مجتمع الكوارث والإنزلاق الطبقي
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن
-
العدد: 8255 - 2025 / 2 / 16 - 09:53
المحور:
المجتمع المدني
في زمن الكوارث و النكبات (الحروب ، الأوبئة ، الفيضانات ، التسونامي ، حكم العسكر ، الإرهاب و الثورات وغياب القانون ) لا تنتظر أن تظل الأخلاق و القيم و الأعراف ..و الفنون و الثقافات علي حالها .. فالبناء التحتي جرى تدميرة .. و يعقبه إنهيار البناء الفوقي .. لتنتشر السرقات و الإنحلال وغيا ب الشرف بمفهومة التقليدى .. وتحل محلها قيم الغابة و صراع الضوارى من أجل النجاة
عظماء الفنانين عبروا عن هذه اللحظة في أعمال خالدة .. (لمن تدق الاجراس ) هيمنجواى .. (الحرب و السلام ) تولستوى ..(بداية ونهاية ) .. نجيب محفوظ .. (الحب في زمن الكوليرا ) ماركيز .. ثم لوحة بيكاسو الرائعة (Guernica) و لوحات (بيت الرجل الأصم السوداء ) جويا ..و (السيمفونية الخامسة ) بتهوفن .. و (العالم الجديد ) ديفورجاك .
لحظة تغير القيم .. عبر عنها المثل الشعببي .. ( إن جالك الطوفان حط إبنك تحت رجليك)..اما ما يحدث في الواقع فهو أكثر قسوة .. خصوصا ما يصيب الضعفاء من القوم غير القادرين علي السعي و الصراع .
الإنسان حيوان إجتماعي .. بمعني لا يستطيع أن يعيش منفردا إلا في قصص الخيال مثل كريتون العجيب و روينسن كروزو .. الذى سكن جزيرة منعزلة يؤدى منفردا كل ما يلزم لإستمرار حياة البشر من إعداد الطعام و الشراب و السكن و الحمايه من الضوارى و الحشرات .. أعمال في الظروف الطبيعية لا يقوم بها الناس منفردين فيتولي كل فرد من الجماعة أداء مهمة معينة .. يتعلمها ..و يتقنها ..و يقايض عليها .. ما يجعله يشترى باقي إحتياجاته .
الإنسان عليه أن يعمل . ضمن إطار مجتمعي و اسع .. و إلا يتم سحقه بواسطة الجموع التي تسعي لا تنظر حولها ..و لا تهتم بالغير ..الرجال و النساء لكل منهم دور جزء من الحمل الإجتماعي عليهم أن يقوموا به
في حالة العجز عن السعي يجب أن يجد المعوق من يعتني به .. حتي في زمن التوحش ..عندما كانت قطعان البشر لا تتوقف عن السعي لتأمين حياتها نجد أن الشيوخ و الأطفال كان لهم أولوية عند توزيع الطعام .. .إنه واجب لا يهم أن من يقوم به البعض راضيا و محبا و غير متضررا علي أساس أنه جزء من طبيعة الحياة .. أو يؤديه و هو منزعجا قرفانا و طالع عينة ويعتبر أن الاخرين حمل إضافي .. إبتلي .. بوجودهم.... فالرعاية منذ قديم الزمن واجب إجتماعي يعمل القادر ليل نهار و يتكسب من أجل توفير رفاهية و راحة الأسرة .. بما فيها الأطفال و العجزة ..و كبار السن ..
لكن هذه القاعدة غير مطبقة علي الجميع فهناك في ظروف الكوارث من يتركهم و يهرب أو يرمي أطفاله في الشارع .. أو يؤجرهم للعمل و هم صغار.. أو حتي يقتلهم .. و يشتكي لطوب الارض من عدم قدرته علي تغطية إحتيجاتهم عسي أن يجد من يحسن إليه .
هل هناك من يتصرفون بهذه القسوة و الحمق.. نعم و إن كان الوضع يختلف من مجتمع لاخر و مدى ثبات منظومة القيم .
في بعض الاماكن .. حيث القانون و التقاليد تعبر عن قيم الإنسانية ..تتدخل الحكومة و مؤسسات المجتمع المدني لتصون كرامة و سلامة غير المنتجين .. تجد لهم الملاجيء و أماكن الإيواء و الطعام ..والتأمين الإجتماعي و الصحي والتعليم و الترفيه و العناية النفسية.. تقدم كل هذا بحب دون من أو اذى ... أنظر كيف يفعلون في بلاد الواق الواق .. مع الهاربين من قسوة مجتمعاتهم .
أما في بلاد الكوارث .. فيصبح من لا يكسبب .. عبئا ثقيلا علي الناس والحكومة و الدولة يريدون التخلص منه .. بأى صورة و نقله من سجل الاحياء لكشوف المغادرين ..حتي يوفر معاشة و مصاريف إحتياجاته
نحن .. من أبناء هذا المجتمع القاسي الذى يشهد (نكبة حكم العسكر ) منذ سبعين سنة .. الذى يعيش في شوارعة مليونين مشرد تحت سن العمل ..و الذى تجد فيه الشيوخ يتسولون و المرضي يتكدسون أمام أبواب المستشفيات .. دون أى رعاية ..
الدولة في بلدنا مرابي رديء.. يأخذ من العاملين اقساط إشتراك المعاش طول سنين خدمتهم .. ثم عندما يستحق .. ينخفض دخل الفرد إلي العشر..و يصبح عليه إما أن يستمر في أداء اعمال أخرى أو ينضم إلي عصابات السرقة و النهب مبكرا وهو في مركز إتخاذ القرار ليراكم رصيدا للأيام العجاف.
كنت طفلا غير مرحبا به .. جاء ايام الحرب العالمية الثانية والأزمة الإقتصادية .. اشكل عبئا علي أسرة دخلها محدود.... كان الاب لا يتوقف عن إبداء إنزعاجه و تبرمه و ضيقه من الأعباء المالية الملقاه علي عاتقة ...و يرجع السبب لمصاريف من أنجبهم ... و الام تكمل إحتياجات الأطفال بالمحبة .. و الطبطبة .. و الوعود التي لا تتحقق.
لكنني كنت أجد في المدرسة عناية فائقة .. و إهتمام مخطط ..بجوار التعليم الجيد و التربية المحترمة .. في نفس الوقت التشجيع علي الإستمرار و التفوق ..
لم ينظروا لعائلاتنا و فقرها بقدر ما إهتموا .. بسلامنا النفسي .. و تعليمنا .. و صحتنا و أكلنا ..لقد كانت مدرسة فاروق الأول الثانوية حتي بعد إنقلاب العسكر الملجأ و الملاذ .. شتاء و صيفا عندما يحولونها لنادى يستقبل الطلاب يزاولون أنشطة عديدة ...و لا أعرف كيف كان سيصبح مصيرى لو لم أقبل فيها لتفوقي .
شيخوختي جاءت في زمن عكسي .. يفتقد التعاطف أو الرعاية .. أعيش منذ أن غيرت الحكومة قيمة العملة المحلية .. في غابة بها وحوش مستعدة لتدمير حياة الضعفاء بمجرد سقوطهم خارج كشوف المرتبات.
فإذا كان معوقا .. أو مريضا .. فهو لن يجد أى مساعدة .. بل سيستغله من يتحدثون بإسمه حتي يتكسبون من التبرعات ..و المنح و الهدايا .
في هذا المكان لتعيش أمننا في نهاية العمر يجب أن تكون لك عزوة .. أبا لدستة من الأبناء و البنات .. واحد جنرال .. الثاني قاضي .. الثالث من كبار رجال الامن .. الرابع طبيب .. والخامسة تتزوج مقاول .. أو لاعب كرة قدم ..و السادسة رقاصة في كبارية أو مغنية ..و الباقين يعملون في الدول العريية يكسبون بالدولار ..فيصيبك من الحب جانب عندما يحولون أموالهم ..و يتنافسون لجعلك راضيا غير كدة ستصبح بلا ظهر تعيش منكمشا .. قلقا .. لا تعرف من أين ستاتي المصائب .
كثيرا ما افكر أنني أخطأت الطريق بدخولي كلية الهندسة .. كان علي والدى .. أن ياخذني و يذهب لصديقة القديم عبد الحكيم عامر .. يقوله هذا (محمد ) الذى كنت تسأله عندما تزورنا ( رطل القطن أتقل و لا رطل الحديد ) لقد كبر ..و مستعد أن يكون واحد من رجالك ..
كانت حياتي ستتغير . لن اقرأ أى كتاب .. من تلك التي أضعت عمرى في دراستها .. و سأصبح من الطبقة العليوى (باشا ) .. أكسب كثيرا خصوصا لو كنت مقربا من سيادة المشير أسافر في بعثات .. أتمتع بإمتيازات .. أدخر الأموال .. لا أتزوج أو أنجب .. بل اصيع مع الرقاصات و الممثلات ..
و عندما اصل لرتبة لواء .. أكمل حياتي محافظا أو سفيرا أو وزيرا او مين عارف .. كانت الايام حتوديني .. فين .
لكن بالتأكيد عندما اذهب للمستشفي العسكرى لن يعاملونني بإهمال ..و سيتيسر لي كل العناية و الأدوية ..و عندما أذهب للنادى ساحاط بالترحيب و تقديم افضل الخدمات لي و للأسرتي .. و عندما أحتاج لاى خدمة سأتصل بالمسئول مباشرة ..و أقول ((اللواء محمد ..و الله لنا عند حضرتك طلب )).
عندما تكون مهندسا وتفقد قدرتك علي الكسب .. ينفض الناس من حولك .. إذا لم تكن عضوا في مافييا أو زعيم قبيلة ..ثم تصبح عبئا علي الأقربين .. ترى في عيونهم الإنزعاج الذى لم يفارق عيون والدى و ضيقه و نرفزته لأتفه سبب ..حتي اصبحت أكسب ما يغطي إحتياجاتي .
اعيش اليوم .. بعد أن تغيرت أخلاقي و اصبحت أملك قيم المصابين بالكوارث.. منكمش .. في حالي ..ماشي جنب الحيط .. لا أتناول مخدرات أو أدخن أو مسكرات ..و لا ألعب قمار أو أطارد الجميلات .. أطرش لا اسمع الحوارات ..وكفيف لا أرى جيدا ..وقرفان لا أحب أكل الدواجن ..او اللحوم .
عندما فكرت أن الجأ لبيت من بيوت العجزة .. إحتقروا معاشي .. و كادوا أن يطردوني .. عندما اذهب لمستشفي الجيش يطلع عيني لان رتبتي صغيرة ..و في المستشفيات غير التابعة للدولة يسرقوني ..علي أساس اني صيدة
لا أشترى ملابس جديدة .. و لا أرتاد للمطاعم الغالية ..و لا الرخيصة .. و عندما افكر في الذهاب للمتحف أجد أنهم قد قذفوا به لاخر الدنيا .. كذلك معرض الكتاب .. و الإستاد و الأوبرا الجديدة .. بحيث لا يرتادها إلا الذين لديهم سيارة .من الاثرياء .. و اللصوص .. و الغاسدين ..
المسن الذى يعيش في بلاد الكوارث .. يلق سوء المعامله من الجميع .. رغم كونه قد قدم السبت ايام قوتة ..و ينتظر التعامل بالمثل ..و هو لا يستطيع مد يده للاخرين .. أو يشحت التعاطف ..و يرى أن الناس حوله مثقلين بهمومهم.. فلا يريد أن يزيد منها ..
و عندما يحكي .. لا يجد إلا كلمات التعزية و الصبر ..و أهو كلنا تعبانين ..و ستفرج علي أهون سبب .. و مش أحسن من أهل غزة و سوريا و السودان و اليمن .. بلاش بطر إنت علي الاقل لاقي سقف يغطيك .. و شوية ميه نظيفة.
جرى إيه يا ولاد (الوسخة ) .. خليكو في حالكم .. أنا شقيت و تعبت ..و مبخلتش بجهد و لا مال .. فينتهي بي الحال ..أن أكون راضيا و سعيد ا لإني أحسن من أم برعي اللي في كفر الهنادوة اللي عايشة في بيت من غير دورة مية ..و سقف .
لو لم يخفس مصطفي مدبولي و الجدع بتاع وزارة المالية ( معيط ولا زعيط و لا نطاط الحيط ) ده قيمة مدخراتي .. كنت فضلت في مكاني .. علي الدرجة الأخيرة من سلم الطبقة المتوسطة .أنفق في يسر .. لا أنتظر مساعدة اى مخلوق .. .و لما إنزلقت حتي أجلس مهتزا علي السلمة الاخيرة قبل طبقة المحتاجين و الفقراء .ليصبح أقصي ما أتمناه أن أغادر هذا المكان .بكرامة ..دون طلب المعونة إلي حيث يصبح الكائن غير محتاج للأخرين أو كما قال الإمام الشافعي
(( كِلانا غَنيٌّ عَن أَخيهِ حَياتَهُ... وَنَحنُ إِذا مِتنا أَشَدُّ تَغانِيا)) .. أف علي دى عيشة .