جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثالث والخمسون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 22:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إذا كانت الحقيقة كلا تتبلور أشكاله واحدا تلو الآخر في التاريخ، فإننا هنا أبعد ما نكون عن أي شكل من أشكال التصوف، الذي يدعي أنه يفهم على الفور الحقيقة المطلقة، من خلال نوع من الحدس. ما لا يُعطى على الفور، ولكن يتطور تدريجيا، لا يمكن إدراكه من خلال هذا الفهم المباشر للحقيقة والذي سيكون الحدس. على هذا الأخير، ينبغي تفضيل المفهوم، الذي هو العنصر الحقيقي الذي يمكن للحقيقة أن تظهر فيه، وهو العنصر الوحيد الذي يمكن أن يضمن علمية المعرفة الناتجة عنه: "الحقيقة […] لا وجود لعنصر وجودها إلا في المفهوم".
خصص هيغل عدة فقرات لإدانة هذا الوهم، الحدس الصوفي، الذي سيكون بمثابة معرفة مباشرة بالدين المطلق، بالوجود. ولخصه على النحو التالي: ليس من المفترض أن نتصور المطلق، بل أن نشعر به ونتأمله. ليس المفهوم، بل الشعور الذي لدينا تجاهه وما نفكر فيه هو الذي من المفترض أن يقود المناقشات وأن يتم ذكره.
إذا كان هيجل يطور هنا نقدا للمذهب الحدسي، فذلك لأنه كان “متداولًا” في الوقت الذي كتب فيه هذه السطور. ثم شرح أصل هذا الجنون على النحو التالي: مع فلسفة التنوير، وظهور العقل ونقد الدين الذي نشأ عنه، فقد الإنسان صلته الطبيعية بالعالم.
لقد أدى هذا النقد الموجه إلى التنوير إلى حل العلاقات التي كانت تربط الإنسان ببيئته، وبوجوده. لقد شكّل العصر الذي أعقب ذلك، عصر هيجل، عصر الرومانسية الألمانية المنتصرة، نوعا من ردة الفعل: نتيجة لذلك، حاول الإنسان إعادة اكتشاف علاقته الطبيعية - وبالتالي المباشرة - بالوجود، أو الله، من خلال رفض مفهوم (العديل للتنوير) ومن خلال تفضيل الحدس، هذه العلاقة المباشرة.
بالعقل، بنقد التنوير، بالتفكير الذي باشره من الآن في العالم وفي ذاته، لم يعد الإنسان يعيش بطريقة طبيعية، ولم يعد يتطابق مع نفسه بطريقة ساذجة. إنه الألم الذي يدركه ويحاول أن يجد علاجا له، بواسطة إعادة اكتشاف ارتباطه الأصلي بالوجود، بواسطة الحدس:
"لم تعد حياته الأساسية ضائعة بالنسبة إليه، بل يعي كذلك هذه الخسارة والمحدودية التي هي محتواها. بلعن الحالة الشريرة التي هي خاصة به، يطلب العقل الآن من الفلسفة ليس معرفة ماهيته، بل الوصول مرة أخرى بفضلها، وحينها فقط، إلى تأسيس هذه الجوهرية وهذا الاتساق الخالص والصلب للوجود".
سيكون الحدس هو ما سيجعل من الممكن قمع المفهوم المميز (بكسر وتشديد الياء) ، وترسيخ الشعور بالجوهر. وداخل الفلسفة نفسها، تطور تيار فلسفي في هذا الاتجاه: إنه “النزعة الحماسية”، الذي يعتبر جاكوبي أفضل ممثل له، والذي يؤكد، ضد كانط، أنه يمكن للمرء أن يمتلك معرفة مباشرة ومطلقة للشيء في ذاته، عن طريق الحدس. وهو مذهب استهدفه هيجل في السطور التالية: "ليس المفهوم، بل النشوة، وليس التقدم البارد لضرورة الشيء، بل اختمار الحماس هنا الذان يفترضان أن يكونا التماسك والتوسع والتقدم المستمر لثراء الحوهر".
من وجهة النظر الهيجلية، فإن هذه العقيدة لا معنى لها حقا. إنها تتكون من رؤية الحقيقة المباشرة، الطبيعية، الأعمق. ولكن إذا كانت الحقيقة، كما يعتقد هيجل، تطورا تدريجيا، فإن المباشر هو فقط المرحلة الأولى من هذا التطور، وبالتالي المرحلة التي يوجد فيها أقل قدر من الحقيقة، أو حتى المرحلة التي تكون فيها الحقيقة هي الأفقر. حقيقة في المرحلة الجنينية، لم تتطور بعد. البداية، الأصل، ليسا هما الأعمق، بل على العكس هما أكثر سطحية.
هكذا، يمكن لهذين المصطلحين - الفقر والسطحية - أن يصفا هذا المفهوم: في الوقت الحاضر، "يظهر العقل الكثير من الفقر، بحيث يبدو أنه يتطلع ببساطة من أجل راحته ألى الشعور المحتاج للإلهي، والعادل . و"كما أن هناك عرضا فارغا، هناك عمق فارغ، [...] كذلك هذا الخطاب هو كثافة بلا أي محتوى، تتصرف كقوة خالصة وبسيطة دون توسع، وبالتالي فهي نفس الشيء مثل السطحية".
لكن هذا لا يكفي لإبطال هذه العقيدة بشكل نهائي. إذا كانت الحقيقة تطورا تدريجيا، فإن حدس الوجود أو الله ليس الحقيقة النهائية بل مرحلتها الأولى فقط. لكن على العكس من ذلك، إذا كانت الحقيقة لا تتطور بل تُعطى منذ البداية، كما يقول أنصار الحدس، فإن المذهب الهيجلي هو الذي يقودنا إلى فقدان هذه الحقيقة الاولى، الأصلية، ويقودنا إلى الضلال في متاهة الأشكال المتتالية الوهمية.
كيف الاختيار بين هذين التصورين؟ نحو أي من هذه النظريات يجب أن نتوجه؟ إنما هنا يقدم هيجل حجة حاسمة، تعزز موقفه، ضد أنصار المذهب الحدسي.
(يتبع)
نفس المرجع