جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثالث والستون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8184 - 2024 / 12 / 7 - 00:14
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الشكوكية والجدلية (§ 5-8)
تنتقل الفقرات الثلاثة التالية من السجال المزدوج ضد كانط وشييلنج إلى عرض النهج الذي سيتم تنفيذه لتحليل المطالبات بصحة أشكال مختلفة من المعرفة. تم شرح هذا النهج أولاً في مبدإه العام. حتى الآن، اكتفى هيجل بالإشارة إلى أن "الفينومينولوجيا" تقدم دراسة نقدية لمطالبات الأشكال المختلفة للمعرفة بالحقيقة. ويضيف الآن أنها تتمثل بشكل أكثر دقة في فحص الطريقة التي تصبح بها المعرفة غير الفلسفية – “الوعي الطبيعي” – واعية بقصورها.
يمكن اعتبار "فينومينولوجيا الروح"، من وجهة النظر هذه، بمثابة طريق الوعي الطبيعي الذي يبذل اندفاعه في اتجاه المعرفة الحقيقية، أو بمثابة طريق الروح التي تسير عبر سلسلة تكويناتها كمحطات ثابتة لها مسبقا بحكم طبيعتها، بحيث تطهر نفسها لتكون روحا، وذلك بالوصول، من خلال التجربة الكاملة لذاتها، إلى معرفة ما تكون في ذاتها. (§ 5، 160/55)
هذه الصيغ الغامضة، التي تجعلنا نفكر في تناسخ الأرواح، تجد بداية تفسيرها في الفقرة 8، عندما أكد هيجل أن الوعي هو مفهومه الخاص. وهذا يعني أن كل شكل من أشكال المعرفة يرتبط بمجموعة من المتطلبات الإبيستيمية (المحددة لمفهوم المعرفة محل البحث)، وأن هذه المتطلبات تسمح له بإدراك التناقضات الكامنة في معرفته: “الوعي لذاته – هو مفهومه، من هنا فعل الذهاب فورا إلى ما وراء ما هو محدود، وإلى ما وراء ذاته بما أن ما هو محدود على هذا النحو ينتمي إليه." ( § 8، 163-164/57). إذا لم تكن أشكال الوعي المختلفة مصحوبة بمثل هذه المطالب، فلن يكون هناك "دفعة في اتجاه الحقيقة". لا شيء يمكن أن يشكك في ادعاءات الصحة التي تصاحب المعرفة بشكل عام، بما في ذلك المعرفة المحدودة.
ستكون الفينومينولوجيا إذن "علم تجربة الوعي" بمعنى دراسة الطريقة التي يصبح بها الوعي غير الفلسفي واعيا بأن معرفته لا ترقى إلى المتطلبات الإبسايمية التي تتضمنها هذه المعرفة نفسها. يتم تقديم نهج الفينومينولوجيا هنا في معارضة ما سيكون نهج النسق: فهي ليست “العلم الحر، المتحرك في الشكل الخاص به” (§ 5، 160/55). بالفعل، هي لا تقدم نفسها كعرض للحقيقة في شكل حقيقة («المعرفة المطلقة»)، ولكن كعرض للاحقيقة «المعرفة الظاهرة» - الأمر الذي قاد هيجل إلى شرح العلاقة التي تربط نهجه بالشكوكية في الفقرة التالية (الفقرة 6). كما أنها ليست تحليلاً تأمليا للأفكار ، بل تحليلًا لتجارب الوعي. ومن ثم فإن كتاب "الفينومينولوجيا" يطبق تصورا أصليا للفلسفة كملاحظة بسيطة، أو كوصف بسيط لتجربة الوعي. بعد أن أوضح أن الوعي الطبيعي نفسه هو الذي يقيس معرفته على ضوء معاييره الخاصة التي ربطها بها، كتب هيجل في الواقع أن كل ما يبقى للفيلسوف هو “ببساطة أن ينظر ليرى [ das queen Zusehen ]”. (13, 167/59§). وهكذا كان أول من تصور الفلسفة كعلم وصفي. سيتم افتراض مثل هذا المفهوم في القرن العشرين، بطريقة مختلفة، من خلال الفينومينولوجيا الهوسرلية والتحليل الفتجنشتايني للغة العادية. ومع ذلك، يجب ألا ننسى أنه بالنسبة لهيجل، فإن هذا النهج لا يصف الفلسفة على هذا النحو، بل فقط المشروع المحدد ل"الفينومينولوجيا" الذي يظل مقدمة للفلسفة الصحيحة، ويُفهم على أنه عرض تأملي للحقيقة.
كذلك هي أصلية تماما الطريقة التي يتم بها التفكير في مفهوم التجربة هنا. في "تجاربه"، يتحمل الوعي العنف الذي يسمح له بأن يدرك لاحقيقة معرفته. وهذا يعني على وجه الخصوص أن مساهمة التجربة في الحقيقة لا توجد في التجارب الإيجابية (لتأكيد المعرفة من خلال الملاحظة) بقدر ما توجد في التجارب السلبية، وخيبات الأمل بطريقة ما، التي لا تقتضي فقط زيادة الوعي بخطإ هذه المعرفة أو تلك (التفنيد التجريبي للقضايا أو النظريات)، ولكن بشكل أكثر جوهرية، لا حقيقة بنيات أو تكوينات المعرفة، "أشكال الوعي". قد يبدو غريبا أن نسمع مصطلح "التجربة" بهذا المعنى، ومع ذلك، أليست هي نفس قوة التساؤل الجذري التي نضفيها على التجربة، عندما نقول إننا قمنا "بالتجربة المريرة"، أو "التجربة الصعبة" لشيء ما؟
إن تجربة الوعي، التي يُنظر إليها على أنها سؤال جذري ومتكرر حول تكوينات المعرفة، يتم تقديمها كطريق من الشك واليأس و"كشكوكية في طور الإنجاز" (§ 6، 161/56). إن هذا الاستحضار للشكوك متناقض. يتم تقدير هذا المصطلح في إشارة ضمنية إلى الشكوكية القديمة، التي يفضلها هيجل دائما على الشكوكية الحديثة، سواء كانت تأخذ شكل الشك المنهجي لديكارت، أو، وهو الأسوأ في نظره، شكل الشكوكية الممزوجة بتجريبية هيوم. ما يستبقيه من الشكوكية القديمة هو المطالبة بفحص وحدة المعرفة، في مجمل محتواها وافتراضاتها:
"الشكوكية الموجهة إلى كامل مجال الوعي، مأخوذة في مظهرها، تجعل، بالمقابل، العقل وحده قادرا على فحص ما في الحقيقة، بقدر ما تقود إلى اليأس من التمثيلات، الأفكار والآراء التي يفترض أنها طبيعية، والتي من غير المهم أن نسميها حقيقية أو غريبة، والتي ما زال الوعي الذي شرع مباشرة في فحصها مباشرة ممتلئا ومتأثرا بها، في حين أنه في الواقع غير قادر على القيام بما يريد القيام به". (§ 6، 162/56)
وحدها هذه الشكوكية بإمكانها أن تؤدي وظيفة قيمة في البحث العلمي عن الحقيقة. هي المقصودة بفكرة «شكوكية في طور الاكتمال»: وهي تذهب بفحص المعرفة إلى أقصى الحدود، تؤدي الشكوكية وظيفتها الخاصة. يُعتقد أن هذه الشكوكية تتعارض مع الشك الديكارتي الذي يتميز بثلاث خصائص رئيسية. إنه منهجي، بمعنى أنه يتنثل فقط في منهج يتم تطبيقه بطواعية. إنه مؤقت، لأنه يهدف إلى إزالة كل شك، إلى إيجاد المعتقدات المشكوك فيها في البداية (المتعلقة بوجود الأنا، العالم والله)، على شكل يقين لا يقبل الشك. وأخيرا، فهو صوري إلى الحد الذي لا يركز فيه على محتوى المعرفة، بل فقط على فعل الاعتقاد والأسباب التي يمكن أن تشرعنه، من أجل إعطاء شكل جديد لمحتوى معرفي غير متغير: شكل معرفة يقينية. تقع هذه الخصائص المختلفة للشك الديكارتي ضمن نطاق انتقادات هيجل.
المسار الذي اتبعته "الفينومينولوجيا" "يمكن اعتباره طريق الشك، أو بشكل أكثر دقة، طريق اليأس؛ بالفعل، ما يحدث في مساره ليس هو ما نعنيه عادةً بالشك، فعل زعزعة هذه الحقيقة المفترضة أو تلك، يليه اختفاء بدوره، كما يجب، للشك، والعودة إلى الحقيقة الأولى". (§ 6، 161/56)
تصف "الفيتومينولوجيا" شكا منتابا (في التجارب السلبية) وليس شكا يمتد إلى محتوى المعرفة بأكمله بدلاً من التفكير فيه كطريقة خارجية تهدف إلى منح اليقين لمعرفة غير متغيرة بالأساس، شكا لا يؤيد المعتقدات التي تنصب عليها، المعتقدات التي هي كذلك لاحقائق على طريق الوعي نحو العلم. كما نأى هيغل بنفسه عن الشكوكية القديمة لأن نتيجتها هي التعليق البحت للحكم. كل هذه الأشكال من الشكوكيى هي شكوكيات غير مكتملة، إما لأنها تفتقر إلى الراديكالية (الشكوكية الحديثة) أو لأنها تختزل الفلسفة في البحث عن الحقيقة (الشكوكية القديمة).
من المؤكد أنه لا مفر من أن يقدم الوعي الطبيعي تفسيرا متشككا لتجاربه السلبية. بالنسبة للأخيرة، فإن اكتشاف أن معرفتها في كل مرة "غير واقعية"، غير متوافقة مع توقعاتها الإبستيمية، هو تجربة يائسة، وتدمير محض وبسيط لما اعتقدت أنه حقيقي (§ 6، 160 -161)/56). هذا هو بالضبط التفسير السلبي البحت لتجارب الوعي الذي تم انتقاده في سائر "الفينومينولوجيا". لا ينبغي تفسير الشكوكية في طور الاكتمال على أنها اكتمال للشك فحسب، بل على أنه تجاوز له أيضا. من ناحية، "مفهوم المعرفة" موجود بالفعل في الوعي الطبيعي، لذا فإن طريق اليأس هو أيضا الطريق الذي يؤدي إلى الحقيقة. من ناحية أخرى، “تقديم الوعي بلا حقيقة في لا حقيقته ليس مجرد حركة سلبية” (§ 7، 162/57). البرهنة على عدم كفاية أشكال المعرفة المختلفة – أشكال الوعي – لا يؤدي إلى “العدم المحض” (§ 7، 162/57)، لأنه أيضا تحديد لقصور محدد (“لنفي محدد") يحمل، من هنا بالذات، الطلب على معرفة أكثر سموا قادرة على هذا القصور. هذا هو محرك التقدم الجدلي في "الفينومينولوجيا":
"بقدر ما يتم إدراك النتيجة كما هي في الحقيقة، باعتبارها نفيا محددا، ينبثق من هنا على الفور شكل جديد، وفي النفي، يقع المرور الذي يحدث من خلاله التقدم نفسها من خلال سلسلة كاملة من الأشكال". (§ 7، 163/57)
يتمثل نهج هيجل إذن في تفسير عملية الشك (فحص التناقضات المحايثة للمعرفة) بطريقة لا تؤدي بعد الآن إلى نتيجة متشككة. وهذا يعني جعل فحص تجربة الوعي، الذي من خلاله يدرك عدم كفاية معرفته، فحصا جدليا، من خلال الفهم الجدلي للحظة السلبية في عملية يتم خلالها تسليط الضوء على تناقضات المعرفة قبل حلها في حقيقة أعلى. سيتحدث هيجل في نهاية المقدمة عن "الحركة الجدلية" للوعي (§ 14، 169/60)، وسيؤكد مرة أخرى أن نتيجة هذا الجدل، على عكس النتيجة الشكية، ليست "العدم الفارغ، ولكن [ …] العدم الذي هو نتيجة له؛ نتيجة تتضمن ما في المعرفة السابقة من حقيقة” (§15، 170/61).
(يتبع)
نفس المرجع