جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء التاسع والاربعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8161 - 2024 / 11 / 14 - 22:49
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

قلنا في البداية أن التزام هايدجر السياسي لم يؤثر على العلاقة الأساسية التي يقيمها بين الحقيقة والحرية. وان نقول ليس هناك مجال لمعاداة السامية في فكر هايدجر فذلك ما يتضح عندما نبدأ في الكشف عن مقتضيات التعريف الجديد للإنسان: أن تكون إنسانا، في نهاية التحليل، يشكل شيئا واحدا مع الاهتمام بالتفكير. ليس بطريقة ميتافيزيقية - وهي واحدة من طرق التفكير الممكنة، ولكنها ليست الوحيدة. هذه الطريقة في الوجود، يسميها هايدجر الدازاين. كل الكائنات البشرية تتقاسمها دون غيرها من الكائنات الحية.
ذلك يعني: كل الناس، من كل الشعوب، في كل العصور وفي كل الأمكنة تشترك في حقيقة أنهم لا يمكن أن يوجدوا إلا إذا كانوا مرتبطين بالآخر كليا، الحاضر بوجهه، حالياً ودائماً، في مواجهة كل إنسان، دون أدنى تراتبية. هذا الاهتمام بالتفكير، بطبيعة الحال، ليس شيئا آخر غير الجهة الفريدة التي ميزها مصطلح "الدازاين" الذي طوره هايدجر منذ بداية عشرينيات القرن العشرين، إنما بدون شك للمرة الأولى بأهمية كافية وصلت إلى حيث يبرز بشكل حاسم التمييز بين الوجود بصفة عامة والوجود إنسانا.
وللتعبير عن هذا الاختلاف نستخدم عبارة مثل "فسح المكان". إن الإنسان، الذي يجب أن يوجد دائما، لا يكون إنسانا حقا إلا إذا أفسح المكان، بطريقة أو بأخرى. لا شيء موجودا بكيفية مختلفة (كائن حي، كائن إلهي، كائن هنا-أمام)، لديه إمكانية فسح المكان. فسح المكان، فتح بُعد الظاهرية، أبقاؤها مفتوحة، (بكل حقيقة) في حالة مفتوحة. هذا ما أشار إليه هايدجر في رسالته الأولى إلى جان بوفريه: بعيدا عن قدرة الإنسان على فهم ذاته ك"وجود-هنا"، يجب أن نفهم هذا الوجود بشكل متعد ونقول "وجود-ال-هنا"، أي بسط الهنا - فسح المكان. لندرك أن الأمر لا يتعلق بفسح المكان لشيء ما، ولكنه يتعلق أولا وقبل كل شيء بترك المكان ينبسط، المكان الذي يمكن أن يحدث فيه أي شيء. أعجوبة العجائب هي في الواقع هذا المكان (topos)، الذي ينبغي أن يسمى بمعنى ما لامكانا، لأنه بالمعنى الأكثر صرامة ميتافيزيقيا غير موجود. لا "عرق"، وفقا لفرانسوا فيدييه، لا شعب، لا لسان يمكنه أن يحقق "أفضل من غيره" جوهر الإنسانية. فكرة الدازاين لا تتوافق مع أي عنصرية.
إن رهانات هايدجر مدرجة أولا، إن لم يكن حصريا، في المجال الفلسفي، يتعلق الأمر بالنسبة إليه، قبل كل شيء، بإحداث موقف فلسفي جديد. أولئك الذين يتساءلون حول نازية هايدجر يمنحون الكثير أو القليل جدا من الاستقلالية للخطاب الفلسفي: انخرط هايدجر في الحزب النازي، تلك حقيقة؛ لكن لا هايدجر الأول ولا هايدجر الثاني شكلا إيديولوجيتين نازيتين. ليس انطلاقا من حسن نية، كما يقول فرانسوا فيدييه، أن يعتقد المرء أن هايدجر كان يفكر في توفير الجهاز الإيديولوجي الضروري لثورة حقيقية. مثل هذا التصور النفعي، أو الوظيفي، أو الذرائعي للفكر مثل له دائما علامة لا تخطئها العين على اللاحقيقة.
في العلاقة الميتافيزيقية بين الوجود والحقيقة، يُنظر إلى الوجود على أنه حضور ثابت، الحقيقة نفسها التي تكون موجودة باستمرار لأجل المعرفة أو، من وجهة نظر المعرفة، باعتبارها مطابقة لما هو حاضر دوما. كان لا بد من دافع حاسم حتى يتمكن هايدجر من العودة إلى الطريق الذي يقوده إلى الذهاب في تساؤلاته إلى ما بعد هذا التوصيف لـ "ماهية" الوجود والحقيقة. هذا الدافع انبثق قبل كل شيء من اللاهوت المسيحي. رغم فكر ميتافيزيقي يجعل هذا الأخير غريبا عن ذاته، يستمر فيه فعل فهم الحقيقة وهو ما نجده حقا في العقيدة اليهودية.
على سبيل الختم، أعلن عن انتهائي من عرض أطروحة روبنس بيليدور وأقترح، لزيادة توضيح موقف هايدجر من النازية، تقديم ما جاء في خاتمة مقال منشور في جريدة "الخليج" الرقمية عن نفس الموضوع. وهذا المقال عبارة عن تلخيص لكتاب ألفه عبده كساب بعنوان "هايدجر والنازية".
يقول كاتب المقال إن فيلسوفنا عاش في بيئة اتسمت بالعنف والنزاع المستمر بين الكاثوليك الجدد والكاثوليك القدامى، وكان هذا أول مكون أيديولوجي يتعلق بالمناخ الروحي والسياسي، الذي تشبعت به طفولته، فقد جنى هذا الصراع ثماره تلك من التجارب المؤلمة التي تحملها الأطفال في تلك الفترة، عندما نظر أطفال الكاثوليك الجدد بسخرية إلى الفارق بينهم وبين زملائهم من الكاثوليك القدامي، الذين كانوا أكثر غنى ورفاهية.
ويضيف أن ذلك كان أول الموضوعات التي أثارت اهتمام هايدجر، إذ كان ينتمي إلى أسرة كاثوليكية، ووالده كان خادماً في الكنيسة، ووالدته بنت مزارع فقير، وكانت دراسته باستمرار قائمة على منحة من أحد الأمراء، وكانت النتيجة المحتومة لهذا النزاع الديني، العداوة الاجتماعية.
واهم ما قاله كاتب المقال إن تحولات حدثت في تفكير هايدجر تغيرت بناء عليها نظرته إلى النازية، حيث كان يرى أن أجهزة الدعاية التابعة للدولة النازية أشبه بميتافيزيقا بديلة عن ميتافيزيقا الوجود، لكنها ميتافيزيقا صاخبة تعبر عن العدمية الكبرى، وحتى الدعاية التي يقوم بها الشعب تقع في ذلك السياق. من هذه الزاوية فإن النازية تعبير عن خراب العالم وتدمير الأرض.
المرجع: RUBENS BÉLIDOR
A propos de la problématique de l Être: L ESSENCE DE LA VÉRITÉ ET DE LA LIBERTÉ
HUMAINE CHEZ HEIDEGGER