الجبل الاصفر .. رحلة حياة
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن
-
العدد: 8061 - 2024 / 8 / 6 - 10:29
المحور:
سيرة ذاتية
قرب نهاية إنشاء محطة تنقية مياة الصرف الصحي بالجبل الاصفر . .. عام 1997... وجدت أن المقاول الإيطالي لم يهتم بالزراعة إلا حول المنشئات ..و بمساحات محدودة .. و ترك الأماكن غيرالمشغولة بالمباني و الطرق المتبقية من الألف فدان التي أقيمت عليها المحطة خالية من الزرع ..صفراء.بلون الرمل .
كان هدفه هو التوفير في أطوال شبكات الرى ..و طلمبات دفع المياة المعالجة في مواسيرها . فقد كان المشروع Lump sum أى عقد مقطوع
و وجدت أيضا أن مراجع التصميم الإنجليزى موافق علي هذا الإتجاه ... عندما سألته رد باننا ننشيء محطة معالجة تعمل بصورة جيدة تعالج مليون منر مكعب يوم .. و لا يهمنا ما هو خارج و حداتها .
المهندس حسين حسني رئيس الجهاز ..كان لا يتوقف عن زيارة المحطة ..و يعتبرها إنجاز شخصي له ..و كان لا يثق كثيرا في تقارير المقاول الطلياني .. أو الإستشارى الإنجليزى .. فكان عندما يحضرللموقع يتجه من الخارج إلي مكتبي .. يأكل من الحلوى التي أضعها علي منضدة صغيرة للضيوف ..و يسألني عن تقدم العمل .. ثم يأخذني في عربته .. التي يسوقها داخل المشروع بنفسة..و يدور في الموقع ليرى ما حدثته عنه
أصبحنا أصدقاء ..لذلك عرضت عليه موقف الزراعة و فقر الموقع ال(Landscape) و إقترحت أن نزرع في الأماكن المتروكة فارغة نخيلا و أشجار زيتون و زهور .. تمتص الغازات الناتجة عن المعالجة و تنقي الجو ..و في نفس الوقت تتكامل في الشكل مع البيئة المحلية المحيطة المزروع بها كم هائل من النخيل و نوزع المحصول( بلح و زيتون ) علي العاملين بالمحطة لنربط بينهم و بين العمل بإحساس الإنتماء .
المهندس حسين .. إستشار الوزير و وافق من حيث المبدأ وطلب مني أن أعد تصميما يعيد تشكيل الموقع خارج المباني .
كانت العقبة الأساسية هي تزويد الغابة المقترحة بالماء رغم توفرة كناتج للمعالجة ..لكن شبكات الدفع و التوزيع تحتاج تصميمات جديدة ..و تكلفة عالية .. لذلك إقترحت حفر ثلاثة أبار بعمق خمسين متر نأخذ منها المياة الجوفية و نروى بها الزراعات الجديدة
كان التصميم المقترح..هو زرع صف من الجزورين ملاصق للأسوار من الداخل .. يلية ثلاثة صفوف من النخيل ..و أريعة صفوف من شجر الزيتون ..و المساحة بين الشجر و الطرق نزرعها نجيلة يحيطها من الجانبين شجيرات تشكل سورا طبيعيا و تنتج زهورا و ورودا .
.
ذهبت لرئيسي الإنجليزى بالمشروع .. رد إعمل اللي إنت عايزة بالنسبة Landscape Design..مادام المالك موافق .
صدق المهندس حسين علي التصميم ..و أصدرنا أمر مغايرة للمقاولين بحفر الأبار و عمل الشبكات و زرع الأشجار و النجيلة .
عند إفتتاح المحطة 1999جملت الأشجار و الزهورالمنظر و جعلت من المكان جنة مميزة .. حتي أن زائرا أمريكيا قال بعدما طفت به المحطة بسيارتي (( المفروض السياح يزوروا الهرم و المتحف و محطة الجبل الأصفر )).
كان المكان الذى أقيمت عليه المحطة في أواخر عام 1991 مزارع فواكه ( برتقال و يوسف أفندى و جريب فروت ) تنمو أشجارها فوق مخاضات و برك و مستنقعات تغطي الموقع.. و تمتليء بالحشرات و الزواحف ..و الروائح غير الطيبة .و كان علي شركات المقاولات العاملة .. أن تقطع تلك الأشجار قبل البداية .. و تسوى الأرض و تعالجها بحيث تصبح صالحة للإنشاء .
لقد كان أمرا محزنا أن نزيل الأشجار المثمرة .. بحيث أخذت علي نفسي عهدا أن أعيد زراعة المحطة بعد إستكمال العمل بأشجارمثيلة تعويضا عن ما قطعناه من قوت المصريين...
و لكن خبراء الزراعة قالوا أن الموالح تحتاج لرعاية ..و الافضل هو النخيل و الزيتون .الذى ستكون صيانته أسهل. و شكله أفضل .
و نجحت التجربة عاد موقع الجبل الاصفر ليصبح مزرعة .. نظيفة و جميلة ..و مرتبة ..و تزهو بأزهار الجهنمية متعددة الألوان .
في أول سنة إنتاج عندما وزعت المحصول علي العاملين جاءني من يقول إنت مش بتوزع في عزبة أبوك إنه مال الحكومة و عليه أن يباع بمزاد تدخل عوائده للخزينة العامة .. فرفعت يدى عنه و تركت الملاك .. يسوقونه ويبيعونه بمعرفتهم
غادرت المرحلة الأولي من الجبل الاصفر بعد الإنتهاء من سنوات الصيانة عام 2006...و إشرفت علي مشروع توسعات محطة أبو رواش بالجيزة .... ثم عدت لها عام 2008 لتنفيذ مشروع رفع كفاءة المرحلة الأولي..
كنت أرى من بعيد عراجين البلح تنبت علي رؤوس النخيل.. كل عام .. ثم يأتي من يجمعة في شهرى أغسطس و سبتمبر
تمر الأيام .. و في عام 2018 يطلبون مني الإشراف علي تشغيل نفس المحطة التي عاصرت إقامتها
كانت تعاني من عدم كفاء الصيانة .وسوء إدارة مقاول التشغيل و عدم خبرته و جشعه و توفيره في الإنفاق بتخفيض العمالة و التخلص من الخبراء الأجانب و المهندسين ذوى المرتبات العالية ..أوإهمال شراء مستلزمات العمل و قطع الغيار. ولا اريد أن أتحدث عن الفساد فلم أشهد حادث بذاته رغم أن الناس كانوا لا يتوقفون عن سرد الحكايات و الوقائع ...ومقدار الأرقام الفلكية التي يجرى تداولها في الخفاء بين أطراف عديدة من العاملين ىسواء أسفل السلم الوظيفي أو قمته .
المحطة بعد تشغيل ما يقرب من عشرين سنة بواسطة شركة شكلها الوزير علي عجل لتحل محل المشغل الإيطالي المستعين بشركة (تيمزوتر) البريطانية ذات السمعة العالمية ..تدهور حالها و أصبحت في حاجة لإستبدال الكثير من معداتها و تحديث معظم وحداتها ..وإن كانت مزدهرة من الخارج بسبب كثافة الزراعات و الأشحار إلا أنها كانت تعمل بمعدلات منخفضة بسبب كثرة الاعطال ..
في صيف 2021 .. ظهرت العراجين في ميعادها و لكن تأخر جمع المحصول لأوائل سبتمبر ..ثم خلال الشهر إسود البلح علي أعناقه .. ثم عفن في مكانه .. و تساقط دون جمع .
ورغم أنني ( كإستشارى ) نبهت المالك عدة مرات إلي أن البلح (الذى يملكه ) سيتلف إن لم يجمع ..إلا أنه لم يتخذ إجراءا مناسبا .. لقد كان بيروقراطيا ذو نظرة وحيدة متصلة بقانون المناقصات و المزايدات
فلقد أقاموا مزادا لبيع المحصول و لكن لم يصل عائده لنفس قيمة السنة الماضية بسبب تأمر المتزايدون بحجة إرتفاع قيمة ما يدفع في الخفاء
..إنتظروا إسبوعين ثم أقاموا مزادا أخر .. فلم يصل لسعر المزاد الأول ..ثم إنتظروا إسبوعين .. كان البلح فيها قد عفن علي أكمامة .. فلم يأت لهم مشتر ..
ولكن السيد البيروقراطي كان سعيدا لأنه قضي علي مخطط المتزايدين ولم يخالف اللوائح و القوانين ((و علي و علي أعدائي )) كما قال شمشون و هو يهد المعبد ..رغم علمة بأن الحكومة بدلا من أن يدخل خزائنها ثمن المحصول ستدفع أضعاف ثمنه لمعالجة التلوث الذى حدث بسبب تاخر جنيه في موعدة
.
كان تلف البلح القشة التي قسمت ظهر البعير ..فقد قررت أن يكون هذا سببا لإنهاء رحلتي مع كوابيس العمل في بلد مريض ينفق المليارات علي مشاريع لا يستطيع صيانتها أو إدارتها
من الواضح أن الإنشاء بالإستعانة بالخبرات الأجنبية في مشاريعنا الكبرى .. سهل .. و لكن الإدارة و الصيانة و التشغيل أمر شديد الصعوبة علي موظفي حكومة توجه ميزانياتها (للإنجاز ) و تبخل علي تدريب و تعليم العاملين .. و الإنفاق علي الصيانة ..و إتباع الطرق العلمية للإحلال و التجديد
لقد كنت أرى أنني أخطأت في إقتراح زراعة أشجار مثمرة.. أضعها بين يدى موظفي البيروقراطية الغبية
و أتساءل إذا لم يكونوا قادرين علي جمع المحصول في أوانه .. فكيف سيديرون محطة توليد كهرباء نووية .أو البرج الأيقوني الذى يتحدثون عنه .
. و هكذا أن للمبحر أن يصل إلي المرساة ....و تقاعدت في بداية نوفمبر من نفس السنة .لانهي رحلة في محطات معالجة مياة الصرف الصحي بدأت من 12 يناير 1992 و إنتهت في 31أكتوبر 2021.. دون وداع أو تحية من أصحاب المكتب الذى عملت فية لمدة 30 سنة أو حتي حفلة سخيفة يسلم لي فيها شخص مسئول ..طبق فضة مكتوب عليه شكرا
وسكن المسن في منزله يتأمل ..و يخرج بنتيجة حزينة ... أنه قد أضاع عمرة و جهده في عمل أصابة الإهمال بالشيخوخة المبكرة .. وتحول رغم العرق الذى بذله الأف العمال و المهندسين و الخبراء .. والملايين التي أنفقها الشعب المصرى ..إلي bypass .. ينعي سوء الإدارة و ضيق الأفق و الجحود