الابراج العالية لا تصنع حضارة


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 8143 - 2024 / 10 / 27 - 08:31
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات     

شيء غير طبيعي .. أن تجد بيننا ناس تتكلم العديد من اللغات ( عربي ، إنجليزى ، فرنسي ، الماني ..و حتي العبرى ) ..و تجهل القبطية كإمتداد للغة المصريين القدماء .. أو النوبية لغة أهل كوش حكام الصعيد لأزمنة طويلة ..أو ( البداويت ) لغة قبائل الباجا في البحر الأحمر .. أو ( السيوية ) لغة أمازيج الواحات ...نحن نعيش في قمقم ثقافي فرضته علينا أجهزة البث و الدعاية و التعليم .. نجهل حتي اللهجات المحلية ..ونتعثر في الفهم أمام الكتابات الهيروغليفية أو الديموطيقية.. مثلنا مثل السياح ننتظر من يترجمها لنا .
المصرى المعاصر لا يعرف.. أبسط الاشياء عن القدماء ( الذين يدعي أنهم أجداده ) ... التفرقة بين رموز الربات و الأرباب المتعددة .. ( إيزيس ، نفتيز و حتحور ) أو ( أوزيريس ،رع .، أمون و أتون ) ..أو التمييز بين الأنواع المختلفة لتيجان الملوك القدامي (23 نوع ) بعضها ديني و الاخر إحتفالي .. أو بين الشعوب التي كانت تحيط بمصر و المرسومة علي جدران المعابد ( النيهسو أو السود ، الزمهيو بدو الشرق و العامو بدو الغرب ).
تصور ..أطفال أوروبا يدرسون هذا.
نحن لا نعرف شيئا عن الثقافة العابرة من شمال البحر المتوسط ..وإستقرت مزدهرة بالأسكندرية في زمن البطالسة.. ( الجريكو - رومان )
أو كيف إنتشرت المسيحية بين الناس ..و ما الخلاف بين أهلنا الأرثوذكس و باقي المذاهب و الملل التى جعلت الكنيسة المصرية متفردة بين كنائس العالم ..
المصريون هم الذين وضعوا النظم الكنسية (الترتيب الهيراركي)..و علموا الناس شروط الرهبنة وكيف يقيمون في الاديرة .. و صاغوا الأنغام المصاحبة للصلاوات و إطلاق البخور أثناء الطقوس ..و أزياء البطاركة و باقي رجال الدين ..
نظم (الكنيسة ) بعد مصر غيرترتيبها الذى جاءت به من ارض النشأة
.
الإستعمار الطويل الروماني و البيزنطي الذى دام لستة قرون ( 30 ق.م – 600 م ) .. قطع صلاتنا .. بكل ما حدث فوق هذه الأرض ..جهلنا و جعلنا بدون هوية نتقبل نظما جديدة قادمة من الشرق تنفي ما قبلها وتصور لنا أن الحياة بدأت مع عبور جنود إبن العاص منطقة المساعيد (قرب العريش ) ..
فلا نهتم إلا بطقوسهم و بمأثر سلفهم الصالح ..و تاريخ حروب نشر دينهم و كيف رحبت شعوب العالم القديم بالقوات الغازية
.
حديث الأوروبي اليومي يتخلله شخوص من مصدرين يتعلم منهما منذ نعومة أظافره مثل لغة الأم ..احدهما الفلسفة الإغريقية وقصصها و أساطيرها و أبطالها و رموزها.. كمصدر لثقافة الغرب
و الاخر الكتاب المقدس ( هولي بايبل ) بكل ما يحمل من أفكار شرقية ... أى خلطة بين الثقافتين مغلفة بالعلمانية الحديثة .
نفس الموضوع تجده عند الأتراك و الإيرانيين (الفرس ).الذين إحتفظوا بلغتهم رفم كونهم مسلمين ...وبين الهنود أو الصينين أو أبناء جنوب شرق أسيا ..
فهم لم ينفصلوا عن ماضيهم و لازالوا يحتفظون في حديثهم برموز من الاساطير الهندوسية و الأمثال و الحكم البوذية أو الزراديشتية أو الكونفوشوسية .... إنها جذور تربط الشعوب بماضيها .. و تجعل منهم نسيجا مميزا ممتدا عبر الزمن .
شيء محزن ما حدث لأجدادنا .. فبالرغم من أن أخبارهم.. قادمة من عشرة الاف سنة ..إلا أنهم لم يتمثلوها بل إمتعضوا منها و طاردوها .. لنيق في صفوف العرب و تاريخهم و فكرهم ...
لقد فصلنا عن ماضينا .. و لقنا بفلسفات الغرباء ..في نفس الوقت لم نعي بعد ..مفاهيم العصر المرتبطة بتعلية قيمة الإنسان و تعليمه و تدريبة علي التفكير المنطقي .. و خوض المغامرة الفلسفية بحرية مطلقة الواحدة تلو الأخرى بذكاء المتحضرين. .فلم نصبح طواويس مثلهم ..و لم نظل علي حالنا غربان .
تطور الفكر سواء في مصرالقديمة أو بابل واشور أو فارس و الهند أو في اليونان و بين الرومان إستغرق الاف السنين ..و مر عبر الأسطورة و الحدوته التي كانت تقص و تتناقلها الأجيال شفاهة ..عن الأبطال الذين يواجهون ..الكائنات الغريبة مثل اللويثيان و التنانين والبيجاسوس (الحصان المجنح ) ..و السايكلوب ( العملاق ذو العين الواحدة ) .. و القنطور ( نصف حصان و نصف بشرى ) و الجن و سكان العالم السفلي الدوات (حيث تغرب الشمس ) .
إيزيس و أوزيريس .. جلجامش و أنكيدو .. الإلياذة و الأوديسة ..كليلة و دمنة .. الف ليلة و ليلة .. و غيرها من أساطير إسكندنافيا و الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين .. أو سكان أستراليا القدماء .. لازال يعيش أبطالها علي لسان المعاصرين.. فيفهم الجميع معني الرمز .إلا سكان هذا المكان الذين لا هوية لهم تجمعهم
.يا ناس
.الابراج العالية و السيارات الفاخرة و القطارات السريعة ..و المدن الجديدة .. و الحياة الماجنة لا تجعل منكم متحضرين .. بقدر ما يفعل هذا درجة التمثل للثقافة المعاصرة ( عن الكون و الوجود ) و ربطها مع أفكار و أساطير الأولين في إطار من العلم و الفلسفة الحديثة
كنموذج لهذا المزج .. بين حواديت القدماء و الفلسفة ..سنراجع معا واحدة من أشهر أساطير الإغريق ..((أسطورة سيزيف ))، ابن ايولوس اله الرياح الذى كان ملكاً علي سيلينا بعد أن إغتصب عرش أخيه
سيزيف اشتغل بالتجارة والإبحار ، وعُرف عنه أنه كان محارباً بارعاً وماهراً وتميز بالمكر والدهاء .و القدرة علي الإقناع... و كان ثريًا جدا يتلاعب بالجميع ، وقد صوره هوميروس ومن تلاه من الكُتاب بأنه أمكر وأخبث البشر على وجه الأرض قاطبة وأكثرهم لؤماً...ورغم هذا كان زيوس كبير الآلهة عند اليونان يحبه بسبب طرافه حديثه .. و يأتمنه علي أسراره ومغامراته النسائية.
ذات يوم أراد سيزيف أن يزيح زيوس من علي عرشه ، ففشى بأسراره ، إلى إله النهر وقال له إن ابنته إيجينا علي علاقة غير مشروعة مع كبير الألهه ، وأنه أى زيوس قد قام باغتصابها.
عندما علم الإله بما فعله قرر أن يعاقبه بإرساله الي الجحيم ليموت هناك.
ولكن سيزيف استطاع أن يخدع إله الموت ثاناتوس حين طلب منه أن يجرب الأصفاد والأقفال، ليختبر مدى كفاءتها... وحين جربها قام سيزيف بتكبيله، و منع بذلك الناس أن تموت.
أحدث ذلك تمرداً وانقلاباً وثورةً وهياجاً، فلم يعد أحد من البشر يموت، انزعجت الآلهه لفقدها المتعة بموت خصومها البشر ، لذلك تدخلوا وأطلقوا سراح ثاناتوس وأعادوا إرسال سيزيف إلى الجحيم .
استطاع سيزيف الهرب للمرة الثانية ، مما أغضب زيوس، فأصدر عليه حكما بأن يعيش حياة أبدية، يمارس فيها مهمة شاقة، وهي أن يحمل صخرة عملاقة من أسفل الجبل إلى قمته.
فإذا وصل القمة تدحرجت إلى الوادي، وتسقط الي اسفل عند سفح الجبل فيعود مره اخري لدحرجتها الي قمة الجبل وما ان يصل الي قمته حتي تنحدر مره اخري للأسفل . ويظل هكذا إلى الأبد، حتى أصبح رمزاً للعمل غير المجدى والعذاب المستمر الدائم .
البير كامي الفيلسوف الفرنسي .. يعتبر أننا كبشر نعيش عقوبة (سيزيفية ) مستمرة .. و لم أكن في شبابي علي وفاق مع أفكاره هذه أو مع أنيس منصور الذى عرفنا عليهما ( كامي ) و( سيزيف ) ..
ولكنني اليوم بعد أن تعديت سن الخامسة والثمانين و رأيت ما رأيت أصبحت علي قناعة.. بانهما(أنيس و كامي ) قدإخترقا الحجب و شاهدا ما يحدث في بلدنا.. و وصفا كيف نصعد عبر قرن بأحلامنا إلي القمة لتسقط بنا إلي أسفل السافلين مع كل إخفاقة لسياسة حاكم من حكامنا .
خلال عمرى الطويل نسبيا .. شهدت السيناريوهات تعاد بملل ..أنتخابات صورية .. و منافس كومبارس للرئيس ثم إستمرار للقائد علي كرسية ( ديموقراطيا ) ليكمل المسيرة و الإنجازات لمدة ثلاثين سنة ..
سيطرة الأمن علي الثقافة و الفن و الخطابات الدينية .. و كل ما يتصل بفكر الناس و حياتهم ..
الإستدانة .. و بحترة الأموال في ما لا ينفع أو يفيد إلا أعداد من المسعدين بالقرب من السلطة..
و هكذا رغم المعاناة و فقد الإستقلال في إتخاذ القرار الذى عاني منها المصريون بسبب ديون سعيد و إسماعيل و توفيق ..إلا أننا كررنا نفس السيناريو في زمن السادات و مبارك و السيسي .. و ننفق الأموال المقترضة السهلة بنفس الطريقة .. فيما لا يفيد .. و في مشاريع ذات جدوى إقتصادية منعدمة .. نكرر هذا بصورة.. مستمرة كما لو كان علي الشعب الذى يتحمل تسديد القروض تنفيذ عقوبة التكرار .. رغم ما يصيبنا كل مرة من أضرار .
((في زيارة الخديوي إسماعيل لباريس عام 1867 لحضور المعرض العالمي، طلب من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المخطط الفرنسي (هاوسمان) الذي قام بتخطيط باريس بتخطيط القاهرة الخديوية ..
وفي مقابلة التكليف بين الخديوي وهاوسمان، طلب إسماعيل أن يحضر معه إلى القاهرة كل بستاني وفنان مطلوب لتحقيق خططه)) مهما كانت التكلفة.
لتصبح القاهرة الخديوية السياحية ..خلال أيام حكمة من أجمل العواصم و أكثرها حيوية ( فقط أنظرللرسومات والصور التي سجلت تلك الفترة )أوإلي مباني وسط المدينة (التي يطلق عليها اليوم عزيز قوم ذل ) ومحطة السكة الحديد و صور وسائل المواصلات الاخرى التي كانت تتحرك بأناقة في الشوارع النظيفة الهادئة المحاطة بالاشجارومرصعة بالتماثيل والكبارى ..
و الي دار الاوبرا( التي حرقتها عصابات السادات ) والمتاحف والقصور والفنادق( مينا هاوس وسميراميس وشبرد ).. ومباني مصر الجديدة المميزة .. و شارع الهرم( قبل هجوم العشوائيات المنفرة) ..و الحدائق الواسعة علي النمط الاوروبي المعتني بها سواء كانت الاورمان او الحيوان او الحرية..ونظافة و هندام البشر الذين كانوا يتحركون فيها حتي تلك التي كانت ترتدى ملاية لف و برقع (في الحوارى و الازقة ) وصورها محمود سعيد بلوحات موجوده بمتحفة بشارع جناكليس ،كانت متحضرة و قمر.
ما هو مصير هذه القصور و الأبراج و البساتين .. و الشوارع و الكبارى التي بناها الخديوى إسماعيل تقليدا لمدن أوروبا ....إنه نفس ما سيحدث لإنجازات عصر المليارديرات في العاصمة الجديدة و العلمين ..تقليدا لمدن الخليج
. نحن في ورطة لاننا اصبحنا بناء ضخما لا أساسات له .تهزة الرياح و تسقطة الزلازل .. . نكرر نفس الاخطاء .. ولا نتعلم.... لقد ُحكم علينا..أن نؤدى عقوبة سيزيفية .. لا تتوقف .. نقوم بها بكل جدية .. وإصرار علي ألا نتغير أو نتدبر أو حتي نفكر ...