جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السابع والخمسون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8174 - 2024 / 11 / 27 - 20:56
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في ظل هذه الظروف، نرى أن الأمر لم يعد يتعلق بالتحدث مثل أنصار مذاهب النزعة الحماسية، و"المعرفة المباشرة" (الشيء في ذاته، الله، إلخ..).
في الواقع، المعرفة في مرحلتها الأولى، المعرفة كما هي أولا، العقل المباشر، ليست سوى وعي حسي. هذا "الوعي بدون روح" ليس سوى شكل غير مناسب، أدنى، لا نجد فيه إلا قليلا من الحقيقة.
على عكس النزعة الحماسية، التي "تبدأ كطلقة مسدس من المعرفة المطلقة"، يجب "أن نفهم أنه لكي تصبح معرفة بالمعنى الصحيح، […] يجب أن تقطع طريقا طويلا وشاقا".
وكما رأينا، فإن المراحل المختلفة لهذا المسار، والتي تمثل كل واحدة منها أحد أشكال الروح، هي ما تم عرضه في الفينومينولوجيا : "يجب تحمل طول هذا الطريق، لأن كل لحظة ضرورية – من ناحية أخرى، يجب الوقوف عند كل لحظة من هذه اللحظات، لأن كل واحدة منها هي في حد ذاتها شكل فردي كامل ولا يتم النظر إليه بشكل مطلق إلا بالقدر الذي تعتبر فيه تحديديته ككل أو كملموس".
ويتم ذلك على مستويين يجب التمييز بينهما بوضوح، من أجل فهم أفضل للمشروع الهيغلي. اولا، على مستوى العقل الكوني، الذي يتجاوز كل إنسان بعينه. هذه هي وجهة نظر تقدم العقل البشري في مسيرته عبر التاريخ. مثلا: اكتشاف الرياضيات. هذا ما يشير إليه هيجل عندما يقول أنه يجب علينا فحص الفرد الكوني، روح العالم في عملية تشكله.
لكن أيضا على مستوى كل فرد تتمثل مهمته أيضا في المرور لحسابه الخاص عبر المراحل المختلفة لهذا التقدم (من خلال دراسة الرياضيات، مثلا). إنه طريق أكثر سهولة: "يسافر كل فرد مخصوص […] في درجات مختلفة من ثقافة الروح الكونية، […] لكن مثل العديد من الاشكاب التي أودعتها الروح بالفعل، مثل مراحل الطريق المختطة والمسطحة قبلا".
فضلا عن ءلك، "لأن [...] روح العالم تحلت بالصبر لعبور هذه الأشكال في فترة زمنية طويلة ولأخذ على عاتقها العمل الهائل للتاريخ الكوني [...] الذي لا يمكن للفرد أن يستخدمه بجهد أقل في تصور جوهره. لكن في الوقت نفسه، منذ ذلك الحين، يواجه مشاكل أقل لأن ذلك في حد ذاته قد تم إنجازه. […] لا يجب علينا بعد الآن أن نحول الوجود، الوجود-هنا، إلى وجود في ذاته، بل فقط الوجود في ذاته إلى شكل الوجود لذاته".
لذلك يجب أن نضع في اعتبارنا أنه يمكننا قراءة "فينومينولوجيا الروح" وفقا لهذين المستويين من القراءة؛ لكن هيجل يمنح امتيازا للروح الكونية بطريقة معينة. إن تقدمها عبر التاريخ هو ما تم وصفه أولاً وقبل كل شيء؛ وكون هذا العقل الفردي أو ذاك يعيد إنتاج خط سير الرحلة لحسابه الخاص هو بالتأكيد أمر مثير للاهتمام في حد ذاته، لكنه يظل ثانويا.
هنا يعرض هيجل نفسه للاعتراض: لماذا يتم تقديم مختلف الأشكال غير الملائمة، غير المكتملة، غير الكاملة إذن المشبوهة قليلاً دائما، التي يتخذها على التوالي العقل، أي كيف يبدو ظاهراتيا لنفسه، بدلاً من أن يمنحنا حقيقة ما هو؟ يبدو أن هذا هو ما يمكن أن نتوقعه من كتاب في الفلسفة: أنه يعطينا الحقائق. وليس قائمة الأخطاء المتتالية التي قادتنا إلى اكتشاف هذا الحقائق:
"بما أن هذا النظام لتجربة الروح لا يفهم إلا ظهورها الظاهراتي، فإن التقدم الذي يؤدي من هذا النظام إلى علم الحقيقة الذي هو في صورة الحقيقة يبدو سلبيا فقط، ويمكننا أن نرغب في أن نبقى معفيين من السلبي، لأنه كاذب، ونضطر إلى الانقياد إلى الحقيقة دون مزيد من التأخير؛ ما الفائدة من الاهتمام بالكاذب؟"
هذا بالضبط ما نراه في الرياضيات: إنها الحقيقة التي يتم تسليمها إلينا، وليس الأخطاء المتتالية التي اقترفت قبل الوصول إلى الحساب الصحيح، أو البرهان الصحيح، أو مبدإ CQFD* ("ما كان يجب البرهنة عليه") الهندسي الشهير.
منذ القرن السابع عشر ، قاد هذا النموذج الرياضي الفلاسفة إلى التساؤل عن صحة نتائج تخصصهم. تبناه البعض، مثل ديكارت أو لايبنتز اللذين تساءلا عن تشكل “الرياضيات الكونية”، أو سبينوزا الذي أسس أخلاقه “ أكثر هندسية”، مثل مهندس، من البديهيات والقضايا المستنبطة من بعضها البعض.
ظل هذا النموذج سائدا في القرن التاسع عشر، عندما كتب هيجل هذه السطور. لكنه انخرط في نقد هذا النموذج، وهنا بالتحديد طور هذا الجهد لإعادة تقييم الفلسفة في مواجهة هذا التخصص الملكي الذي هو الرياضيات.
ذلك ما قاده إلى إعادة التفكير في مفهوم الحقيقة، وإعطاء المكانة الفضلى الكاملة للحقائق الفلسفية:
"إن التصريحات حول هذه النقطة تعيق بشكل خاص الوصول إلى الحقيقة. وهذا سيتيح لنا الفرصة للحديث عن المعرفة الرياضية، التي ترى في المعرفة غير الفلسفية المثل الأعلى الذي ينبغي للفلسفة أن تسعى جاهدة إلى تحقيقه، رغم أن جهودها، حتى الآن، ذهبت سدى".
إن إعادة التعريف الأساسية هذه، التي تكمن وراء هذا التحليل النقدي للرياضيات، هي ما سنتتاوله في السطور التالية.
(يتبع)
نفس المرجع
--------------------------------
(*) ce qu il fallait démontrer