سلوك القتلة ..و مفاهيم الفلسفة


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 8161 - 2024 / 11 / 14 - 07:02
المحور: المجتمع المدني     

تقابلت مع الموت مبكرا في صحارى سيناء ..و أحراش قفل حرض باليمن ..و كان قريبا مني مع العطش أو الجوع أو لدغة عقرب أو عضة ثعبان .. أو مع الحمي و الهذيان..و ضربة الشمس أو إنقلاب سيارة بعيدا عن نجدة البشر
لقد كان عمرى 27 سنة لما أطلقت علينا الطائرات المعادية رشاشاتها و دمرت معداتنا وقتلت من قتلت .... وحين طاردت دباباتهم سياراتنا المحملة بالألغام وكادت أن تفجرها بداناتها..و عندما نجوت بإعجوبة من رصاصات رشاشاتهم التى أحاطتني من كل جانب .
في كل الأحوال لم أخاف من الموت..و لم أخشاه .. ولم أجدها لحظة رهيبة .. لقد جئت إلي الحياة دون إرادة .. و سأغادرها في زمن مجهول لدى .. و لن يختلف وجودى بها راكدا لمدة سنة عن مائة سنة .. فستمحي ذكراى حتي عن اقرب الاقرباء مثل ذبيحة إختارتها الحياة من بين القطيع ..تم طهيها و أكلها و هضمها.....و نسيانها
لم أقتل في حياتي شخص.ما . رايت من يجرى إغتيالهم إما بالرصاص أو النابلم أو الألغام ..أويفقدون حياتهم في حادث أوبعد مرض.. ولكنني لم أتسبب في إنهاء وجودهم . حتي و لو بالإهمال في نصحهم أو تدريبهم ..
.و أعجب من هؤلاء الذين يمتهنون هذه المهنة ..ذلك الذى ينفذ الإعدام .. يفصل رقبة ضحية لا يعرفه بالسيف ، يصعقه بالكهرباء ،يطلق عليه النار او يسمه. بالشوكران
يحيرني معرفة الدافع الذى يجعل شخص ما يخطط لإنهاء حياة أخر أو يعذبه ..مهما كانت الأسباب والحجج.. اراه مجرما يحمل أمراض السفاحين..هو ومن يقف ليشاهد ..أو يشجع .. أو يحرض ..و لا أتصورهم ملائكة لها قضية .. فلكي تقتل بكثافة يجب أن تكون لديك مشاعر و سلوك سفاح
أخالف السائد بين الناس ..لا أرى أن قادة الجيوش و جنودها كانوا عبر التاريخ أبطالا بل هم مساكين يعانون من إختلال سلوكي وعاطفي (هولاكو، تيمور لنك ،هتلر ،موسيليني ،رومل ، إسحاق رابين ) كلهم قتله لا يختلفون عن ريا و سكينة .
.
في تناقض مع سلوك القتلة .. تجيء مقاهيم الفلاسفة في مواجهة الموت
سقراط .. بعد أن حكموا علية بالإعدام (360 أدانوه مقابل 140 وجدوة غير مذنب ) لانه .. يتلف الشباب بمحاوراته ..و كان بمقدورة أن يهرب .. و لكنه رفض و واجه مصيرة بشجاعة .
الأسباب والحجج التي ساقها لقبول الموت دارت بينه و بين تلميذه كريتون وذكرت بالتفصيل في حوار لأفلاطون.
((تطلع إليه سقراط طويلا ثم قال: كلا يا كريتون لن أهرب من الموت. إني لا أستطيع أن أتخلى عن المبادئ التي ناديت بها عمري كله. بل إنني يا كريتون أرى هذه المبادئ الغالية التي ناديت بها حتى اليوم جديرة بذلك الثمن. أجل يا كريتون ليست الحياة نفسها شيئاً، ولكن أن نحيا حياة الخير والحق والعدل فذلك هو كل شيء)).
تدين الفلسفة الغربية خلال مراحل تطورها المختلفة بالفضل إلي الحكيم اليوناني سُقْرَاط باللاتينية( Socrates ) رغم أنه لم يترك كتابات، وكل ما نعرفه عنه مستقى من خلال روايات تلامذته.
كان (سقراط) يقول: ((لا أعرف سوى شيء واحد وهو أني لا أعرف شيئا)) . .فالفلسفة في رايه لا تتقدم إلا عن طريق تبني منهج الشك والبحث الدائم ..وكان يرى أن ((الفضيلة هي المعرفة))
يقول ديورانت ((كان الشبان يلتفون حوله في جماعات كثيرة، ساعدته في خلق فلسفة أوربية. وكان بينهم رجال أغنياء مثل (أفلاطون) و(السبيادس)، وكانوا يستمتعون بتحليله وهجومه وقدحه للنظام الديمقراطي في أثينا وكان من بين الشباب بعض الاشتراكيين مثل (انتيثيناس) الذي أحب في سقراط عدم إهتمامه بفقره، وواحد أو إثنين من الفوضويين مثل (اريستيبوس) الذي تاقت نفسه الى عالم لاوجود فيه للأسياد أو العبيد، بحيث يكون سكانه جميعهم احراراً بعيدين عن القلق مثل سقراط))
و يضيف (( إن جميع المشاكل التي تثير المجتمع الإنساني اليوم، وتقدم مادة لنقاش الشباب الذي لا ينتهي ؛أثارت وهيجت أيضا تلك الجماعات اليونانية الصغيرة من المفكرين والمحدثين، الذين شعروا مع معلمهم , أن الحياة بغير بحث وحديث، ليست جديرة بأن يعيش فيها الإنسان. لقد مثلت تلك الحلقات جميع الإتجاهات الفكرية والاجتماعية، وربما كانت هذه الاجتماعات أصل هذه الإتجاهات الفكرية الاجتماعية.))
كان سقراط معروفا عنه أنه كي يناقش أى موضوع يطرح علي المستمعين مجموعة من الأسئلة ليس بهدف الحصول على إجابات فردية فحسب، وإنما كوسيلة لتشجيع الفهم العميق للموضوع الجارى مناقشته و كشف نقاط ضعف محاورية .. فضلا عن إسلوبه أثناء الحوار كان ساخرا.. مما سبب له عداوات عديدة إنتهت بمحاكمته .. و رغم مرافعته المنطقية حكم عليه المحلفون بالإعدام عن طريق شرب ما يسمي بالشوكران عام 299 قبل الميلاد.
بكلمات أخرى كان علي سقراط أن يتجرع السم و يموت بسبب أن معاصريه لم يستطيعوا إستيعاب فكرة وإرشاداته وكانوا يعتبرون تعاليمه عن معرفة الإنسان لنفسه والسعي إلى تهذيبها بالفلسفة و المنطق إهانة للأرباب وحط من قيمتها أى كفر و إلحاد .
يتفق أفلاطون وزينوفون على أن «سقراط» كانت لديه الفرصة للهرب، حيث كان بإمكان تابعيه أن يقدموا رشوة لحراس السجن. لكنه اختار البقاء
((لأنه كان يعتقد أن الهروب قد يشير إلى خوفه من الموت وهو الخوف الذي كان يعتقد بأنه لا وجود له لدى أي فيلسوف حقيقي.... ولأنه لو هرب من أثينا، لن تلقى تعاليمه أي نجاح في مدينة أخرى فهو لن يتوقف و سيستمر في محاورة كل من يقابلهم وسيثير استياءهم بالطبع.
ولأنه ( وهذا هو المهم ) بموافقته على أن يعيش بالمدينة أخضع نفسه لقوانينها، ضمنيًا و منها احتمال أن يتهمه أهلها بارتكاب الجرائم وأن يدان من قبل هيئة المحلفين... ولو قام بما ينافي ذلك، فهذا يعني أنّه يخرق العقد الاجتماعي الذي وقّعه مع الدولة وهذا التصرف ينافي المبادئ التي ينتهجها )).
بعد أن تجرع سقراط السم، صدِرَ له أمر بأن يمشي حتى يشعر بتنميل في القدمين. وبعد أن استلقى على السرير، قام الرجل الذي منحه السم بالضغط بشكل مؤلم على قدميه. لم يعد «سقراط» يشعر بهما .ليغادر عن عمر سبعين سنة ... مفضلا الموت عن الهروب
(( يا رجال أثينا، لقد حكمتم عليّ بالموت. بالنسبة لأصدقائي الذين صوتوا لتبرئتي، دعوني أقول لكم أن الموت قد يكون أمرًا جيد. فإما يكون الموت حالة من العدم واللاوعي أو يكون، كما يقول البعض، مجرد هجرة من هذا العالم إلى عالم آخر.
فإذا كان حالة لاوعي مطبَق، مثل نوم هادئ بدون أحلام، فسيكون الموت مكسبًا لا يوصف. وفي حال كان رحلة إلى عالم آخر حيث يعيش الموتى، فسيكون ذلك أيضًا رائعًا حيث سأتمكن حينها من إكمال بحثي عن المعرفة الحقيقية والكاذبة. في العالم التالي، مثل هذا العالم، سأتمكن من اكمال استجوابي للناس العظماء من الماضي للبحث عن الحكيم ومن يدّعي الحكمة.
لذا لا تدعوا الموت يحزنكم، فلا يمكن أن يحدث الشر لرجل صالح سواء في هذه الحياة أو بعد الموت. حسنًا، لقد حانت ساعة الرحيل، يجب علينا أن نذهب كلُّ في طريقه، أنا للموت وأنتم للحياة. أيهما أفضل؟ الله وحده يعلم ذلك.))..
لو عاش سقراط اليوم .. فما هي الأسئلة التي كان سيطرحها علينا ..
هل حياة ((الخير والحق والعدل)) .. لديكم أن تقتلوا بعضكم بعضا ؟
هل الإنسان في الاصل قتال قتله .. تم كبت مشاعره و رغباته بواسطة قوانين و أعراف و عقوبات المجتمع ..و عندما يتحلل من هذه القيود يعود لطبيعته.. سفاح .؟
و هل الفلسفة هي الدرع الواقي من جموح الضوارى و سفكها للدماء ؟
ما نوع تعليم و تدريب ذلك الذى يأمر بإرسال صواريخه ..و قنابلة النووية .. لمكان لم يظرقه يقتل فيه مئات الألاف و كيف يستطيع أن يعيش و هو يرى صور الخراب و الدمار و جثث القتلي الذين تسبب في إنهاء حياتهم!!