جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الرابع والخمسون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 20:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

إن إعادة تعريف هيجل للحقيقة منحته ميزة حاسمة: فهو لم يكن مضطرا إلى دحض هذه العقيدة أو تلك، ولكنه ببساطة اختزلها إلى لحظة في النشر التدريجي للحقيقة. وهذا منحه الشرعية (إنها لحظة ضرورية لهذا التطور ويجب احترامها من حيث هي كذلك)، ولكنه دحضها أيضا (إنها مجرد لحظة، مرحلة من هذا التطور، وبهذا فهي متجاوزة، أو سوف تصبح قريبا كذلك). أو مرة أخرى: فهو منح نفسه بالتالي ترف عدم الاضطرار إلى دحض هذا المذهب الفلسفي أو ذاك، فالتاريخ هو الذي يتكلف بذلك.
هكذا، مثلا، ليست هناك حاجة للقيام بتفنيد للرواقية؛ الشيء الذي سيكون على الأقل صعبا: يكفي إظهار أن هذا التيار الفلسفي يتوافق مع فترة معينة من التاريخ (اليونان القديمة وروما)، وقد أفسح المجال إلى شكل جديد من تطور الحقيقة، إلى عقيدة جديدة.
من خلال إعادة تعريف الحقيقة، غير هيجل كذلك ما يعنيه ب"دحض النظرية". لم يعد الأمر يتعلق بإيجاد أخطاء وقائعية أو تناقضات أو غياب الدليل في عقيدة تفتقر إلى المعنى: ما هي الأخطاء التي يمكن العثور عليها في رائعة الرواقية المتمثلة في كتاب "التأملات" لماركوس أوريليوس؟ يتعلق الأمر ببيان كيف كان هذا المذهب، في هذا الوقت، هو الشكل الذي تجسدت فيه الحقيقة بشكل حاسم، وكيف فقد هذه الشرعية، وما هو الشكل الذي خلفه في هذا الدور ولماذا.
هكذا، بنفس الطريقة، لا توجد حاجة إلى دحض لا البرعم ولا الزهرة، ليست هناك حاجة لدحض هذه النظرية أو تلك، ولكن ببساطة يجب إضفاء الطابع النسبي على أهميتها وحقيقتها، باعتبارها تمثل لحظات الكل أو الحقيقة، ما يعني نفس الشيء، لأن الحقيقة هي الكل.
إنما بهذه الطريقة وجه هيجل الضربة القاتلة إلى لمذهب الحدسي. وأشار إلى أنه إذا كان لهذه الساعة مجدها (الرومانسية الألمانية، مذهب الحماسية ما بعد كانط)، فإنها تنتمي بالفعل إلى الماضي. واليوم نشهد تغيراً في العصر: "ليس من الصعب أن نرى، علاوة على ذلك، أن عصرنا هو عصر ميلاد وانتقال إلى مرحلة جديدة. لقد انفصلت الروح عن العالم الذي كان وجودها وتمثيلها قائما فيه حتى ذلك الحين؛ إنه على وشك أن يجعلهما يغوصان في أعماق الماضي، وفي أعمال إعادة تشكيله".
لذا فإن الزمن نفسه هو المسؤول عن وضع حد لمذاهب الحدس، المباشر: من الصعب على الأخيره أن تقاوم مثل هذا الخصم! نحن نرى مدى قوة عملية هيجل الحجاجية: فقد استفادت من الرؤية العالمية الشاملة لفلسفات وحدة الوجود، هذه المذاهب التي تفهم الواقع ككل.
في نص رائع، من الناحية الأدبية، يصف هيجل هذا التغير في الزمن، مستخدما الصورة المبهجة لولادة طفل: تتراكم علامات التحذير من أزمة ("بوادر")، ثم يتحول العصر نحو شيء جديد، لا يزال مجهولا، بنوع من النقلة النوعية:
"صحيح أن [العقل]، على أية حال، لا يكون في حالة راحة أبدا، ولكنه دائما في عملية تنفيذ حركة التقدم المستمر. ولكن كما هو الحال عند الطفل، بعد رضاعة صامتة طويلة، فإن أول نفس من الهواء يقطع هذا التقدم في عملية النمو البسيط - تماما كما تحدث قفزة نوعية - وهي تلك اللحظة التي يولد فيها الطفل، وكذلك الحال بالنسبة للعقل في طور التكوين ينضج ببطء وصمت نحو شكله الجديد، وينفصل قطعة قطعة عن صرح عالمه السابق، ولا تشير سوى بعض الأعراض المعزولة إلى أن هذا العالم في طور التحول. الرعونة، وكذلك الملل، اللذيز يستقران في ما هو موجود، والتقديم الغامض وغير المحدد لشيء مجهول، هي بوادر لشيء آخر قد يحدث. هذا التقشر التدريجي، الذي لم يغير المظهر على الإطلاق، يقطعه الارتفاع، البرق الذي بضربة واحدة يتيح تشكل العالم الجديد".
ولكن يمكننا أن نتساءل: ما هي الدلائل التي تشير إلى أن المذاهب الحدسية تجووزت، وأننا انتقلنا إلى عصر آخر؟
يشير هيجل إلى نجاح فلسفة شيلينج الذي عمل هيغل كمساعد له في جامعة يينا، بل وكتب عملاً لدعمه في مواجهة الهجمات التي تعرض لها: "الفرق بين نسقي فيخته وشيلنج". ولكنه سرعان ما ابتعد عن شيلينج ليبني أفكاره. هذه الحركة المزدوجة نجدها هنا في مقدمة كتاب "فينومينولوجيا الروح".
لم يستسلم شيلينج لإغراءات مذاهب الحماسية التي تدافع عن فكرة حدس الشيء في ذاته. ومن ناحية أخرى، شعر بأهمية التوليف الخلاصي الذي من شأنه التوفيق بين الطبيعة والروح، وفهم الحاجة إلى تقديم هذا التوليف في شكل نسق. أخيرا، انسجم مع وجهة نظر الكل والمطلق. هناك الكثير من العناصر التي أثارت حماس هيجل وغذت تفكيره. وهذا ما يفتح، حسب رأيه، الطريق نحو عصر جديد، عصر روحي جديد، تصبح فيه المعرفة والروح مختلفتين بشكل أساسي.
لكن حدود مذهب شيلينج سرعان ما أصبحت واضحة له: فهناك، في هذا النص الموالي والدقيق من المقدمة، يشير إلى الأسباب التي دفعته إلى الابتعاد عنه.
(يتبع)
المرجع: https://www.les-philosophes.fr/hegel/phenomenologie-esprit/Page-5.html