جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء 125)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8396 - 2025 / 7 / 7 - 04:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الأرواح والأديان
لكل دينٍ محدد روحٌ فاعلة خاصة به. كلُّ لحظةٍ دينيةٍ تحملها روحٌ حقيقيةٌ في التاريخ، روحٌ تتنامى تدريجيا. وإذا كان الفصلُ المُخصَّصُ لـ"الدين" يُقدِّمُ أكملَ جهة ظهر عليها بأحد الأشكال وحي الروح، فهو لا يزالُ على شكلِ الموضوعية، أي على شكلِ التعاقبِ الزمنيِّ الذي يُعرِفُ به نفسه. لذلك يُقدِّمُ هذا الفصلُ أيضا تاريخا للأشكالِ الدينيةِ مزودا بمعنى (تاريخٌ فعلي، تُسمَّى مراحلُه الثلاث، كما ذُكِرنا آنفا، "فعالياتِ الروح").
في الدين الطبيعي، يتخذ الوعي الذاتي الفعال، على نحو متناقض، شكل وعي يتميز، من جهة، بغيابه عن الباطنية، ومن جهة أخرى، بشكل من المباشرة والطابع الغريزي. الروح التي تظهر لذاتها خالية من الذات، وتتجلى في أشكال مجردة، غامضة، غير مناسبة (دين النور، وحدة الوجود النباتية والحيوانية، عبادة الأهرامات والمسلات). يسير الدين الطبيعي جنبا إلى جنب مع روح الاستبداد الشرقي أو روح الشعوب المنغمسة في الطبيعة.
يتضمن دين الفن صورةً محددةً للروح يُطلق عليها هيجل "الروح الأخلاقية" أو "الروح الحقيقية" (der sittliche oder der wahre Geist). هذه الروح الجوهرية هي روح مدينة إنسانية مُتحررة من قبضة الطبيعة، لكنها لم تجتز بعد اختبار الذاتية، والألم، والقلق (سوف تطبع الباطنية المسيحية في البداية بالوعي بالشر، بالخطيئة). تُجسد المدينة روحا كونية (الجميع يُساهم)، مفردنة وملموسة (الروح الوطنية): إنها روح شعب حر، لكنها روح إنسانية محدودة. خصائصها هي الانسجام أو السكينة، والسعادة، وحقيقة أن المدينة تُكرم نفسها بالاحتفاء بإلهها.
يعود الطابع الأخلاقي لهذه الروح، في المقام الأول، إلى "الثقة المباشرة" (das unmittelbare Vertrauen)، التي يُسندها اليونانيون فرديا وبشكل مباشر إلى شعبهم. يبدو أن الدين اليوناني، الذي يُقدم نفسه كدعامة للمدينة، يتمتع بميزة كونه دينا شعبيا عن دين المعاصرين. فهو لا يتألف من عقائد أو مؤسسات مفروضة، بل من إيمان بالله وحياة فاضلة تتشكل فيها وتستقر وحدة الشعب. يُدرك كل فرد نفسه معنيا بهذه الممارسات الجماعية.
في اللحظة التي تلت عالم الآلهة هذا (العالم اليوناني)، ستنخرط الروح في الشكل الفردي؛ وإذا بالإنسان، في العالم الروماني، يحاول تحديد موقع الإلهي في يقينه الذاتي، أي في علاقة فردية ومنعزلة مع الجوهر.
من ناحية أخرى، جميعهم، مهما كانت حالتهم (مع ضرورة الإضافة: إن لم يكونوا عبيدا، أو نساءً، أو أجانب مستأمنين)، مواطنون ويشاركون في حكومة المدينة. فضلا عن ذلك، لا يخضع اليونانيون والرومان لـ"السيادة العليا " لشخص واحد - كما هو الحال في ما يُسمى بالعالم الشرقي حيث يعترف بحرية شخص واحد فقط، وهو المُستبد - بل بخضعون لـ"قيادته"، باعتبارهم أناسا أحرارا.
(يتبع)
نفس المرجع