقية؛ هي وحدها العقلاني وإيقاع الكل العضوي؛ إنها معرفة بالمضمون بقدر ما يكون المضمون مفهوما أو جوهرا - أو مرة أخرى، هي وحدها التأملي".
علينا أن نفكر في هذه الحركة الجدلية، وأن نعيد إنتاجها في ذاتها حتى ندرك كنهها: "ما يهم في الدراسة التي يقوم بها العلم هو بذل الجهد، وإتعاب المفهوم".
لكن من الصعب الخروج من فكر الفهم القائم على فكرة الهوية البسيطة، لأجل الارتقاء إلى التأملي، إلى فكر الحركة، أي فكر التناقض والتركيب.
"لكن إذا كنا على استعداد لاعتبار هذا النوع من التفكير ذا مضمون […] فهو أيضا ذو جانب آخر يجعل من الصعب تصوره".
يصف هيجل صعوبة التفكير بطريقة جدلية، أي التفكير في الحركة المنحصرة في قلب المنطق، في عدة فقرات من بينها التالية:
"حينما يكون المفهوم الذات الخاصة للموضوع، التي تقدم نفسها على أنها مصير هذا الموضوع، فهو ليس ذاتا ثابتة وساكنة تحمل الأعراض دون أن ترمش، بله المفهوم الذي يتحرك ويسترجع إلى ذاته قراراته. في هذه الحركة، تتوه الذات الثابتة نفسها […] بحيث تتزعوع الأرضية الصلبة التي يجدها العقل المنطقي في الذات الساكنة، وتصبح هذه الحركة نفسها هي الموضوع".
شرح هيجل كيف أن اللغة نفسها، العنصر الذي يعبر به الفكر عن ذاته، تتجه نحو المرحلة التأملية. بعبارة أخرى، هناك جدلية تعتمل في قلب اللغة نفسها.
ماذا نرى فعلاً في حكم بسيط، من قبيل "القطة سوداء"؟ محمول (أسود) مسند إلى ذات (القطة). الكلمتان منفصلتان، متمايزتان تماما، وفقا لمبدإ الهوية، ولما يتطلبه الفهم.
على أي، لنمعن النظر في هذا الحكم الآخر: "الله موجود". نعتقد أن لدينا هنا كلمتين متمايزين. لكن في الواقع، من وجهة نظر معينة، يبدو أن الذات (الله) فقدت نفسها بالكامل في هذا المحمول (الوجود). يبدو أن لدينا هنا: الله ليس كائنا آخر غير الوجود، إذن لا وجود لله:
"يبدو أن الله قد توقف عن أن يكون ما يكونه وفقا لمقتضى القضية، معرفة، ذاتا ثابتة ومتسقة. فعوض أن يستمر الفكر في التقدم أثناء العبور من الذات إلى المحمول، علما بأن الذات تاهت، يشعر على العكس بكونه معرقلا ومطوحا به نحو فكر الذات، طالما يأسف لغيابه […] بقدر ما يفقد الفكر الأرض الثابتة والأرضية الغيرانية التي كانت لها عند الذات، بقدر ما يحال إليهما في المحمول، ويعود، ضمن هذا الأخير، ليس في حد ذاته ولكن في ذات المضمون".
هنا نرى الحركة الجدلية تعتمل، في اللغة نفسها، بين الذات والمحمول. ما أراد هيجل تعميمه هو كالتالي:
"طبيعة الحكم، أو بكل بساطة القضية التي تتضمن في حد ذاتها اختلاف الذات والمحمول، يتم تدميرها بواسطة القضية التأملية، و[...] قضية الهوية التي صارت هي الأولى تتضمن الإنتكاسة التي تتفاعل مع هذه العلاقة الأولى". من هنا التناقض بين شكل القضية عموماً ووحدة المفهوم الذي يهدم هذه الشكل.
يأتي التركيب كمخرج جدلي من هذا الصراع: في القضية الفلسفية، يجب ألا تلغي هوية الذات والمحمول اختلافهما، المعبر عنه بواسطة شكل القضية، ويجب أن تنشأ وحدتهما، على النقيض من ذلك، مثل انسجام .
هكذا نرى أن شكل اللغة ذاتها يكشف أن مبدأ الهوية، رغم بداهته وبساطته الظاهرة، يجب تجاوزه نحو شيء آخر.
هكذا يجب أن نتعلم كيف نفكر بشكل مختلف، بطريقة جدلية، "في ما وراء مبدإ الهوية أو التناقض"، وهذا أمر صعب. هذا ما يجب أن نسعى جاهدين للقيام به، للابتعاد عن "التفكير التمثيلي" البسيط أو "الحس السليم" لدى الرأي العام.
اختتم هيجل كتابه وهو يسخر من الحس السليم، ويأمل أن يحظى عمله باستقبال إيجابي:
"ما هو ممتاز في فلسفة عصرنا يضع قيمته ذاتها في العلمية و(...) لا يمكن الاعتراف به وتقديره إلا من خلالها. ويمكنني إذن أن آمل كذلك أن تجد هذه المحاولة لادعاء العلمية للمفهوم وعرضه في هذا العنصر المميز لها الذي هو له، مدخلها من خلال الحقيقة الداخلية للشيء. ويجب أن نقتنع بأن الحقيقة من طبيعتها القيام بالاقتحام عندما يحين وقتها، وأنها لا تظهر إلا عندما يحين ذلك الوقت".
بعد هذا العمل التحضيري، هذه الدراسة لمقدمة "فينومينولوجيا الروح"، أصبحنا جاهزين بشكل أفضل للدخول إلى متن الكتاب، واكتشاف المراحل المختلفة للانتشار الذاتي للروح. هذا ما نقترح إنجازه لاحقا.
(يتبع)
نفس المرجع