جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثامن والستون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8198 - 2024 / 12 / 21 - 00:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في اليقين الحسي، يكون اليقين والحقيقة متساويين، في هوية مباشرة: ما أنا متأكد منه صحيح. هذه الهوية، التي سنرى تفككها، لن يُعاد اكتشافها، كوسيطة، إلا في نهاية كتاب "ظاهريات الروح". ذلك لأنه من الواضح أن المعرفة التي هي معرفة اليقين الحسي تبدو أفقر بكثير من كونها ثرية: “مما تعرفه لا تقول إلا هذا: هذا هو؛ وحقيقتها لا تتضمن إلا وجود الشيء [المعني]” (174/63). إن المحتوى الموضوعي لليقين الحسي هو بلا شك غني بالنسبة للوعي في اللحظة التي يدركه فيها بشكل وثيق، ولكن من هذا المحتوى يقول فقط: "هذا هو". إن الوعي متأكد من "الشيء [ die Sache ]" الذي يدركه، لكن حقيقة هذا اليقين، كما ذكرنا، تظل غير محددة تماما. لا خصائص، لا مفاهيم ولا وصف؛ يصر هيغل على أن الشيء المستهدف باليقين الحسي لا يعرف بواسطة الفكر.
جانب الذات، الأنا المتيقنة من هذا، تبدو أنها غير محددة تماما، لأنه لا يمكن وصفها بخلاف الذات المفردة الخالصة، في علاقة مباشرة مع وجود مفرد. وبلغة هيجلية: الأنا، هذا الكائن، متيقنة من هذا الشيء، من هذا. ولذلك فإن اليقين الحسي، في طرفيه، هو علاقة مباشرة وفردية بحتة، حيث يتناسب وفقر الحقيقة المعروفة والمعلنة مع الغنى الذي يعتقد المقصود الذاتي أنه يدركه.
ولكن هناك أيضا فرقا، في مباشرية اليقين الحسي، بين مقصودي الذاتي والوجود المتعارض-مع. عبر عنه هيغل بطريقة غريبة على ما يبدو: “إن اليقين الحسي الفعال ليس فقط هذه المباشرية المحضة، بل هو شيء يأتي ليقوم على نفسه كمثال لذاته” (175/64). ويضيف على الفور أن "التنوع الرئيس" (١٧٥/ ٦٤) يتعلق بالتنوع الذي يميز بين هذا الشخص والهذا، اللذين "ينفصلان على الفور عن الوجود الخالص" ( المرجع نفسه ). هناك إذن جانبان، أحدهما ذاتي، والآخر موضوعي، وكلاهما "مثالان" للوجود المفرد والمباشر.
بيد أن الوعي الحسي يقحم تسلسلا هرميا بين هذه "الأمثلة"، لأنه يطرح المتعارض-مع المباشر كما هو الجوهري، كما هو موجود بطريقة مباشرة، والانا ك"ما هي غير جوهرية ووسيطة" (176/ 64). وكما سيكون الحال بالنسبة إلى الشكلين الآخرين للوعي – الإدراك والفهم – تم طرح لامساواة مبدئية بين حدي التعارض، لصالح المتعارض-مع؛ هذه اللامساواة تتمثل هنا في أن المتعارض مع موجود بذاته وبطريقة مباشرة، بغض النظر عن كونه معروفا أو غير معروف، بينما المعرفة تتوقف على المتعارض-مع ولا تكون إلا من خلال وسيطه. فعلا، في ذاته أو لأجلنا، لا هذا ولا الآخر مباشران. هذا التنوع هو توسط متبادل: فاليقين بالذات يأتي بفضل المتعارض-مع، وهذا الأخير لا يمكن هو الآخر معرفته إلا بواسطة الأنا. لكن بالنسبة للوعي الحسي، وحدها المعرفة تكون وسيطة.
هذه هي الحالة الأولية للوعي. ومن الآن، سوف يتعلق الأمر باتباع التجربة التي قام بها لمتعارضه، والتي تتمثل في معرفة ما إذا كانت معرفة المتعارض الحسي، الهذا، هي في الواقع معرفة مباشرة بوجودها المباشر. لن يتعلق الأمر إذن بتقييم خارجي لهذا الشكل من الوعي، بل بالنظر إلى ما إذا كانت معرفة اليقين الحسي، وفقا لفحصها الخاص، صحيحة فعلا؛ ما إذا كانت فعلا استيعابا مباشرا للجوهر، لهذا الحسي.
ديالكتيك اليقين المحسوس
ال"هذا"
يأخذ هذا الديالكتيك شكل سلسلة من الأسئلة التي يطرحها الفيلسوف على الوعي الحسي، مما يعطي طابعًا أكثر واقعية، ولكن ربما أيضا أكثر اصطناعية، لهذا الجزء من الفصل.
باعتبار المتعارض مع هذا الوعي هو الهذا الحسي، يتعلق السؤال الأولي لهذا الديالكتيك بوجود الهذا، الذي يتضح على الفور أن له بعدين، الآن والهنا ( 176/ 64). كل ثراء اليقين الحسي يحدث في زمان ومكان خاصين. ينصب السؤال الأول على الآن، والجواب الأول يعلن عن نفسه:"الآن هو الليل" (176/ 64). للتأكد من هذه الحقيقة، يمكننا أن نكتبها؛ لكن في اليوم التالي عند منتصف النهار، يكون الآن هو الزوال، لدرجة أن هذه الحقيقة "تبخرت" (177/64). هذه التجربة البسيطة غنية جدا بالدروس حول طبيعة الآن.
بالفعل، يمكننا الآن التمييز بين جانبين من الآن. من ناحية، هناك، إذا جاز التعبير، محتوى أو وجود الآن، مثلا الليل؛ إنه موجود مباشر، ونحن عموما نعبر عن هذا الموجود بطريقة غير شخصية: "إنه الليل". حتى الآن، اليقين الحسي هو في الواقع معرفة مباشرة بالموجود المباشر. مع ذلك، أثبتت التجربة أن محتوى الآن هو أيضًا غير موجود، لأنه عندما يوجد النهار، لا يوجد ليل. والحال أن النهار هو أيضا آن وموجود. هكذا يرتسم جانب آخر من الآن، والذي يمكن أن نسميه "شكلا" له، على اعتبار أن الأخير يحتفظ بذاته من خلال المحتويات المختلفة:
"يحتفظ الآن نفسه بذاته بشكل جيد، لكنه كآن بحيث لا يكون هو الليل؛ كذلك يحتفظ على ذاته، في مواجهة النهار الذي حل الآن، من حيث أنه آن ليس هو النهار أيضا، أو من حيث أنه سلبي بشكل عام". (177/65)
هناك إذن شيء مشترك بين كل "الآنات" المفردة، لكنه ليس أيا منها. ولأن الآن لا يمكن اختزاله في أي من محتوياته، في أي من "حالاته"، كتب هيجل أنه "سلبي بشكل عام" (177/65). ومع ظهور هذه السلبية، في اليقين الحسي، يتدخل شيء مخالف لما أكدته، ألا وهو الوساطة. ولأن الآن المحتفظ على ذاته ليس أي آن مباشر، فهو "الآن الوسيط" (نفس المرجع نفس). هذه الوساطة أو الوساطة المتبادلة تتمثل على وجه التحديد في ما يحتفظ بذاته بفعل عدم وجود المباشر: هو وسيط بما هو نفي له.
(يتبع)
نفس المرجع