جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السادس والستون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8192 - 2024 / 12 / 15 - 18:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تجربة الوعي
يقصد هيجل بتجربة الوعي العملية التي يقوم خلالها الوعي، في كل شكل من أشكاله، بفحص حقيقة معرفته، أو يضع "واقع" معرفته على المحك. ماذا يعني استخدام هذا الأفهوم في هذا السياق؟ للوهلة الأولى، يبدو أن مفهوم التجربة يُفهم بالمعنى الإبستيمولوجي للتجريب: قد يبدو أن الأمر يتعلق بعملية تواجه فيها التمثلات الأشياء التي من المفترض أن تبلغ عنها، ومن ثم قد يعني مصطلح التجربة تحديد النتيجة السلبية لهذا الإجراء، كما هو الحال في التكذيب التجريبي. ومع ذلك، كما لاحظنا، فإن المواجهة ليست بين المعرفة وموضوعها، بل بين المعرفة وتصور الموضوعية الذي يبدو أنه يضمن حقيقتها. فضلا عن ذلك، فإن أصالة المفهوم الهيجلي للتجربة تكمن في أنه لا يشير فقط إلى العملية التي تؤدي إلى التكذيب من خلال التجربة، بل كذلك إلى التغيير في المعرفة الناتج عنها. وأخيرا، يرجع ذلك إلى أن هذا التغيير لا يأتي فقط من البحث عن معرفة أكثر ملاءمة للأشياء التي يتعلق الامر بمعرفتها، كما هو الحال في منطق التجريب، بل من إنتاج معرفة أخرى تفترض تصورا مختلفا لمعرفة الموضوعات التي يتعين معرفتها.
بعبارة أخرى، التجربة هنا ليست اكتمال شكل من أشكال الوعي، أو تحسن نمط معين من المعرفة، بل هي الانتقال إلى شكل آخر من أشكال الوعي، أو تغيير النموذج الإرشادي بطريقة أو بأخرى. إن مصطلح التجربة يؤخذ وفق معانيه الإبستيمولوجية بقدر ما يؤخذ وفق معاني أخلاقية أو وجودية، كما سبق أن أشرنا. يتحدث هيجل بالتالي عن “التطهير” (§ 5، 160/55)، وعن اختبار “اليأس” (§ 6، 161/56) وحتى عن “التحويل” (§ 15، 170/61). في الفقرة 13، يحدد طبيعة الحركة الجدلية لتجربة الوعي:
"يختبر الوعي، نتيجة لذلك، أن ما كان بالنسبة إليه سابقا في ذاته، ليس في ذاته، أو أنه لم يكن في ذاته إلا من أجله (الوعي). وبقدر ما يكون هكذا، حتى لموضوعه، يجد أن معرفته لا تتوافق مع هذا الاخير، لا يحافظ مثل هذا المتعارض مع على نفسه؛ أو [مرة أخرى:] يتغير المعيار المرجعي للفحص عندما لا يصمد ما كان من المفترض أن يكون معيارا له في وجه الفحص؛ والفحص ليس فقط فحصا للمعرفة، بل أيضًا للمعيار المرجعي الذي يتضمنه (§ 13، 168/69)
يمكننا بالتالي أن نميز بين ثلاث لحظات في ما يسميه هيجل "تجربة الوعي": اختبار التناقض الذاتي؛ رفض المعرفة والموضوعية المرتبطة بها؛ التحويل إلى شكل جديد.
(1) من خلال مقارنة معرفته بتصوره للموضوعية، يكتشف الوعي أن هذه الأخيرة غير ملائمة للأول، بل تتعارض معه. مثلا، يصبح واعيا بأن اليقين الحسي لا يعرف الحقيقة الأكثر عينية وتفردا، الهذا الخاص الذي استهدفه في البداية، ولكن الهذا المعبر عنه بكلمات ومفاهيم، الكوني؛ ثم يدرك أن الإدراك لا يعرف الوحدة الموضوعية للخصائص، بل وحدتها الذاتية (أن الإدراك حكم)؛ وأخيرا، أن الفهم لا يعرف عالم القوانين الفائقة المعقولية الموجود خلف الظواهر، بل يعرف وحدة الفكر الخاصة بالظاهراتية".
(2) يدرك الوعي أن موضوعه، ما يعتبره في ذاته، ليس إلا شيئا في ذاته بالنسبة إليه: إن تصوره للموضوعية ليس سوى إنتاج لمعرفته الخاصة، التي تنهار معه. لنواصل توضيح هذه العملية باستخدام الأشكال الثلاثة الأولى. بمجرد أن يفهم الوعي أن ما يعتبره هذا فرديا وملموسا يُعطى له في معرفة مجردة وكونية، فإنه لم يعد لديه أي سبب للاعتقاد بأن الواقع في حد ذاته يجب أن يُنظر إليه على أنه "هذا". بمجرد أن اختبر الوعي كون خصائص الأشياء ذاتية كالوحدة المنسوبة إليها في الإدراك، لم يعد لديه أي سبب للاعتقاد بأن الواقع سيتكون من أشياء جوهرية توحد الخصائص الموضوعية. وبالمثل، بمجرد أن يفهم أن الفهم هو ما يختبئ وراء العالم فوق المعقول للقوانين، لم يعد هناك أي سبب لاعتبارها باطنا (موضوعيا) قد يكون أساسا خارجيا (ذاتيًا)، أساس الظاهراتية.
(3) آنئذ يفقد معيار الفحص ذاته معناه. يدرك الوعي أن حقيقة معرفته القديمة لا تتوقف على موضوع يقع في ما وراءه (القديم في ذاته)، بل على توحيد أفضل للحظات معرفته المختلفة. والنتيجة هي "تحويل الوعي" إلى نوع جديد من المعرفة سيولد في حد ذاته مفهوما جديدا عن الشيء في ذاته. يظهر شكل جديد من الوعي يتمثل في تجاوز تناقضات الشكل السابق. وهكذا، ينشأ موضوع الإدراك، الشيء كوحدة لخصائص مختلفة، مباشرة من التجربة السلبية لـ "اليقين الحسي": فبدلاً من الاعتقاد بأن الموضوع هو هذا مفرد لا يمكن التعبير عنه، لا يمكن وصفه، يُدفع الوعي إلى الاعتراف، تحت الإكراه. بسبب تناقضاتها الداخلية، يجب أن يُنظر إلى تلك الموضوعية بشكل مختلف، باعتبارها توحيدا لخصائص كونية مختلفة. وقد تم التخلي عن هذا المفهوم نفسه أثناء الانتقال إلى الشكل الموالي ("القوة والفهم")، حيث لم يعد الموضوع وحدة ثابتة وجوهرية، بل وحدة دينامية تحددها العلاقات التي تحافظ عليها الأشياء مع بعضها البعض وفقا لقوانين الطبيعة.
علمية "فينومينولوجيا الروح"
لقد اعتبرنا حتى الآن أن هذه الحركة المحايثة للوعي، والتي تم تطويرها عبر "الفينومينولوجيا"، تتوافق مع الطريقة التي يختبر بها لاحقيقة معرفته.
لقد انطلقنا من مبدإ أن الفيلسوف لا يحتاج إلى فحص الوعي الطبيعي، وأنه يكفيه أن يصبح متفرجا خالصا، ليلاحظ الطريقة التي ينفي بها كل شكل من أشكال الوعي نفسه حتى في تجربة لاحقيقته. وهذا صحيح جزئيا فقط، لأنه بالنسبة إلى لوعي، تظل نتيجة تجربته سلبية: فهو لا يؤدي في الواقع إلى أي موضوع جديد ولا إلى أي شكل جديد يمكن أن يحتوي في داخله على حقيقة الشكل السابق. إنما الفيلسوف، في موقع المتفرج، هو الذي يستخلص نتيجة إيجابية من كل تجربة للوعي، وهو الذي يستنبط منها شكلا جديدا. يضيف الفيلسوف، الذي يظهر بشكل متحفظ ولكن بانتظام في النص باستخدام "نحن" أو "من أجلنا"، شيئا حاسما من خلال اقتراح تفسير إيجابي (تأملي) للتجربة السلبية (الجدلية) للوعي، وبالتالي تأسيس رابط بين اشكال الوعي، التي بموجبها يظهر كل منها على أنه حقيقة الشكل السابق، كلحظة في قصة، بينما يتم، إذا أخذت منعزلة، تصورها جميعا على أنها مستقلة عن بعضها البعض مكتفية بذاتها. إن ما يضيفه الفيلسوف إلى تجربة الوعي، مثل كونها "لذاتها"، هو بالتالي من ناحية نتيجته الإيجابية، وحقيقته، ومن ناحية أخرى ضرورة الانتقال من كل شكل إلى آخر. يؤكد هيجل على أن هذه الحقيقة وهذه الضرورة هما "من أجلنا" وليس "من أجل الوعي"، أو أن ولادة الموضوع الجديد، وبالتالي أيضًا الشكل الجديد للوعي، تحدث "خلف ظهره":
"يتم توجيه التسلسل الكامل لأشكال الوعي وفقا لضرورة خاصة به. وحدها هذه الضرورة، أو ولادة المتعارض مع الجديد الذي يقدم نفسه للوعي دون أن يعرف كيف يحدث له ذلك، هو ما يحدث لنا بطريقة ما خلف ظهره. ومن خلال ذلك، تدخل لحظة الوجود في ذاته أو من أجلنا في حركتها، التي لا تمثل نفسها للوعي المتضمن في التجربة نفسها؛ لكن محتوى ما نراه يولد يكون من أجلها، ونحن لا نفهم سوى جانبها الصوري أو الواقعة الخالصة، بالنسبة إليها، لولادتها؛ بالنسبة إلبنا، ما يولد على هذا النحو هو فقط متعارض-مع – بالنسبة إلينا، في نفس الوقت حركة وصيرورة. (§ 15، 171/61)
كما يرى هيجل، تكون خاصية العلمية التأملية كشفا للحقيقة على شكل نسقية وضرورة محايثة للمعرفة. إذا كان بإمكان "الفينومينولوجيا" أن تدعي أنها علمية، رغم أنها ليست عرضا للحقيقة على شكل مفهوم، بل على النقيض من ذلك، عرضا للمعرفة غير الحقيقية، أو المعرفة الظاهرة فقط، فلأنها، من ناحية، تكشف حقيقة التجارب التي يختبر فيها الوعي لاحقيقة معرفته، ومن ناحية أخرى لأنها تبرز ضرورة ونسقية الأشكال المختلفة للوعي الطبيعي: “بحكم هذه الضرورة، يكون هذا المسار نفسه المؤدي إلى العلم علما بالفعل" (§ 16، 171/61). أخيرا، تكشف "الفينومينولوجيا" عن نفسها على أنها عملية ذهاب وإياب بين ثلاث وجهات نظر: الوعي الطبيعي الموصوف، والمقحم في أشكال محددة هي بالنسبة إليه شبيهة بالغمامات؛ القارئ الذي يمر عبر الأشكال الجديدة بالنسبة إليه إلى حد ما حسب مستوى ثقافته؛ ووجهة نظر الفيلسوف، "من أجلنا"، التي توضح للقارئ كيف يؤدي كل شكل من أشكال الوعي الطبيعي وظيفة محددة وضرورية في الطريق نحو المعرفة المطلقة. وهذه الضرورة هي التي تجعل علم الفينومينولوجيا ليس مجرد مقدمة، بل أيضا "الجزء الأول من العلم" (109/29).
(يتبع)
نفس المرجع