غسيل أملاح المجتمع الضارة
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن
-
العدد: 8249 - 2025 / 2 / 10 - 08:27
المحور:
المجتمع المدني
عندما نتحدث عن عراق سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي ..سنذكر تلك السجون و المعتقلات الرهيبة غير الإ نسانية ..و الخوف الذى اصاب الناس من تغول الحزب الحاكم..و الصراع مع البعث السورى .. ثم الحرب مع إيران و الكويت .. حياة .. مرعبة قاسية ..يجرى فيها تقديس صدام حسين .. كما لو كان مبعوث السماء .. تجد صورة و تماثيله اينما وجهت نظرك .. سواء في الشوارع أو المباني الحكومية أو علي شاشات التلفزيون ..
و لكنني عاصرت البداية في زمن أحمد حسن البكر عندما كان نفس المكان عراق أخر ..عشت في بغداد و تجولت في الأرياف نقيم خطوط كهرباء .. ثم في البصرة .. ننشيء مدينة جديدة .
في عراق احمد حسن البكر الذى إستمر لعشر سنوات ( 68-79 ) ..كنت تسير في شوارع بغداد فترى غابة من معدات الإنشاء الحديثة .. و سيدات يلبسن أحدث موضات العصر .. بجوار ناس مرحبة مبتسمة ..تحييك لمجرد أنك تتكلم بلهجة مصرية ..
الاسواق بها بضائع مستوردة من كل أنحاء العالم ..و الدينار يساوى 3.3 دولار .. مثل دينار الكويت ..و المكتبات بها إصدارات علمية و فلسفية و فكرية .. بعضها نادر ..و الأجانب الذين يقومون بإنشاء العديد من المشروعات القومية المفيدة يتحركون بامان .
عشت في هذا العراق الجميل المطمئن .. مرحلتين .. احدهما مع الإتحاد العربي لعمل مشروع كهربة الريف في خمس محافظات.. و الاخرى متابعة شهرية في البصرة لاعمال شركة إيطالية تنشيء البنية التحتية لمدينة جديدة و معالجة أرضها غير الصالحة المملحة ..قبل إقامة مساكن سابقة التجهيز .. تعدها مصانع محلية .
الخطوة الأولي لعمل تلك المرافق كانت غسيل الأرض .. عمل هندسي .. لم أزاوله من قبل ..و لم أراه إلا هناك .. كان المشروع تصميم مكتب إستشارى فرنسي ..و يشمل مد مياة نقية .. للمكان .. ثم إنشاء شبكة صرف مغطي .. و تقسيم الأرض إلي مربعات .. تغمر بالماء النقي .. ثم تسحب بعد فترة عن طريقة شبكة الصرف المغطي ..و تجمع في بحيرة تؤخذ منها لتلقي في مياة الخليج بواسطة خط صرف أخر ..
العملية مركبة .. تحتاج لصبر و خبرة ودقة .. و زمن .. حتي يزال الملح من الأرض ..و تصبح صالحة للزراعة و الإنشاء.
كلما تأملت الحالة السياسية و الإقتصادية و الحضارية في بلدنا .. تذكرت أرض البصرة المملحة .. لقد أصاب المجتمع عبر الاف السنين أملاح الخنوع للإستعمار ثم للأنظمة الفاشيستية الحاكمة التي تلت الإستقلال ..
و أملاح أخرى تتصل بالغزو الوهابي و إنتشار إسلوب حياة السلفيين المسلمين و العدوى التي اصابت السلفيين المسيحيين ..
ثم كارثة الخضوع لتعليمات صندوق النقد و البنك الدولي ..و الغرق في بركة الديون ..و الإنقصام الطبقي بين اوليجاركية بالغة الثراء و شعب مكسور الجناح لا ينتج و لا يعمل ..و يجلس منتظر عطايا السماء .
أملاح المجتمع المصرى الضارة بما في ذلك السلوك و المنظومة الأخلاقية .. تمنع تنمية هذا المكان و ترقية الناس .. و تحتاج أن نذهب لمكتب إستشارى متخصص يصمم لنا .. شبكات غسيل التربة و تحسين خصائصها .. ثم شركة .. تقوم بصبرعلي تنفيذ الخطط .
المكتب الإستشارى المطلوب و شركة المقاولات التي ستغير من حالتنا .. هي أحزاب .. عصرية ..و مؤسسات المجتمع المدني .. تعيد .الحياة الطبيعية .. و تقوم بإضاءة كشافات التنوير
أجاب إيمانويل كانت عن سؤال ما هو التنوير؟ بقوله ((إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد.)).. كما عرَّف القصور العقلي على أنه ((التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا.))..
ومن هذا المنظور جاءت صرخته التنويرية لتقول: ((اعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب. تحركوا وانشطوا وانخرطوا في الحياة بشكل إيجابي متبصر. فالله زودكم بعقول وينبغي أن تستخدموها))
عندما يولد طفل يصبح مثل الصفحة البيضاء يكتب عليها أهله و عشيرته مايريدون .. قد يكون نصف الجملة الاخير متوافقا مع الواقع و لكن هذا الطفل منذ ان كان خلية واحده تكمن في جسدى الاب والام .. كانت له شخصيته و صفاته التي تختلف من كائن لاخر
فالانسان جاء نتيجة تطور واسع للحياة استغرق ملايين السنين و كل منا يعيد هذه الدورة داخل رحم أمه ..الحياة تبدأ بخلية نابضة في جسد الاب التقت بخلية اخري لتكون نوع من الخلايا التي تنقسم لتكبر وتعيد قصة تطور الكائنات الحية من خلية الي اسماك الي برمائيات حتي تصل الي مرحلة الثدييات قبل ان يولد باسابيع محدودة ..
ابني- فضلا عن انه كان يعرف أن حفيدى صبي.. صور تطورتكوينه داخل رحم أمه وارسل لي فيلما مذهلا يبين كيف كان في كل مرحلة ..
اعضاؤنا تكونت من خلال التجربة و الخطأ ليبقي ويستمر ما يتناسب مع الواقع و لتتحول اخرى الي اثرية مثل الزائدة الدودية اوضرس العقل وتختفت تماما بعضها مثل الذيل و الحوافر ..
فاذا ما تابعنا رحلة التطور نجد ان خريطة للجينوم البشري كاملاً،توضح المعلومات الوراثية التي يحملها كل البشر فوق كروموسوماتهم قد أصبحت متيسرة لكل منا و انه يمكن التنبؤ بالامراض و المستقبل التقديرى لحياة الناس عن طريقها،إن ملاحظة حركة الطفل منذ سكون ما بعد الولادة حتي يكون قادرا علي الجرى مرحبا بك لابد أن تدعو للتأمل
فهو راقد يحرك بعض الاعضاء ثم يتعلم التحكم فيها ثم يحبو و يتحرك علي اربعة لينتصب واقفا مثل الهومواركتوس يسعي بيننا يدمر ما يصل اليه يده حتي يتعلم كيف يسيطر علي رغباته الحيوانيه فيخرج فضلاته في المكان مناسب و لا يضع كفه في النار و يعرف كيف يؤثر علي الاخرين عندما يرضي فيضحك أو يغضب ويبكي ..
تطور مذهل لا يستطيع تأمل معانيه الا الجدود لقد حمل الطفل اخيرا كل صفات الحياة من شكلها البسيط حتي شكلها المركب و صفات المملكة الحيوانيه واسرته في معجزة حقيقيه .. لا تختلف عن ما يحدث للكلاب و القطط و باقي اقاربنا من الثدييات .
بمعني ان الطفل لم يكن في يوم ما صفحة بيضاء يخط عليها الاهل و العشيرة ما يريدون إنه كائن له ارادته التي يجب ان نحترمها و له قوانين تطوره التي ستجعل منه اينشتين أو ماركس اومغني إنشاد في سوق القرية .
إن ادعاءات تفوق وتميز البشر كنوع لا أستطيع أن أفهمها فالانسان منذ البداية و حتي اليوم كائن ضعيف يحكمه الخوف و القلق و الاستسلام لايمان نتج عنهما وتقاليد أكدت علي استمرار هذه المخاوف .. نحن نخاف من الامراض ، العوز ، الجوع ، الاشباح ، المصير، نفاذ الماء و الهواء، تلوث البيئة ،الخوف وسيلة حماية ابتكرتها الطبيعة لحفظ الكائنات الحية ،
فالموقف الذى يهدد حياة الكائن يرتبط عنده بإفراز أنواع معينة من الهرمونات التي تجعل الشرايين تتسع و يتجه الدم الي الاطراف ،فيجرى ، يضرب ، يصيح ، و يتصرف بإسلوب غريزى للنجاة ..
الخوف صاحب الانسان مثل باقي أعضاء المملكة الحيوانية و سيطر علي أجزاء لها وزن من ردود أفعاله حتي تحول الي أمراض معوقة عن التوافق مع الحياة مثل الوسواس و الفوبيا لتتحول اساليب الطبيعة للحمايه- هي نفسها- مصدرا للخطر
و هو ما يستغلة فينا ..المجرمين و البغاة و الحكام .. و رجال الدين ..يجعلوننا ساكنين .. مستسلمين .. منتظرين الفرج ..
حتي يأتي .. من ينير لنا الدرب ..و يعلمنا .. كيف نغسل الارض المملحة .. بجينات الخوف .. لتصبح صالحة لنمو البشر ..
أف .. رحلة طويلة ..لا تحدث بين يوم و ليلة ..و لكن بتراكمات كمية بسيطة .. ثم تغير نوعي سريع .. تراكمات تحدثها عوامل التنوير .. وتغير لنصبح بشرا . .