القاهرة وتشظي القيم الجمالية


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 8022 - 2024 / 6 / 28 - 08:16
المحور: المجتمع المدني     

عندما يصف الأعشي محبوبته بأنها (( غراء فرعاء مصقول عوارضها..تمشي الهوينا كما يمشي الوَجَي الوَحِلُ )) ..أى انها تتحرك ببطء وصعوبة - لضخامة جسدها وثقله- مثل ذلك الذى يخوض في الوحل ويحذر من السقوط فيه.
بينما نجد إمرؤ القيس يصف حصانة بأنه (( مكٍر مفٍر مُقبِل مُدبـِر معا ..كجلمود صخر حطَّه السَّيل من عل ٍ )) مدلـِّلا علي حيوية راكبه بحيث يصبح من الصعب تحديد إتجاهه او رصد حركته.
فإنهما بذلك يشيران الي مقاييس جمال عصرهِما ، السيدة خاملة قاعدة يخدمها الجوارى والعبيد ولا تتحرك الا بصعوبة ويزداد وزنها من أكوام الطعام المتوفرة، بينما الرجل نشيط متحرك مخادع لا يمكن تحديد خطوته التالية.
سكون وحركة، خمول ونشاط، ملل من الانتظار وتحفز من سرعة تطور الاحداث، سيدة لا تتقن حتي الذهاب الي خيمة جارتها بينما الرجل منطلق كالسهم يخاطر ويغزو ويغامر .
رؤية العين للجمال تختلف من ثقافة لأخرى ،فأسلوب الحياة، علاقات العمل وميكانيزمات توزيع الثروة تفرز آليات ما يسمي بالبناء الفوقي الذى يضم الي جانب قياسات الجمال مفردات العقد الاجتماعي وما يتعارف علي أنه التقاليد والقيم والسلوك القويم أو الشاذ... اللي بيسميها المحافظون (الثوابت )
شهدت التغير في هذه القياسات الجمالية و الذوق العام أربعة مرات خلال الفترة من أربعينيات القرن الماضي حتي الأن .
عمتي الاكبر بين أخواتها كانت ترى أن حسن السيدة أو الانسة هو أن تكون بيضاء بضة وأن ذوات العيون الملونة والشعر البني أو الأصفر المنسدل هن فقط الجميلات
وكانت ( تعاير) إبنتها النحيفة السمراء التي تخرجت بتفوق من كلية الطب ..بأنها تشبه الصبيان ولن تجد زوجا يرضي بها ..
ورغم أن هذه العجفاء لابسة النظارة الطبية تزوجت من زميل لها ناجحا وكونا عائلة تحكمها قياسات المساواة العصرية الا ان أمها ظلت ( تعايرها) بسمارها ونحافتها حتي يوم وفاتها لم تغير القياسات التي تربت عليها في بيت جدى الذى كان يتيه إعجابا ببنات الاصفر وبيضاوات الاتراك اللائي تعامل معهن وشاهدهن في قصور سلطان البلاد حسين كامل.
ففي بلادنا بسبب تأثير قرون طويلة من الاحتلال التركي والأوروبي الذى جعل من البيض سادة والسمر خدام كانت قياسات الجمال - حتي فيما قبل ستينات القرن الماضي – هي قياسات الارستقراطية التركية من سيدات (البيوتات) اللائي كن يحرصن علي لبس اليشمك الابيض والحديث بلغة عربية متكسرة تمتلئ بكلمات تركية أو فرنسية، وكان تعليمهن يقتصر علي اللغات الاجنبية والعزف علي البيانو وإتقان القراءة والكتابة .. وأساليب ادارة المنزل بواسطة الخادمات و المربيات .. أميرات البيت المالك كن نموذجا ..و هدى شعراوى كانت مثالا .
اما الرجال الذين يلقون الاحترام من أفراد المجتمع فهم البيض ضخام الجسد الذين يحرصون علي الاهتمام بشارب ضخم مهذب معتني به ووضع طربوش أحمر فوق الرأس وإرتداء الاسموكينج او الفراك اثناء المناسبات الرسمية أو الاحتفالية وتزين صورهم جدران القصور والمنازل دليلا علي أصالة العائلة وإنتماءها الي جذورتركية بيضاء .
التغيير الثاني تطور خلال سنوات محدودة .بعد منتصف القرن و سقوط الأرستقراطية و إختلاط الطبقات و قيمهم .. فقد تم تدمير الصورة القديمة والسخرية منها في الجرائد والاعلام والمسرحيات والافلام السينمائية (الأيدى الناعمة وسيدتي الجميلة كنموذج ) ليحل محلها مشهد شباب يرتدون قميص و بنطلون أو بدل تيل خفيفة وإختفي غطاء الرأس تماما سواء للرجال أو النساء وتعدلت قياسات الجمال بحيث تربعت علي العرش السيدة السمراء النحيفة العملية التي تعلمت في الجامعة وخرجت لتصبح عضوا في البرلمان وأستاذة وطبيبة ومهندسة ثم مديرة وريِّسة (مراتي مدير عام ..وأنا حرة كنموذج ) ومع دستور 1956 نالت المرأة حقوقا جعلتها عضوا عاملا في مجتمع يهدف الي بناء جديد ذو ملامح محلية تبعد به عن تأثيرات الشرق والغرب.
قياسات الجمال في الستينيات تعدلت بصورة جذرية بعد أن حكم مصر بشكل مستمر أبناء الفلاحين السمر حليقي اللحي والشوارب،. وسايرت النساء الموضة العالمية ولبسن الميني و الميكرو جيب و استخدمن أحدث مستحضرات التجميل وتصفيف الشعر ( يكفي أن تشاهد تسجيلات حفل من حفلات غناء أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ لتعرف كيف كان مظهر الرجال والنساء في تلك الفترة ).
وتغيرت لهجة ومواضيع الافلام والمسرحيات لتطرق حدود العالمية ومدارسها المختلفة وأصبح لمصر أوركيسترا سيمفوني و فرقة باليه وأكاديمية فنون تسعي نحو خلق أدوات ولغة التحضر والحداثة في المجتمع ولم يخجل أستاذ جامعي أن تصبح ابنته راقصة في فرقة رقص شعبي مذهلة الجمال والدقة والتفوق ..وإختلف شكل المنزل والأثاث المستخدم ونوع الملابس والاحتفالات والتعبير عن الحزن أو الفرحة وأصبحت مصرفي مدنها الرئيسية وقد ولدت شعبا معاصرا يحترم المرأة والطفل والشيخ وينتج من خلال ألف مصنع ورقعة أرضه الزراعية ما يطعم ساكني الوادى فلا يحتاج الي الاستدانة اوالتسول أوالاستيراد .
السيدة المصرية مع اختفاء ملامح حريم السلطنة أصبحت أوروبية المزاج والملبس تلعب التنس وتسبح وتتفوق رياضيا وفنيا وعلميا وإنسانيا، تقود حركة النهضة النسوية في مجتمعها ويحتذى بها سيدات الاقطار اللائي ينتفضن للتخلص من القيم المرتبطة بالحكم الإثني المتلفع بعباءة الدين .
.
لقد كان من الممكن ان تتحرك في القاهرة فتجد عوالم ثلاثة متجاورة كل منها له طابعه الخاص في الجمال، تبعا لطبقة سكانه ..
فأحياء الحسين والسيدة زينب والظاهر و بولاق ( تجدها في قصص نجيب محفوظ الأولي ) تنعم بعبق التصوف المصرى تستمع الي الموشحات الدينية والمديح الشعبي يعود بك الي زمن احتفالات الفاطميين وحلاوة المولد وعرائس السكر وبخورمنطلق مع صيحات صلي علي النبي تجلجل في المكان، وتمنح اصوات اذان الفجر وتسابيحه سكينة للنفس ورضا محبب عن الحياة ..
وكان من الممكن ان تتحرك في القاهرة الخديوية وشبرا و الجيزة ..النظيفة المغسولة التي تشبه قلب باريس ( تجدها في أرشيف الصور عند كل منا ) فتنتقل الي رقي ورقة متحضرة تتناول القهوة والحلويات والمثلجات في جروبي ولاباس والامريكين، تشاهد أحدث الأفلام في سينمات وسط البلد وتشترى أحدث خطوط الموضة المعروضة في فترينات جميلة..تشم رائحة النظافة والرقي وترى السيدات يتحركن بأمان يضحكن من القلب ولا يوجد من يضايق أو يتحرش ..
وفي جاردن سيتي والزمالك ومصر الجديدة تجد أحدث الطرز المعمارية التي صممها أوروبيون والرعيل الاول من شباب المعماريين الذى تعلم وتدرب في البوزار الفرنسي،
سيارات علي أحدث طراز و شوارع نظيفة مغسولة وسائل مواصلات متوفرة ورخيصة وبشر سعداء يعيشون في الكوربة ويجلسون في الانفيتريون وجروبي مصر الجديدة بأمان واستقرار وثقة ..
هذه القاهرة لازلت أتذكرها بشوق و حب ..الترام و الترولي باص ..و الحدائق و الأشجار في الطرق .. و الناس الذين يتحركون مرتاحين .. و إسلوب تعاملهم الراقي . لا يختلف عن مدن أوروبا في ذلك الزمن
التغير الثالث حدث بعدما زحف أهل الريف علي المدن و فرضوا قياساتهم ..و صاحبها الإنفتاح الإقتصادى و إحتلال السلفيين و الأخوان للشارع و الإعلام
فتحولت المدينة الجميلة المرحِّبة إلي عشوائيات .. حتي في افضل الأحياء .. الفيلات هدمت و بني مكانها أبراجا ..وقطعت الأشجار ..و تم الجور علي الحدائق ..و الشوارع إزدحمت و تراكمت فيها القمامة ..و السيدات متسربلات بملابس منقولة عن السعودية و إيران و أفغانستان حتي الفنانات ..و الرجال أطلقوا اللحي و لبسوا الجلباب .. و الشبشب
و أغلقت السينمات و المسارح ..و ألغي قسم النحت في كلية الفنون ..و قيل لطلبة الكونسرفتوار أن الموسيقي مزمار الشيطان ..وذابت الحداثة و القيم الجمالية التي أنتجتها الستينيات .. لتحل محلها قيم الوهابية .
التحول الرابع تعيشونه الان و تعجبون من تناقض قيم الجمال بين سكان هذا المكان .. و تدهور الإبداع الفني ..الذى تتحكم فيه (المتحدة) و رجالها .. فيتحول الفن والإعلام إلي صفوف توجيه معنوى ..و الكومباوندات إلي قشلاقات .. محروسة ممنوع دخولها إلا بتصريح ..و لا يبق في كل المجالات إلا شر البقر (الملتفون حول من يدفع لهم أكثر ) يحاولون أن يفرضوا ذوقهم علي الجميع .
.خلطة تحكم ذوق الضباط .. مع بهاليل دول الخليج .. و النفوريش جعل الشارع المصرى سمك لبن تمر هندى .. و فوضى اللي عايز يعمل حاجة يعملها ..
ثم بلي سكان القاهرة بسيادة غثاثة ذوق الهيئة الهندسية في الطرق و الكبارى و المنشئات ..و المدن . و تجميل الحدائق و الأماكن التاريخية و الميادين ..و إمتلاك ذوى الثقافة المحدودة للثروات لينعكس هذا اللبس و الأفراح و الحفلات ..
تشظي الوضع الإجتماعي و تباعد الطبقات .. أدى إلي تشظي الناس بين سكان الساحل الشمالي و العلمين و الكومباوندات و الجونة من المليارديرات
.. وبين مرتادى بلطيم و رأس البر و جمصة ..و العين السخنة و راس سدر و العصافرة.. من الطبقة المتوسطة ..
وبين الفلاحين و العمال و سكان الأحياء الفقيرة الذين لم يغيروا من أذواقهم و إسلوب معيشتهم .. منذ منتصف القرن الماضي حتي الأن . فهم في كل العصور لا يهتمون إلا بتوفير وجبة العشاء ..لاهلهم .. حتي لو إشتغلوا في الفاعل أو سافروا لبلاد يتوفر فيها المال