جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الرابع والستون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8188 - 2024 / 12 / 11 - 03:33
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

منهج "ظاهريات الروح" (§ 9-17)
إن المنهج الذي سجعل من الممكن الكشف عن عدم كفاية المعرفة غير التأملية وقيادتها إلى وجهة نظر المعرفة التأملية ("المعرفة المطلقة") معروض انطلاقا من الفقرة 9. يتم تقديمه كحل لمشكلة معيار الحقيقة، أو بالأحرى، معيار صحة المعرفة الظاهرة. يبدو في الواقع أنه لإثبات عدم كفاية، لاحقيقة المعرفة، من الضروري أولاً امتلاك معيار يحدد قيمتها: يستخدم هيجل مصطلح Maßstab، الذي يمكن أيضًا تقديمه على أنه "وحدة قياس" أو "قياس مرجعي". والحال انه إذا كان الفيلسوف هو الذي يحدد المعيار المعني، فإننا نقع مرة أخرى في المشكلة التي تمت مواجهتها في الفقرة 4. التقييم الذي سيتم إجراؤه للمعرفة سيكون اعتباطيا تماما مثل المعرفة غير التأملية التي يقيمها، وسوف يكون إذن غير قادر على تحقيق الوظيفة التبريرية والتربوية لل"فينومينولوجيا". ذلك أنه من أجل الاعتراف بصحة التقييم انطلاقا من معيار معين، لا بد من الاتفاق على أن هذا المعيار هو بالفعل المعيار الذي تعتمد عليه حقيقة المعرفة. لكن بما أن الوعي الطبيعي لم يصل بالفعل إلى المعرفة الحقيقية، فإنه لا يتمكن من فهم شرعية معيار هذه المعرفة: "هنا، حيث لم يعمل العلم سوى على الدخول إلى المشهد، لا هو نفسه ولا أي شيء آخر غير مبرر كجوهر أو شيء في ذاته؛ وبدون شيء من هذا القبيل، يبدو أنه لا يمكن إجراء أي فحص" (§ 9، 165/58).
الغرض من الفقرات التالية هو وصف الحل المناسب لهذه المشكلة. مبدأها هو ما يلي: من الممكن تنفيذ ما يمكن أن نسميه نقدا محايثا للمعرفة الظاهراتية. والحقيقة أن هذه المشكلة التي جرى عرضها للتو لا تطرح إلا إذا افترضنا أن تقييم واقع المعرفة يجب أن يتخذ شكل نقد خارجي يقيس المعرفة في ضوء معيار خارجي لا تعترف به هذه المعرفة كما هو. وعلى النقيض من ذلك، تختفي الصعوبة إذا كان النقد المحايث ممكنا، بمعنى آخر، إذا كان من الممكن فحص المعرفة وفقًا لمعاييرها الخاصة . لكن، وفقا لهيجل، الوعي هو معياره الخاص، فهو “يعطي لنفسه معياره المرجعي، ولهذا سيكون الفحص بمثابة مقارنة ذاته بذاته” (§ 12، 166/59). بمعنى آخر، لتقييم نوع معين من المعرفة، يكفي مقارنته بما يعتبره الوعي الطبيعي معيار صلاحيته. وبقدر ما يكون الوعي الطبيعي هو الذي يربط هذه المعرفة بهذا المعيار، وبقدر ما يلتزم علاوة على ذلك بشرط التخلي عن المعرفة التي لا تتوافق مع هذا المعيار، فإنه يحتوي في ذاته على جميع عناصر النقد المحايث لمعرفته:
"مع ذلك، ليست هناك فقط، اعتبارا للجانب المتمثل في أن المفهوم والموضوع، والمعيار المرجعي وما يجب فحصه، حاضرون في الوعي نفسه، إضافة من جانبنا لا لزوم لها، ولكننا معفيون أيضا من عناء المقارنة بين [المصطلحين] ومن الفحص نفسه، فبينما يفحص الوعي نفسه، لم يبق لنا، من هذا الجانب، سوى أن ننظر لنرى". (§ 13، 167/59)
وبعد أن تم شرح مبدإ الحل، دعونا نأتي إلى كيفيات تنفيذه الذي يتم وصفه من خلال ثلاثة مفاهيم أساسية في "الفينومينولوجيا": "الوعي" و"شكل الوعي" و"تجربة الوعي".
الوعي
بالوعي، يقصد هيجل العقل بوصفه منقسما بين المعرفة والموضوع الذي تستهدفه هذه المعرفة، العقل الذي يربط مباشرة معرفته بالموضوع بينما يميز هذا الموضوع عن معرفته. لذلك فهو شيء آخر غير ما يُفهم كلاسيكيًا من خلال هذه الفكرة: ليس شرطا لكل معرفة، بل شكلاً من أشكال المعرفة. لقد جرى شرح معنى مصطلح "الوعي" في الفقرة 10 من خلال تعارضين: تعارض "الشيء في ذاته" و"الوجود-من-أجل-آخر" لهذا الشيء في ذاته، وتعارض يؤكد تعارض "الحقيقة" و"المعرفة". "يميز الوعي من تلقاء ذاته شيئًا يتعلق به في نفس الوقت؛ أو كما يقال: هناك شيء من اجله؛ والجانب المحدد من هذا الارتباط أو من وجود شيء من أجل وعي هو المعرفة. لكن عن هذا الوجود من أجل آخر [بالنسبة إلى الوعي] نميز الوجود في ذاته؛ ما يتعلق بالمعرفة يتميز أيضًا عنها بشكل واضح ويفترض أنه خارج هذه العلاقة أيضا؛ الجانب من هذا الموجود في ذاته يسمى الحقيقة". (§ 10، 165-166/58)
تتيح الفقرات من 11 إلى 13 توضيح معنى هذه التعارضات المبنية على ثلاث أطروحات. في المقام الأول، يرتبط الوعي بموضوعية يتميز بها عن نفسه: وهذا ما يسميه هيجل هنا “الموجود في ذاته”. لكي يتمكن من القيام بهذا التمييز، يجب أن يكون للوعي بنية مزدوجة، قصدية مزدوجة كما يقول هوسرل، يجب أن يكون من ناحية وعيا بالموضوع، ومن ناحية أخرى وعيا بذاته: "الوعي هو، من ناحية أخرى، وعي بذاته. وعي بما يكون حقيقة بالنسبة إليها، ووعي بما لديها من معرفة به” (§13، 167-168/59). "الوعي بذاته" هنا يشير إلى الوعي الذاتي الصوري وليس إلى ما سيفكر فيه هيجل تحت مفهوم "الوعي الذاتي" في الفصل الرابع من "الفينومينولوجيا". المقصود هنا ببساطة هو حقيقة أن الوعي واعٍ بمعرفته، وأنه يعلم أن موضوعه لا يختلط بالمعرفة التي لديه عنه. وتؤكد الأطروحة الثانية أن الوعي يمتلك على وجه التحديد المعرفة بالموضوع. إذا تم تعريف الموضوع على أنه "الشيء في ذاته"، فإن هذه المعرفة هي "الوجود-من-أجل-آخر" لهذا الشيء في ذاته، أي وجوده من أجل الوعي (§ 12، 167/59). وبما أن الشيء في ذاته هو ما يربط الوعي بمعرفته، فإن الشيء في ذاته – الأطروحة الثالثة – هو حقيقة المعرفة: “هذا الآخر ليس بالنسبة لها فحسب ، بله أيضا خارج عن هذه العلاقة أو الشيء في ذاته؛ [هذه هي] لحظة الحقيقة” (§ 12، 166-167/59).
(يتبع)
نفس المرجع