جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثاني والخمسون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8166 - 2024 / 11 / 19 - 20:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

في الحقيقة، ل"إضفاء الطابع الزمني" على الحقيقة في الواقع عدة نتائج أساسية. أولا، التاريخ لا يحدث بالصدفة، بل هو المكان الذي تنكشف فيه الحقيقة تدريجيا. هناك إذن غاية للتاريخ، غائية، هدف، ( telos باليونانية): "الحقيقة هي الصيرورة ذاتها، الدائرة التي تفترض كغائية لها والتي تكون بدايتها غايتها والتي لا تكون فعالة إلا بتحقيقها وبغايتها.
أو لنقل مع هيجل مرة أخرى: الحقيقة هي الكل. لكن الكل ليس سوى الجوهر الذي تم إنجازه بشكل نهائي من خلال تطوره. يجب أن يقال عن المطلق أنه في الأساس نتيجة، وأنه ليس في النهاية سوى ما بكونه في الحقيقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما هي غاية التاريخ هذه التي نتجه نحوها تدريجياً؟ ليس هذا هو المكان المناسب للإجابة على هذا السؤال. ليس من المناسب إعطاء "الكلمة الدقيقة للتاريخ"، إذا جاز لنا في المقدمةأن نتخرط في هذا التلاعب بالكلمات. لن يكون لذلك أي فائدة. هل يمكن أن نكتشف اسم الجاني في بداية الرواية البوليسية؟
بما أن الشيء لا يضمحل في الغاية التي يهدف إليها، بل في التطور التدريجي لتحقيقه، فإن هذه الغاية لا يمكن تقديرها بالكامل إلا عندما نمر بالمراحل المتعاقبة للأشكال التي ستتخذها الحقيقة، في انتشارها التدريجي. هكذا "تكون الغاية هي الكوني غير الحي، كذلك لا يكون الميل إلا الدافع الخالص المجرد من فعاليته، والنتيجة العارية هي الجثة التي تركت هذا الميل وراءها".
في المرحلة الحالية، مرحلة التمهيد، يجب علينا أن ننتبه إلى مبدإ تطور الحقيقة ذاته، بدلا من السعي لاكتشاف المراحل الملموسة لهذا الأخير (سيكون هذا موضوع هذه المحاولة)، وما يؤدي إليه في النهاية (ما سنكتشفه في نهاية المطاف). أي تمهيد في كل الأحوال غير مناسب للمصنف ذاته الذي كتبه هيجل. ربما يكون كتاب "فينومينولوجيا الروح" هو الكتاب الوحيد الذي تبدأ مقدمته بـ... نقد مبدأ التمهيد في الفلسفة: "التفسيرات التي اعتدنا تقديمها في التمهيد، في بداية العمل، لإلقاء الضوء على الغايات التي اقترحها المؤلف، ودوافعه […] لا تبدو زائدة عن الحاجة في حالة العمل الفلسفي فحسب، بل حتى، بالنظر إلى طبيعة الشيء، غير مناسبة وتتعارض مع الهدف المنشود". وإذا كانت الحقيقة في الواقع هي الكل، الذي يشمل مجموعة واسعة من الأشكال التي تتخذها على التوالي، فلا يمكن التعبير عنها في مقدمة لا يمكن أن يكون لها سوى طول محدود بطبيعتها. لا يمكننا سوى تقديم بعض الملاحظات غير الضرورية والطارئة في المقدمة، لأن كل ما هو ضروري لا يمكن إلا أن يكون جزءً من نسق سيشغل عرضه عدة مئات من الصفحات: "مهما كان من المناسب أن يقال في مقدمة عن المسائل الفلسفية وبأي طريقة يتم ذلك، من خلال إعطاء لمحة تاريخية عن القصد أو وجهة النظر الشاملة المعتمدة، والمحتوى العام والنتائج التي تم الحصول عليها"، كل هذا لا يمكن أن يكون سوى "ربط بين التأكيدات والتصريحات حول الحقيقة المذكورة كيفما اتفق - وهذا لا يمكن أن ينطبق على طريقة المضي قدما التي سيتم من خلالها تقديم الحقيقة الفلسفية.
في الواقع، إذا كانت الحقيقة هي الكل، فلا يمكن تقديمها إلا في نسق: "الشكل الحقيقي الذي توجد فيه الحقيقة لا يمكن إلا أن يكون نسقها العلمي".
لا يتعلق الأمر بكشف بعض الحقائق بطريقة حماسية، أي "ملحمية"، بل يتعلق بتقديم عرض كامل وشامل ونسقي لأن الأشكال المتعاقبة المختلفة التي تتخذها الحقيقة يتم استنتاجها من هذه أو تلك: لقد تم تفصيلها وفقا لعملية ضرورية يجب إماطة الحجاب عنها.
بهذه الطريقة فقط ستصبح الفلسفة علما؛ عندها لن تكون حبا (philo) للحكمة أو المعرفة ( logos) بحسب ما يقترحه أصل الكلمة، بل معرفة. هذا المثل الأعلى للعلمية، الذي يقطع مع الخضوع الأصلي المحمول على أصله اللغوي، هو ما يطالب به هيجل: "الإسهام في اقتراب الفلسفة من شكل العلم - نحو الهدف [الذي يتمثل] في القدرة على التخلي عن اسمها المتمثل في حب المعرفة وأن تكون معرفة فعالة – ​​هو ما شرعت في القيام به".
الفلسفة علمية لأنه من الممكن تقديمها في نسق، وهي بالعكس نسقية لأنها علم. هذا المثل الأعلى للعلمية، الذي لم يعد يهمنا في القرن الحادي والعشرين، موجود بالفعل عند ديكارت، وسيتناوله هوسرل لاحقا، كما يتضح من عنوان كتابه "الفلسفة كعلم صارم".
واليوم، فقد هذا المثل مصداقيته، ولم نعد نسعى إلى جعل الفلسفة علما، أو علما مطلقا. لكن بالنسبة لهيجل، على العكس من ذلك، كما يؤكد بشكل حازم، "لا تكون المعرفة فعالة ولا يمكن تقديمها إلا كعلم أو كنسق. أو مرة أخرى، "الضرورة الداخلية للمعرفة لتكون علما تكمن في طبيعة هذه الأخيرة. وإذا كان هذا ممكنا، فذلك مرة أخرى، لأن الحقيقة هي الكل. ومن هذا التعريف للحقيقة ينشأ هذا المفهوم للعلم، وليس من غيره. ومن تعريف آخر كان سينتج نموذج آخر للمعرفة: مثلا، تلك الخاصة بشذرات المرحلة ما قبل السقراطية.
(يتبع)
نفس المرجع