جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء التاسع والخمسون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8178 - 2024 / 12 / 1 - 00:19
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

قام هيجل بخطوتين في جوابه على السؤال: ما نوع الحقيقة التي تحيل إليها القضايا الرياضية؟ في الأولى أوضح أن الرياضيات تخضع، مثل الفلسفة، للديالكتيك. فبعيداً عن أن يكتفي ببيان نتيجة مجردة، يجب على عالم الهندسة أن يقدم برهاناً عنها، ويربط هذه النتيجة بالأسباب التي أدت إليها. ولذلك لا توجد "إجابة واضحة" في الرياضيات، بمعنى أنه يمكننا إعطاء إجابة فورية لمشكلة ما، دون عملية جدلية.
في الرياضيات، يعد البرهان لحظة أساسية من لحظات الحقيقة، حتى لو لم نكن واعين بها دائما: "حتى في المعرفة الرياضية، ما يزال الطابع الأساسي للبرهان بعيدا عن أن يكون معناه وطبيعته لحظة من النتيجة الصحيحة: في هذه النتيجة يكون البرهان على العكس النقيض من ذلك شيئا قد مضى واختفى".
مع البرهان يظهر الجدل: ذلك الذي يربط النتيجة بالأسباب التي أدت إليها، ولكن أيضا الذي يوحد الذات (عالم الرياضيات) بالموضوع (المبرهنة) في عملية المعرفة. فعلا، إنما عن طريق البرهان سيقتنع عالم الهندسة بالنتيجة (المبرهنة)، وسيمنحها موافقته الباطنية:
"لن نعتبر عالم الهندسة شخصا يحفظ نظريات أقليدس عن ظهر قلب، أي من الخارج، دون أن يعرف براهينها، دون أن يستوعبها […] بطريقة استبطانية".
لكن سنجد هنا العلاقات الجدلية التي سوف تقام بين الذات والموضوع، بين الوعي وموضوعه. هكذا، "حتى الحقائق المجردة من النوع المذكور كأمثلة ليست معفاة من حركة الوعي الذاتي"، هذه الحركة الجدلية التي وصفناها أعلاه.
الأمر نفسه ينطبق على الحقائق التاريخية (تاريخ ميلاد قيصر): "إنما فقط في معرفة هذا الأخير بصورة مشتركة مع أسبابه سيتم اعتباره شيئا له قيمة حقيقية، حتى لو أن [...] النتيجة المجردة هي وحدها ما يفترض فيها أن يتعلق به الأمر".
لنستنتج أن "النتيجة المجردة"، "الجواب الواضح"، هما، مثل المعرفة المباشرة وأي شكل آخر يدعي الإفلات من الديالكتيك، مجرد أسطورة.
في الخطوة الثانية، أكد هيجل أن الجدل في الرياضيات يتسم أساسا بفقره. نتيجة لذلك، لا يمكن لهذا التخصص إلا أن يدعي أنه يدرك حقيقة أقل شأنا. وهي إحدى أولى مراحل البحث عن الحقيقة، وليست مرحلتها الأخيرة كما يظن الناس.
تعتمد الرياضيات على أدلة نتائجها. ولكن هذا الدليل ما هو إلا علامة على فقر موضوعها:
"إن بداهة هذه المعرفة المعيبة التي تفتخر بها الرياضيات، والتي تتباهى بها أيضا أمام الفلسفة، لا تتوقف إلا على فقر غايتها وعلى الطبيعة المعيبة لموضوعها، ويعود إذن إلى نوع لا تملك الفلسفة إلا أن تزدريه".
إنما العدد هو الموضوع المناسب للرياضيات. يتعلق الأمر بالقياس، بالعد، بإجراء العمليات، بتحويل الأرقام إلى أحجام... لكن، كيف نفكر في الأمر من وجهة نظر جدلية؟
"– الغاية التي تصبو إليها، أو حتى مفهومها، هي الحجم. وهذا يعني بالضبط العلاقة غير الجوهرية، بدون مفهوم. ولهذا فإن حركة المعرفة تتم على السطح، لا تمس الشيء نفسه، ولا تمس الجوهر ولا المفهوم، ولهذا السبب لا تكون تصورا".
من ناحية أخرى، يكون الهدف الصحيح للهندسة هو دراسة الأشكال في المكان. يمكن القول أن المكان هو الشيء الأكثر واقعية. لكن التفكير السريع يكفي لإدراك أن هذا عنصر مجرد وغير فعال. لكن، لنتذكر أن الحقيقة بالنسبة إلى هيجل تكمن في الملموس والفعال.
"- المادة التي تكشف عنها الرياضيات ككنز مبهج من الحقائق هي المكان والواحد. والمكان هو الوجود الذي ينقش فيه المفهوم اختلافاته كما في عنصر فارغ وميت، أو أنه على حد سواء غير متحرك وبلا حياة. والفعال ليس مكانية كما نعتبره في الرياضيات".
نتيجة لذلك، لا يمكن للتأمل الحساس الملموس ولا للفلسفة أن يكتفيا بعدم الفعالية هذا الذي تعاني منه قضايا الرياضيات.
هذا التجريد يدعو إلى التشكيك حتى في الطابع الجدلي للرياضيات، والذي أكده هيجل مع ذلك في الفقرات السابقة:
في هذا النمط من العنصر غير الفعال، لا توجد، فضلا عن ذلك، سوى الحقيقة غير الفعالة، أي فقط القضايا الثابتة، الميتة؛ يمكننا أن نتوقف عند كل واحد منها؛ فالتالية تبدأ من جديد لحسابها الخاص دون أن يتم نقل الأولى إلى التالية، ودون أن يولد من طبيعة الشيء نفسه، بهذه الطريقة، اتصال ضروري [لهذا السبب] تسير المعرفة على طول خط الهوية. ما هو ميت فعلا، لا يتحرك بذاته، لا يصل إلى اختلافات جوهرية، لا يصل إلى التضاد أو اللاهوية الجوهرية، ولا إلى عبور النقيض للتقيض، إلى الحركة النوعية المحايثة، إلى الحركة المستقلة".
يبدو لنا أن ما يؤكده هيجل هنا هو بالأحرى أننا نجد في هذا التخصص نوعا أدنى من الديالكتيك المفقر، على صورة موضوعه، العدد، ونوع الحقيقة التي يصل إليها.
بسبب تجريدها، تمثل الرياضيات مرحلة واحدة فقط من المراحل الأولى للمعرفة، وليست المرحلة النهائية. في الواقع، يفشل هذا التخصص في الارتقاء إلى ذروة المفهوم، الذي هو الموضوع الصحيح للفلسفة، والذي يحدد في النهاية العلاقات الرياضية نفسها:
"ذلك لأن الرياضيات لا تأخذ في الاعتبار سوى الحجم، الفرق غير الجوهري. تتجاهل كون المفهوم هو الذي يقسم المكان إلى أبعاده ويحدد الروابط بين هذه وبداخلها".
في حين أن "الفلسفة […] لا تأبه بالتحديد غير المركزي؛ فهي تفحص التحديد إلى الحد الذي يكون فيه تحديدا جوهريا. فعنصرها ومضمونها ليس المجرد أو غير الفعال، بل الفعال، ما يطرح ذاته ويحيى لذاته، الوجود في مفهومه".
من ثم نفهم لماذا أكد هيجل أن طبيعة حقيقة من هذا النوع تختلف عن طبيعة الحقائق الفلسفية . لا يمكن للحقيقة الرياضية أن ترتبط بالمفهوم؛ فالفلسفة هي التي تتمتع بهذا الامتياز؛ ونتيجة لذلك، فهي لا تتعارض مع في ما بينها، ولا يمكن للرياضيات أن تشكل بأي حال من الأحوال اعتراضا أو نموذجا للفلسفة.
(يتبع)
المرجع: https://www.les-philosophes.fr/hegel/phenomenologie-esprit/Page-10.html