ذكريات مضمخة بالحنين إلى زمن مفقود –
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8400 - 2025 / 7 / 11 - 06:52
المحور:
كتابات ساخرة
واحد النهار كنا عند المرحوم محمد عابد الجابري فالقسم وتكلم لينا عن الساعين إلى المعرفة من أجل المعرفة في اليونان القديمة. كانت لليونان عدة مستعمرات وعلى رأس مجتمعها فئة في حل من العمل نظرا لوجود العبيد، ولذلك تفرغت للبحث عن المعرفة والسفر من أجل تلك الضالة.. عندما انتهى رحمه الله من درسه تدخلت وقلت له: هؤلاء يسمون باليونانية: شبتيكوس. تجاوب معي بكل أدب وقال لي: مزيان يعقل الواحد..
وكيفاش حتى عرفتها؟
قرأت المعلومة في كتاب جوزيف برودون حول الملكية الخاصة التي اعتبرها فيه مجرد سرقة.
والمرحوم سالم يفوت، تلميذ الجابري، حتى هو وقع لي معه نفس المشكل الطريف. من عادته، رحمه الله، أن يأتي في الوقت المحدد، وما أن يستقر به المقام وقوفا وراء مكتبه حتى يخرج كناشه من حقيبته الدبلوماسية ويفتحه قبل أن يضعه فوقها، ثم يشرع في إملاء درسه علينا ونحن نكتب وكأن على رؤوسنا حط الطير. وهكذا تستمر الحصة إلى نهايتها، بحيث أنه لم يكن يسمح لنا بفتح باب النقاش. ولكن ذات مرة خرج عن عادته ودخل معنا – نحن الطلبة – في نقاش حول الشذرات المتبقية من الفلاسفة السابقين على سقراط مثل هيرقليطس وبارمينيدس، وهل من الممكن في يوم من الأيام العثور على أصول هذه الشذرات.
رفعت اصبعي طالبا التدخل. وحين أذن لي، رحمه الله، بالكلام، قلت: ممكن العثور على أصولها، الدليل هو أنه تم في مصر العثور على كتاب مفقود لأرسطو عنوانه “تمهيد إلى الفلسفة” وقام الأستاذ الجامعي عبد الغفار مكاوي بترجمته إلى العربية.
لما سمع أستاذنا تدخلي، ارتسمت على سحنات وجهه ملامح الغضب والتشنج وقال: علاش أنا ما نكوش عارف هاد الشي؟
انتهت الحصة وذهب كل واحد منا إلى حال سبيله. مر يوم أو يومان، سألني اصدقائي الطلبة من المحمدية عن المصدر الذي اقتبست منه تلك المعلومة. فلم اجد بدا من مصارحتهم بالحقيقة دون لف أو دوران. ربحت المعلومة كمكافأة لي مقابل جلب قليل من الخميرة من عند بقال الحي. جلست بالقرب من أمي وهي منخرطة في عجينها، عندما أفرغت الكاغط من الخميرة رمت به أمامي. التقطته، وجدته جزء صغيرا مقتطعا من صفحة ثقافية بجريدة العلم. سرحت الكاغط وبان لي ذاك الخبر فقرأته، ولحسن حظي سلم نصه الصغير من التمزيق.
ضحك أصدقائي ملء أشداقهم وشاركتنم ضحكهم.