جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السادس والخمسون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8172 - 2024 / 11 / 25 - 22:54
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ سبينوزا، كنا حذرين من النزعات الأحادية (النظريات التي تؤكد أن الكل هو واحد)، لأننا نشتبه في أنها تؤدي إلى وحدة الوجود، وبالتالي إلى الإلحاد. يطمئن هيجل المنتقدين المحتملين لهذه النقطة ويتجنب الرقابة، من خلال إظهار أننا نستطيع تصور شكل من أشكال الأحادية التي تحافظ على فكرة الله؛ يكفي أن يتم تعريف الكل على أنه روح وليس مجرد جوهر:
"أحدث فهم الله باعتباره الجوهر الواحد ثورةً في القرن الذي جاء فيه هذا التعريف […]؛ كان السبب […] في غريزة أن الوعي الذاتي ما تم الحفاظ عليه فيه، ولكنه ببساطة غاص فيه".
مع ذلك، لنلاحظ أن الأمر بالنسبة إلى هيجل لا يتعلق بتعارض بين الجوهر والروح: قد نبقى في ثنائية، غير قادرين على القيام بتوليف بين مصطلحين متعارضين. على العكس من ذلك، يعرف هيغل الحقيقي، المطلق، بالطريقة التالية: "هو الجوهر الروحي".
في الواقع ، لا يدعي هيجل أنه يقوم بعمل أصيل من خلال تعريف المطلق بكونه روحا. ويؤكد أن هذه هي مساهمة المسيحية اللاتعوض، والتي تشكل حقيقة عصرها: المطلق كروح: مفهوم سام بين الجميع، والذي ينتمي حقا إلى العصر الحديث وديانته. الحقيقي ملموس كما رأينا؛ لكن الروحي هو وحده الفعال. وكل شيء آخر مجرد، وما هو إلا تحديد للعقل مفصول بالتجريد عن هذا الأخير.
نستطيع إذن إعادة تركيز تفسيرنا حول فكرة "الروح". قلنا في بداية شرحنا أن مشروع هيجل هو دراسة الأشكال المتعاقبة المختلفة التي يمكن أن تتخذها الحقيقة. يمكننا الآن إعادة صياغة ذلك بعبارات أكثر ملاءمة، قائلين إننا نبحث عن الأشكال المختلفة التي تتخذها الروح عبر التاريخ، في صيرورته الجدلية.
في الحقيقة، الأمران مرتبطان: الحقيقة هي ما يبدو كذلك للعقل. أو مرة أخرى، لا توجد حقيقة دون عقل يكتشفها. إن الحديث عن الأشكال المتعاقبة للحقيقة يعني في الواقع الحديث عن الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن الحقيقة. لكن بما أن الروح هي الكل، المطلق، الواحد في عبارة "الكل هو واحد"، يمكننا أن نقترح هذه الصيغة الأخيرة: نسعى هنا لوصف الأشكال المتعاقبة التي يتخذها العقل في بحثه عن حقيقة ما هو.
للقيام بذلك، يجب أن ينكشف لنفسه. وبعبارة أخرى: يجب أن يعي نفسه. ولذلك تظهر صلة أساسية بين الوعي والعقل. إن العقل، قبل كل شيء، ليس إلا "في ذاته": هو ما هو، دون أن يعرف أنه كذلك.
شيئا فشيئا، يصبح العقل واعيا بذاته: ينكشف لذاته. أولًا، هذا الوعي الذاتي غير كامل؛ ولذلك ينتقل العقل من شكل إلى شكل تال، حيث يصبح رويدا رويدا أكثر وضوحا. يسمي هيجل هذه العملية التأملية "لذاته". بالنسبة إليه، الوعي و"لذاته" مترادفان.
لكن هذا الوعي لم يرق بعد إلى مرتبة العلم. يمكننا أن ندرك ظاهرة ما دون أن نعرفها بشكل كامل. عندما نمتلك معرفة مطلقة ونسقية عن حركة الروح عبر التاريخ، نصل إلى مرحلة "في ذاته لذاته"، التي تجمع بين المرحلتين السابقتين، أي إلى لعلم:
"الروحي هو وحده الفعال. إنه الجوهر أو ما هو في ذاته […] أو مرة أخرى هو في ذاته ولذاته. لكن هذا الوجود في ذاته ولذاته، ليس كذلك أولا إلا بالنسبة إلينا… ويجب أن يكون أيضا كذلك لذاته - عليه أن يكون معرفة بالروحي ومعرفة بذاته من حيث هو روح؛ وهذا يعني أنه يجب أن يتمتع لحسابه الخاص بمكانة الموضوع، ولكن عليه كذلك أن بكون، بطريقة مباشرة، موضوعا وسيطا، أي ملغى، منعكسا على ذاته […] العقل الذي يعرف هكذا [متطورا] كروح هو العلم. إنها فعاليته والمملكة التي يشيدها لنفسه في عنصره الخاص".
لتلخيص ذلك، يجب علينا بالتالي أن نميز بين كون الشيء (في ذاته)، والوعي الذي لدينا به (لذاته)، والعلم بهذا الأخير الذي يمكن بناؤه (في ذاته لذاته). وهذا يتجاوز ويشمل اللحظتين السابقتين. ومن ثم فإن العلم يجب أن يشمل الوعي، وإلا فهو "ليس إلا في ذاته، وليس باعتباره روحا، بل جوهرا روحانيا فقط. وهذا ال في ذاته يجب أن يتجلى ويصبح لذاته. لذلك، يجب على العلم أن يفترض الوعي الذاتي باعتباره لا يشكل والعلم إلا شيئا واحدا".
نحن هنا أمام عملية طويلة، تستغرق وقتا: لإنجازها، تتخذ المعرفة أشكالًا مختلفة، ويمر العقل بأشكال مختلفة، ولهذا السبب هناك صيرورة للمعرفة. بعد ذلك ندرك مشروع العمل، ومعنى "فينومينولوجيا الروح":
"هذا هو مستقبل العلم بشكل عام، أو مستقبل المعرفة، الذي تعرضه "فينومينولوجيا الروح" الحالية [باعتبارها الجزء الأول من نسق فيلسوفنا].
نحن الآن قادرون على فهم معنى عنوان الكتاب الذي ندرسه هنا بشكل أفضل. ماذا يعني السعي إلى تأسيس "فينومينولوجيا الروح"؟
لكي ندرك ذلك، علينا بالرجوع إلى نهاية الكتاب. في الفصل الأخير المخصص للمعرفة المطلقة، يشير هيغل إلى أنه "لا شيء يكون معروفا إلا في التجربة". أو مرة أخرى: لا شيء يكون معروفا دون أن يكون قبلا حاصرا كحقيقة محسوسة".
هنا في المقدمة تم تلخيص هذه الفكرة كما يلي: "الوعي لا يعرف ولا يتصور سوى ما هو وجود في تجربته." مشروع يظهر إذن: يجب أن نسعى لوصف ما يختبره الوعي، وما يظهر له في تطوره التدريجي. هذا هو بالضبط المشروع الذي سيتبناه الفينومينولوجيون (بالمعنى التقليدي للمصطلح)، مثل هوسرل.
لكن ما يظهر، أو الظهور، يعني في الفلسفة "الظاهرة"، وهو مصطلح يأتي من الكلمة اليونانية "phainomenon" (الظهور). الدراسة، العلم (اللوغوس) بهذه الظواهر هو “الفينومينولوجيا”.
ومن ثم فإن دراسة الأشكال المتعاقبة التي تظهر بها الروح أمام ذاتها، وتختبر ذاتها، وتصبح واعية بذاتها، هذا هو فينومينولوجيا الروح.
هكذا يعرض هذا المؤلف المراحل المتعاقبة لتطور الروح إلى ما يصير إليه في حقيقته:
"تتطور الروح ويرتب لحظاته المختلفة؛ كلها تقدم نفسها كاشكال للوعي. العلم بهذا المسار هو علم بالخبرة التي يقوم بها الوعي".
نحن الآن نفهم بشكل أفضل العلاقة بين هذه العناصر المختلفة: الظاهرة، والتجربة، والوعي، والروح، ولماذا اختار هيجل هذا العنوان لعمله. لنلخص: لأن "لا شيء يكون معروفا وغير موجود في التجربة"، يجب علينا أن نقدم علما بالتجربة التي يقوم بها الوعي"، ويجب صياغة فينومينولوجيا الروح".
(يتبع)
نفس المرجع