جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الخمسون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8163 - 2024 / 11 / 16 - 20:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ماذا عن الحقيقة والحرية عند جورج فيلهلم فرديريش هيجل (1770-1831)؟ بطرح هذا السؤال تعطى الانطلاقة للمرحلة السادسة من هذه الجولة التي ظهرت لي في بادئ الأمر كمحاولة أو بالأحرى كمغامرة محفوفة بالمخاطر. إلا أن القارئ، وقد استمر متابعا لأطوار الرحلة منذ بدايتها حتى الآن لن يفوته أن يلاحظ أن صعوبة هذا البحث تصاعدت حدتها شيئا فشيئا إلى أن واجهنا، عند طرق باب هايدجر، جبلا هائلا لم نخترقه إلا بعد وقت طويل وجهك جهيد.
مما لا شك فيه أن الوقوف على مجمل تعاريف الحقيقة عند هيجل لن يكون ممكنا إلا انطلاقا من قراءة كتابه الموسوم ب"فينومينولوجيا الروح". يعرض هذا المؤلف، سيريل أرنو، الأشكال المتعاقبة التي اتخذها العقل في انتشاره الذاتي نحو المعرفة المطلقة: اليقين الحسي، الإدراك، الفهم... والعملية الجدلية التي يتم بها الانتقال من شكل إلى آخر. نحن الآن في حضرة أول عمل رئيسي لهيجل، كان له تأثير كبير قوي في تاريخ الفلسفة.
يجب أن ندرك، يتابع سيريل، كم نحن محظوظون: لقد مرت بضعة عقود فقط منذ أن تمت قراءة نص كتاب "فينومينولوجيا الروح" باللغة الفرنسية. كان لا بد من انتظار أكثر من مائة وثلاثين عاما حتى ترى الترجمة الأولى النور: تعني بها ترجمة جان هيبوليت، في 1939-1941، الذي امتلك الشجاعة لمعالجة هذه التحفة. حتى ذلك الحين، لم يكن هيجل معروفًا في فرنسا إلا من خلال موسوعة العلوم الفلسفية، وكتاب يسهل كثيرا على الجمهور الولوج إليه؛ ألا وهو "الإستيطيقا".
إذا كان هيبولوت قد أقدم على إنجاز مثل مثل هذا المشروع، فذلك لأن الفرصة سنحت له لمتابعة محاضرات الكسندر كوجيف في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا خلال ثلاثينيات القرن العشرين. يمكن القول إن الأخير هو أحد المهندسين الرئيسيين لإدخال هيجل إلى فرنسا، بعد أن عمل جاهدا من أجل تلقي فكره من قبل الجمهور الناطق بالفرنسية.
هيغل نفسه لم يساعد الأجيال القادمة على الاهتمام بهذا العمل. العنوان الأصلي للكتاب "النسق العلمي"، وعنوانه الفرعي: "الجزء الأول، ظواهر الروح"، منحا دورا شرفيا لهذا المصتف، في اقتصاد النسق الهيجلي: إنه كتاب لا مناص من قراءته لكل من أراد الإلمام يفلسفة كاتبه.
لكن الجزء الثاني لن يكتب له أن رأى النور. وبدلاً من ذلك، كتب هيغل (بعد "المنطق" و"مبادئ فلسفة الحق") "موسوعة العلوم الفلسفية"، والتي أعادت التفكير بطرق جديدة في اقتصاد النسق الهيجلي. بالفعل، في هذا الكتاب، لم تعد الفينومينولوجيا تعتبر الجزء الأول، بل جزء فرعيا بسيطا من قسم من الجزء الثالث من النسق كمل، بعنوان “فلسفة العقل”. ومن ثم فقد تم إبعادها إلى مكان ثانوي، في النسق الذي أعاد هيجل تصميمه. هذا، بالإضافة إلى الطبيعة المتأخرة لترجمتها، يمكن أن يجعل المرء يعتقد أن "فينومينولوجيا الروح" عمل ثانوي.
بطبيعة الحال، ليس هذا هو الحال: هذه التحفة الفكرية، التي اعترف بها ليفيناس كواحدة من المصنفات الخمسة الاجمل في تاريخ الفلسفة، أحدثت ثورة في عصرها، وكان لها تأثير كبير على المفكرين اللاحقين. بعيدا عن العمق المفاهيمي الذي تعكسه، وبعيدا عن التجريد الجاف الذي غالبا ما يرتبط به اسم هيجل، هناك في "فينومينولوجيا الروح العديد من الصفحات الرائعة من وجهة نظر أدبية بحتة.
.ربما يكون هذا المؤلف هو أول ما يجب قراءته بتمعن إذا أريد فهم الفلسفة الهيجلية. ولذلك فهو يستحق أن نحافظ على وضعه الأصلي؛ إذ هو المنفذ الأول الذي عبره نلج إلى النسق الهيجلي.
هنا، يتساءل سيريل أرنو: لكن أية ترجمة نفضل؟ في الواقع، تتوفر أربع ترجمات في دور النشر الرئيسية: ترجمة هيبوليت، وهي الأقدم، وترجمة لوفيفر، بورجوا، أو لاباريير. تحتدم المناقشات لتحديد أيها أفضل من حيث احترام مبنى ومعتى النص الهيجلي، وكذلك اللغة الفرنسية. يعتبر بعضها متقنا للغاية، أو منمقا، أو مفدلكا على نحو غير ضروري، مما يجعل نص "الفينومينولوجيا، المعقد أصلا، أكثر غموضا.
من جانب الكاتب، وبعد مقارنات عديدة، اختار ترجمة لوفيفر (منشورات GF)، ولكن قد يكون من المفيد الرجوع إلى الترجمات الأخرى بشأن اقتباس معين: في بعض الأحيان تكون الترجمات الأخرى أفضل ولن يتردد سيريل في استخدامها عند الضرورة. مع الحرص على تحديد الإصدار المستخدم.
لنستمع إلى حديث الكاتب بأيجاز عن الظروف التي كُتبت فيها "فينومينولوجيا الروح": كان هيجل يعمل في جامعة يينا، من بروسيا، ألمانيا خاليل، كمحاضر خاص (Privatdozent). يتعلق الأمر بوضع جامعي غير مجزٍ لأنه غير مدفوع الأجر، يتم فيه تعيين أساتذة بدون كرسي. كمساعد بشيلينج، دافع عنه في كتيب بعنوان "الفرق بين النسقين الفلسفيين لفيخته وشيلنج. لكن انتهي به الأمر إلى الابتعاد عنه، ليطور فكره ومذهبه الخاصين، ويبدأ في تأليف "فينومينولوجيا الروح" .
لكن متاعب ذلك الوقت لحقت به: فقد دمرت الحروب النابليونية أوروبا، وجاء الإمبراطور شخصيا ليقود معركة يينا وينتصر فيها. يقول التاريخ إن هيجل اضطر إلى الفرار من المدينة، مخبئا بعناية تحت معطفه مخطوطة كتاب "الفينومينولوجيا" التي كان قد أكملها للتو، وقد شاهد نابليون على حصانه الأبيض من بعيد. تحدث عن الحدث على النحو التالي: "رأيت الإمبراطور – روح العالم – يغادر المدينة ليذهب للاستطلاع؛ إنه لأمر رائع حقا أن ترى مثل هذا الشخص المتمركز في نقطة واحدة في الفضاء، جالسا على حصانه، ويمتد فوق العالم ويهيمن عليه".
هذا اللقاء العابر بين اثنين من العباقرة اللامعين، عملاقين كان لكل منهما تأثير عميق كل في مجال تخصصه، أحدهما في السياسة والآخر في الفلسفة، لا يمكن إلا أن يذهل الخيال. في عام 1807 تم نشر الكتاب. كان هيجل آنذاك في السابعة والثلاثين من عمره، وكان قد دخل إلى سجل التاريخ للتو. لم يخضع الكتاب لأية مراجعة أخرى، باستثناء المقدمة. وفي عام 1831، صحح النصف الأول منه قبل أن يجتاحه وباء الكوليرا الذي اجتاح أوروبا بأكملها.
والآن بعد أن عرفنا المزيد عن السياق الذي ألف فيه الكتاب، لننتقل إلى المحتوى نفسه. ما هي النظرية التي طورها هيجل في هذا العمل، وكيف مثل صدور هذا الكتاب ثورة في تاريخ الفلسفة؟
(يتبع)
المرجع: https://www.les-philosophes.fr/hegel/phenomenologie-esprit/Page-9.html