السينما و رجال الدين


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 7999 - 2024 / 6 / 5 - 07:46
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

عام 1951 عرض في سينمات مصر فيلم (( حبيب الروح )) بطولة ليلي مراد و أنوروجدى ..و يوسف وهبي ..قصة الفيلم بسيطة .. زوجة صاحب ورشة تصليح سيارات صوتها جميل ..و يكتشف هذا فنان معروف .. فيطلب منها الغناء في الإذاعة والحفلات ..و لكن زوجها وحيد ( أنور وجدى ) يرفض .. فيحرضها الفنان علي عدم طاعتة ..و تصبح مغنية مشهورة .
ما لفت نظرى في ذلك الوقت و كنت طفلا .. أمرين ..
أغاني ليلي مراد الإستعراضية الممتعة .. و الشيخ صابر(إبراهيم عمارة ) الذى يعمل في ورشة (وحيد ) ويظهر في الفيلم يجفف ساعدية بعد الوضوء .. مطلقا لحيتة .. يتكلم بحكمة .. ويحب وحيد و يسعي لخيره ..و ينصحه بعدم التهور بالإنفصال عن زوجته .. بل يذهب معه لحضور حفل غنائي لها ..
لقد كان نموذجا (للسني ) الطيب المحب للخير الذى يعمل في وظيفة ( مدنية) يأكل منها عيش بعيدا عن التجارة بالدين التي لم تكن رائجة قي ذلك الزمن .. ساعيا بين الناس من أجل قول كلمة حق تزيل همومهم..وتخفف من مشاحناتهم
الشيخ صابرأو الشيخ حسن (يحي شاهين ) في جعلوني مجرما 1954 ..أو كل شيوخ سينما ذلك الزمن .. كان لهم مثيلا بكل عائلة مصرية في الخمسينيات ..
في عائلتنا كان الحاج (أبوحسن ) جوز عمتي .. موظف في المطابع الأميرية .. يطلق لحيته أيضا و يهتم بأداء الفروض .. محبوب من الجميع..و سمعته إنه راجل حقاني .. يصلح بين المتخاصمين في العيلة و يحكم بينهم بالعدل .
الحاج (أبوحسن ) لم يكن يتكلم عن ملابس الناس أو سلوكهم حتي إذا راى ما لا يعجبة منهم فهويغض البصر ..و يؤم الكبار في الصلاة .. يستمعون له بإهتمام و هو يحض علي التكافل والمحبة بين الجميع .. بل في بعض الأحيان يرددون مقولاته لإثبات صحة وجهة نظرهم
.و هو لم يكن له رأى في الشأن العام ( السياسة و الإقتصاد ) فلم أراه يعلق علي الصراع مع الإستعمار الإنجليزى الذى كان الشغل الشاغل للكبار ..أو علي سلسلة الإغتيالات المتبادلة بين الحكومة و الأخوان ..و كان يعف عن مناقشة مساخر الملك و الأمراء و النبلاء .. أو الشكوى من سوء الأحوال المالية.. ولم يطلب مساعدة مالية أبدا مهما واجه من مشاكل .
رجل في حاله ..لا شأن له بالسياسة .. لم يؤيد حزب من الأحزاب .. في نفس الوقت لم يرحب بالإنقلاب العسكرى .. و عندما كانوا ينكشونة يصمت و هو يبتسم ...
هذا النموذج يخالف شيخ البلد ( حسن البارودى ) في دوره الشهير بفيلم الزوجة الثانية ( 1967 )..و إستخدامه الدين لصالح العمدة لكي يحلل زواجه من سعاد حسني ( فاطمة ) زوجة شكرى سرحان ( ابو العلا ) .. مرهبا إياه متوعدا له بذكر الأية الكريمة ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)) في غير محلها
أو (الشيخ حسونة )(يحي شاهين ) الذى كان يعمل تاجرا (بقال ) بقرية سيمر بها طريق يدمر زراعات الناس في فيلم الأرض 1970
هذا ((المناضل الذى يعيش علي أمجاده الوطنية السابقة، عندما كان طالبا بالأزهر.. يتخلى في اللحظة الحاسمة عن موقعه النضالي المفترض، حتى يضمن ألا يمر الطريق في أرضة )) معليا مصلحته الخاصة، و تكالبه علي الثروة حتي لو أصبح موقفه مضادا لمطالب البسطاء والامهم .
في التسعينيات يقف الشيخ صابر و الحاج ابو حسن بعيدا كل البعد عن أصحاب اللحي غير المهذبة في الافلام التي قدمها عادل أمام ( الإرهاب و الكباب ) 1992 و( الإرهابي ) 1994 و (طيور الظلام ) 1995 عندما أصبح التدين مهنة تجلب لصاحبها الملايين
بكلمات أخرى الفارق بين شخصيات الشيخ صابر ..و شيخ البلد .. الشيخ حسونة .. هو ما حدث في مصر خلال عشرين سنة من 1951 حتي 1970..
أما إذا قارنا الثلاثة بهؤلاء الذين قدمهم عادل إمام .. فسنرى جيلا أخر من المسلمين حول (سنية )المصريين المحببة الأقرب للصوفية إلي (سلفية ) نفعية تكسب صاحبها القليل من الفتات مع ثمانينيات القرن الماضي.. ثم إلي قيادة الإرهاب مع التسعينيات ..و طلب الأتباع بالطاعة دون نقاش..و توفر أموال تجعل منهم مليارديرات .
و هكذا ليس كل من يطلق لحيتة هو الشيخ صابر.. فلقد جاءت بعده نماذج مستجدة مع تطور الزمن .. كل منا يعرفها و يعرف تاريخها .. جيدا .و كيف أدت دورا محبطا بين المريدين المتحلقين حولها .
لقد كانوا متطابقين من حيث الشكل و لكنهم مختلفين في الشخصية و التوجهات . بعد أن أصبح للدين أكثر من خطاب ..و أكثر من جماعة دعوة..و اكثر من توجه سياسي و إجتماعي ..و رأينا البعض منهم يرشح نفسه في الإنتخابات و يناور ويماليء من بيدة القرار .. بحيث مهما كانت توجهات الجالس علي العرش فهو من المؤيدين له حتي لو كان مزة أمريكية ..
و يفرض علي الرأى العام قضايا تم حسمها من بداية القرن الماضي ( هل يقف مع عزف السلام الوطني أم لا ) و يلهث خلف مزايا السلطة و ما تجلبه عليه من الثروة .
دين الطرق الصوفية المصرى ..و (السنية )الطيبة المحبة للناس ..و الاصوات الجميلة في الأذان و التلاوة ..و في صلوات الأعياد ..و الذكر و التواشيح ..لم يعد له وجود ..
الدين الذى يحض علي المحبة بين الناس علي إختلافهم .. تغير ..و حل محله تعاليم فقهاء القاعدة و الجهاد و داعش يتكسبون من التحريض علي القتل و الشراسة و الإغتيالات ..و تدمير الكنائس و المساجد و أماكن الحراسة العسكرية و مقرات الحكم .و إسقاط الدولة .
الإسلام من بداية إنتشاره بين الناس ( حول 610 ) م .. و حتي منتصف العصر العباسي (750-1258 )م لم يكن لقرنين به رجال دين محترفين يتكسبون عيشهم من الدعوة ..في نفس الوقت لم يتوقف عن إدارة المناقشات و الحوارات بين المؤمنين و حكامهم.. لجعل الخطاب مفهوما لمسلمين جاءوا من خارج ثقافة شبه جزيرة العرب
كان القران محفوظا بين (كتاب الوحي من الصحابة ) و لم يدون إلا بعد وفاة الرسول (صلي الله علية وسلم )..ولهذا قصة شديدة الدلالة..قد يهم البعض البحث عنها عند العم جوجول .
بعد عهد الخلفاء الراشدين ( أو في نهايتة ) إحتد النقاش بين المسلمين حول القضايا الفقهية و أداء الطقوس و إنتهي إلي تنازع فسطاطين كبيرين ( سني و شيعي ) لكل منهما رجال دين يتكسبون عيشهم من عطايا الحكام و تبرعات المريدين و تنافس الأحزاب العديدة التي تجاوزت لدى الشيعة العشرات .. وأربعة مذاهب سنية كبرى ( حنفية و مالكية و شافعية .. و حنبلية )
في ذلك الزمن.. بدا التعليم الديني .. فقهاء يجلسون في الجوامع يحيطهم الطلاب .. ويقوم الحاكم برعايتهم بوتزويدهم بالجراية .لقاء الإلتزام بسياستة و تعليماته .
أغلب من خأهلتهم المعاهد الدينية هذة و أطلقتهم في سوق العمل ( إمام ، قاضي ،مأذون ،مفتي ، تربي ،مؤذن و قارىء لللقرأن ) كانوا يفضلون الإلتزام بما دونه السلف بعيداعن ضلالات البدع .
.أشهر هذة البدع إثنين احدهما (( محنة خلق القران )) قام بها المعتزلة في زمن المامون (883 ) م ثم المعتصم ..
و الأخرى تأثيم الفلسفة و تهافتها بواسطة أبوحامد الغزالي (1180 ) م .. ثم تهافت التهافت لإبن رشد .. و في كل من الحالتين .. لم يؤثر الفكر المستجد علي ما نقل عن الاقدمين
ثم توقف النقاش بعد سقوط بغداد بواسطة(( المغول بقيادة هولاكو خان يوم 9 صفر 656 هـ المُوافق فيه 10 فبراير 1258م..)) ..و تقوقع الناس عند حدود تعليمات إبن تيمية .. يسعون بكل الطرق لإنكار أى فكر لا يتطابق مع رؤيته.. و أصبح العامل المشترك في أغلب كتب فقهاء الأزمنة التالية .(أن كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار ). لتكبت أى محاولة للنقاش مع الدعاة مهما تغير الزمن .. حتي أن من قال أن الأرض كروية و تدور حول الشمس أو أن الجنين لا يبق في رحم أمه أكثر من تسعة شهور واجهوه بهجوم ضارى
رجال الدين المحترفين منذ زمن المماليك بالقرن الثامن عشر حولوا وظائفهم إلي حوائط صد للتغيير ..تمنع أن يصبح الشيخ طه حسين ..دكتورطه حسين... أوينتشر فكر الدكتور نصر حامد أبو زيد. .((بأن النص الديني هو منتج ثقافي، وأن الله سبحانه يخاطب البشر وفقاً لثقافتهم.)).
وضاعت جهود إبن رشد و إبن سيناء و جابر بن حيان و عبد اللة بن المقفع .. والأفغاني و محمد عبدة ....و خالد محمد خالد ..و طه حسين و محمد حسين هيكل ..وسيد القمني ..ونصر حامد أبو زيد و غيرهم لمعوا عبر الزمن للحظات ثم إنطفئوا منهزمين بعد أن سيطر الفكر السلفي ببطء علي المدارس و الجامعات.. ونشر كوادرهم و إسلوبهم في التعليم و في أدوات الإعلام و التوجيه المعنوى .
و أصبحنا كأمة غير قادرة علي مواكبة علوم العصر و تقديم سيمفونية عمل متعددة الالحان و الايقاعات .. او حل معادلة بها ثلاث مجاهيللا غير .. حتي عندما جلس علي كرسي العرش مليونيرات من رجال الاعمال .. لم تكن الاولوية لديهم تغيير نظم التعليم لتناسب العصر ..أو تشجيع الخطاب العلمي في وسائل البث و الدعاية .. أو خفض تطرف الجماعات المكفرة للمواطنين
لقد كان همهم تخليد أسماؤهم كما فعل سلاطين المماليك ببناء الجوامع و الكنائس باهظة التكاليف.. وتشوية ( نطوبر ) الأماكن الشعبية للمزارات المقدسة و تحويلها لأسواق تدر عليهم الأرباح من قروش النذور التي يقتطعها الغلابة من قوتهم .
حتي بعد أن غيرت السعودية ( معقل السلفية و قلعتها ) خطابها ..تحولت مصر و المصريين للملجأ و المفرخة ا الذى يسمح لملاك الحقيقة المطلقة بالتكاثر و السيطرة لعبدا عن نموذج الحاج ( ابو حسن ) و الشيخ ( صابر ) ..و الشيخ حسونة ..و شيخ البلد