جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الستون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8180 - 2024 / 12 / 3 - 00:10
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

ما هو المنهج الذي يكمن وراء هذا العلم الذي اقترحه هيجل؟ بنفس الطريقة التي يكمن بها المنطق وراء العديد من التخصصات الأخرى، ماذا سيكون منطق فينومينولوجيا الروح هذه؟
ليس هناك في الواقع منهج ولا منطق يمكن اعتباره شرطا ضروريا لتكوين وفهم هذا العلم، هذا النسق الهيجلي. بالفعل، لا يكون المنهح والمنطق ضروريين إلا عندما نفصل بين شكل ومحتوى العلم، بين النسق نفسه وموضوعه، الحقيقة، وعندما يسعى أحدهما إلى تنظيم نفسه للوصول إلى الآخر.
لكن، هنا، لا يتعلق الأمر بتشكيل "نسق" جديد، بل بكشف الحقيقة نفسها، والسماح لها بالانتشار ذاتيا في أشكالها المختلفة: "الحقيقة هي حركة نفسها داخل ذاتها، بينما هذا المنهج هو المعرفة خارج ذاتها. ولهذا فهو من خصائص الرياضيات.
ليست هناك حاجة إذن إلى المنطق كأساس مسبق للنسق، أو، بعبارة أخرى، "المنهح ليس [...] شيئا آخر سوى بناء الكل القائم في جوهريته الخالصة"، أي عرض النسق ذاته: إن عرضه بشكل صحيح هو المنطق نفسه.
لهذا السبب فإن النسق هو الشكل الأنسب لعرض الحقيقة، وليس الجهاز الرياضي: "الحالة العلمية التي أورثتنا إياها الرياضيات – كل جهاز التفسير، التقسيم الفرعي، البديهيات، سلسلة النظريات، ببراهينها، مبادئها، والاستنباطات والاستنتاجات التي نستخلصها منها – أصبحت قبلا، على الأقل في الرأي نفسه، قديمة جدا".
يمكن توجيه هذا النقد نفسه، في الفلسفة، إلى السكولائية وحتى إلى "المحاورة الاستدلالية" السقراطية أو المشائية: هذه ليست أشكال كافية لعرض الحقيقة:
"إن طريقة طرح قضية ما، وتقديم مبرراتها، وكذلك طرح الآخرين لدحض القضية المضادة، ليست هي الصورة التي يمكن أن تظهر بها الحقيقة على الساحة".
ومع ذلك، عندما نفكر في نسق ما، أو في علم ما، فإننا نتخيل الجداول والخطاطات التي ستختزل ثراء الكل في عدد قليل من العناصر. مثلا، يترك جدول المقولات الموجود في كتاب كانط "نقد العقل الخالص" انطباعا راسخا لدى القارئ ويضفي طابعا علميا على العمل.
ليس هذا ما ينوي هيجل اقتراحه: بالنسبة إليه لا يتعلق الأمر بتلخيص مستقبل الروح في جداول قليلة. سنفقد هنا، في هذا التجريد وهذه الشكلية، حياة المفهوم:
"من المؤكد أن "الشكل الحقيقي قد استقر في محتواه الحقيقي، ونشأ مفهوم العلم"، لكن "لا يمكننا أن نعتبر استخداما علميا لهذا الشكل الذي به ينحدر إلى مستوى خطاطة هامدة، ترسيمة شبحية النمط بالمعنى الضيق، والتنظيم العلمي وقد اختزل في جدول".
أحيانا، نعارض العلم والحياة؛ ننكر أن ثراء الكل يمكن أن يقتصر على نشق ما: وهذه المعارضة على وجه التحديد هي التي يهاجمها هيجل هنا. وهو يحاول تحديد الشروط التي يمكن من خلالها رفع هذا الأمر، ووصف النظام الذي يمكن أن يفسر ثراء الحياة.
للقيام بذلك مر بمرحلتين: بدأ بإثبات حق المنتقدين لهذا النوع من النسق أو العلم الذي يعمل بخطاطة، والذي ليس إلا ثمرة "فكر الفهم":
"فهم النوع الجدولي يحفظ لنفسه [ليس بمعنى الحفاظ بل المصادرة] ضرورة ومفهوم المحتوى، ما يصنع الملموس، الفعالية والحركة الحية للشيء الذي يضعه في لوحته، أو وبتعبير أدق، لن نقول إنه يحتفظ بكل هذا لنفسه، لكنه لا يعرفه؛ لأنه لو كان له هذا الفهم للأشياء لأظهره بلا شك. إنه لا يعرف حتى الحاجة إليه: لأنه عندها سيكتم تخطيطه، أو على الأقل، بفضله، لن يتمكن من معرفة أكثر مما يقدمه فهرس المواد؛ هذا الفهم يعطي فقط ملخصا عن المحتوى، لكنه لا يقدم المحتوى نفسه".
فهم هؤلاء المنتقدون بوضوح أن ما يفلت من هذا النوع من البناء هو الحياة:
"الفهم الصوري يترك للآخرين إضافة هذا الشيء الكبير [وهو الحياة]. وبدلا من الدخول في المحتوى المحايث للشيء، فإنه ينظر دائما إلى الكل من مكان عال جدا، ويقف فوق الوجود المفرد الذي يتحدث عنه، أي لا يراه بالمرة. بينما تتطلب المعرفة الفردية، على النقيض من ذلك، أن نعود إلى حياة الموضوع، أو ما يعادل نفس الشيء الموجود أمامنا وأن نذكر الضرورة الداخلية له".
.يعطي هيجل مثالا صارخا لهذا العلم الذي ينكر الحياة، وفي نفس الوقت يفقر الكل باختزاله في بضعة عناصر في نسق: الفيزياء أو "فلسفة الطبيعة". "هذه المقاربة الصورية للطبيعة تعلمنا، مثلا، أن الفهم هو الكهرباء". نحن نعلم أن النبضات العصبية الصادرة من الدماغ (موجات الدماغ) هي ذات طبيعة كهربائية. ومن ثم نعتقد أننا نفهم حقيقة العقل، في حين أن هذه النزعة الصورية، عن باختزالها عن طريق التجريد إلى عنصر واحد، قد جعلت الجوهر يختفي: الحياة نفسها.
ضد هذا "الفهم الميت والمعرفة الخارجية"، هذه المعرفة الميتة، يدافع، في خطوة ثانية، عن نمط آخر، ما هو؟ الجواب على هذا السؤال في الصفحة التالية.
نفس المرجع