صور من الصندوق الأسود
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن
-
العدد: 8038 - 2024 / 7 / 14 - 16:13
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ذاكرة طفل في الثانية عشر من عمره .. لا تحمل أحداثا مرتبة بصورة منطقية .. و لكن تمتليء بالصور .. بالألوان .. و الأشكال و الكلمات و الروائح و الإضاءة و شكل الملابس .. و اصوات الضحكات أو الصراخ و البكاء .
صندوق اسود .. لا يعرف الفلسفة و المنطق .. بقدر ما يصور الأحداث .
عندما احاول تذكر 23 يوليو 1952 .. ارى والدى بالبيجاما الساعة السابعة صباحا يمسك بيدة جريد الأخبار ..و إضاءة الشمس قوية .تملأ الحجرة . و والدتي تجلس بجواره تضحك .. و هو يريني .. صورة في الجريدة بها عدد من الضباط .. و يسألني .. تعرف مين من دول ..
أتأملهم بدون إهتمام و أشير لاحدهم و أقول أنكل عبد الحكيم .. يضحك ثم يستحثني .. لاتعرف علي الأخرين .. فأفشل .. فتشير أمي علي صورة أخر و تقول جمال عبد الناصر .. أتأمله قليلا .. ثم أتذكرة .. لقد كان أنكل عبد الحكيم يأتي لنا بملابس الضباط لذلك تعرفت علية أما أنكل جمال كان يأتي بملابس مدنية
لقد كانا من أصدقاء والدى .. و كان سعيدا بما يفعلون .. و يضحك و هو يقول مكنش باين عليهم .
في شارع الشرفا كانت مدرستي ( نوتردام ) .. و بعدها بقليل .. منزل يسكن فيه صديق أخر لوالدى .. ضابط إسمه محمد الصعيدى .. و له إبنة .. كانت زميلتي في المدرسة .. إسمها ناهد المنشاوى ..
كنا نلعب معا .. حتي بعدما تركت المدرسة ..و ذهبت لمدرسة الإلهامية الإبتداية ثم فاروق الأول الثانوية .. كنت أمر من أمام بيتهم أنادى عليها .. فتخرج من البلكونة في الدور الأرضي ذات الاسوار الحديدية التي تشبه بلكونات (الأرت نفو )..
في ذلك اليوم .. لم تخرج .... عندما سألت والدى قال أنهم قد إنتقلوا لمصر الجديدة ثم قال أنه ذاهب لزيارة والدها ..و أخذني معه .
في ميدان تريانف .. أمام الكازينو الشهير هناك .. كانت عمارتهم .. صعدنا في الأسانسير بين دهشتي و إرتباكي لقد كانت أول مرة أستخدمه ... دق والدى علي جرس شقة .. ففتح لنا ..سفرجي نوبي علي راسه عمامة و يرتدى الزى التقليدى للخدم ويتمنطق بحزام أحمر...
سأل والدى علي صديقة .. فادخلنا إلي حجرة الإستقبال .. طقم أو بيسون .. مشغول .. و لوحات علي الحوائط .. وسجاد فاخر ..و فازات ضخمة ممتلئة بالورد ..
بعد قليل جاء أنكل محمد يرتدى روب ديشامبر علي بيجاما حرير .. و حذاء صيفي خفيف .. رحب بالوالد بحراة و ربت علي رأسي ..
فقال والدى بيسأل علي زميلته .. فضحك و رد هي و أمها في الأسكندرية بيقضوا شهور الصبف . . ثم إقترح أن نجلس في الفراندا التي تطل علي الميدان و الكازينو ..و بعدها صحراء ممتدة لمدى الشوف .
جاء السفرجي يحمل طبقا به تفاح أحمر قاتم .. لم ارى مثله من قبل .. فرد والدى .. لا إعفيني .. لو ممكن فنجان قهوة سادة .
مد أنكل محمد يده للطبق و ناولني تفاحة ثم علق .. لسة جاى من لبنان واحد صديق كان هناك و جاب لنا كل واحد صندوق .
التفاح لذيذ زى السكر .. أنهيت التفاحة بسرعة فناولني أخرى .. كانا بتحدثان عن حركة الضباط ..و ما حدث لكل واحد من أصدقائهما ..
ثم لفت نظرى .. أنه إتحمق ..و قال .. بل أمسك مديرية ( محافظة ) أو مصلحة كبيرة ( مؤسسة ) و إلا البدلة جوة متعلقة حلبسها و أنزل أروح وحدتي ..
مددت يدى فأخذت تفاحة ثالثة ..و أنا مندهش .
في الطريق عاتبني والدى علي طفاستي .. ثم قال أن الشقة كانت بتاعة ناس من اللي سافروا و سابو مصر ..و أنهم وزعوها علي الضباط بعفشها .
مدرسة فاروق الأول الثانوية.. كانت مدرسة المتفوقين .في حينا . يتم إختيارهم بعد مقابلة للتعرف علي إمكانيات الطالب و يفضل صغار السن و من الذين يحصلون علي مجاميع كبيرة في الإبتدائية ..
الناظر (بك ) حقيقي ( أحمد بك زكي ) و المدرسون من أفضل هيئات التدريس .. و معلم الإنجليزى خواجا يرتدى شورت و برنيطة من بتوع قوات المستعمرات ..و يدرس الفرنسية مسيو فرنسي ..
المدرسة بها كل أنواع المعامل المعروفة في ذلك الزمن ..و صالات للرسم و أخرى للنحت بواسطة الصلصال ..
و مطعم ضخم نتناول فية وجبة غذاء ساخنة .. يوميا .. يشرف علينا المدرسين ..نستخدم أدوات المائدة .. و كان المشرف علي تناول الطعام يجلس بجوار من يفشل في إستخدام الأدوات ليعلمه .
المدرسة كان بها ملعب كرة قدم قانوني .. حوله تراك لألعاب القوى .. و حمام سباحة و مغطس وعدة ملاعب لفولي بول و للباسكت .. و صالة إسكواتش وأخرى للشيش و تنس ..
بالمدرسة مكتبة ضخمة و أماكن لإلقاء الشعر أو الخطابة ....بالإضافة إلي أن المطعم كان يمكن تحويلة لمسرح ..
بعد إنقلاب العسكر .. بدأنا نرى التغير.. الفصل الذى كان به عشرين طالب .. اصبح يضم أكثر من ثلاثين ..ثم جرى إلغاء نظام التعليم و الغاء شهادتى الثقافة و التوجيهية و تحويلها لمرحلة إعدادية 4 سنوات و أخرى ثانوية ثلاث سنوات ..
ووقف الوجبة الساخنة ..و تحويلها لسندوتشات جبنة صفراء و فاكهة الموسم يدور بها فراش في قفص جريد علي الفصول .. يناول كل منا نصيبة .
ثم بدأت الرياضة و الفرق المدرسية تنكمش ..و مستوى التدريس ينخفض .. ثم حولوا علينا طلاب مدرسة خليل أغا .. الذين كانوا أكبر منا سنا و لم يتعودوا علي السيستم فإعتبرونا عيال فافي .و بدأت المعارك ....و تكسير المعامل ..و قلة الصيانة ..
عندما كنت أستعد للذهاب إلي كلية الهندسة .. كان هناك مشروع لتقسيم مساحة المدرسة لعدة .. مدارس .. يقول والدى أن السياسة الجديدة كانت الكم علي حساب الكيف و لم أفهمها إلا عندما تم إنشاء ستة مدارس و مقر للمنطقة التعليمية .. في نفس المكان .. وأنتهت مدرسة فاروق لا تجدها إلا في صور الصندوق الأسود
كنت ضمن أول دفعة يجرى عليها النظام الجديد تجارب تغييراته ..و تحويل التعليم من الكيف للكم .. أول إعدادية ..و أول ثانوية عامة .. و أول مكتب تنسيق ..و أول زيادة في أعداد الملتحقين بكلية الهندسة
فى مدرسة فاروق الأول الثانوية ، حضر بعض الضباط برئاسة اللواء محمد نجيب ، الذى ألقى خطبة ، للطلاب لا أتذكرها فلقد كنت مشغولا بمراقبة .. أنكل جمال يقف بينهم .. بعد إنتهاء الخطاب جريت لأمسك بيده بين دهشة المدرسين والناظر ، وربت هو على رأسى قائلا : (( إزى حسين ))!!.. ومن يومها أصبحت المتحدث الرسمى باسمه فى المدرسة والمتتبع لخطبه فى الجرائد والاذاعة ،أحفظها وأردد مقاطع منها ، واقلد طريقته فى الكلام خصوصا عندما يقول(( أيها الأخوة المواطنون )).
إبن خال أمي اللواء عبد الفتاح بعد م قبضوا علية مع القيادات .. مسكوه إدارة الفنادق ..و إبن خالها التاني البكباشي سليمان ..إنتقل من حينا إلي عمارة في نصف البلد أمام السفارة السويسرية . و فيها شاهدت لأول مرة السخان الذى يعمل بالغاز و يغذى المطبخ و الحمام ..و الأرضيات الباركية التي تغطي المدخل ..و حجرات الصالون .. كانت الشقة واسعة بس إستلموها خالية من الأثاث.. فظهر عفشهم فيها قليلا لدرجة أننا كنا نلعب الكرة في المساحات الفارغة
ثلاث مرات قفزت وقفزت الدموع من عينى لا أستطيع التحكم فيها وانا أستمع اليه .. عندما كان يصرخ ويقول : (( إذا قتلونى فقد وضعت فيكم العزة ، فليقتلونى الآن فقد أنبت فى هذا الوطن الحرية والعزة والكرامة)) بعد نجاته من محاولة محمود عبد اللطيف اغتياله فى المنشية عام 1954 ،.
و لكنني كنت في نفس الوقت مندهشا من هذا الخطاب فالعزة و الكرامة و المطالبة بحرية الوطن .. و الإستشهاد في مواجهة قوات الإحتلال .. كانت متواجدة بين كل الناس و كل الطبقات و الأعمار .. لقد كنا لا نملك إلا إياها .. ..أنا نفسي كنت أتمني أن أذهب لمعسكرات الإنجليز و أشعل النار فيها كما فعل طفل في مثل سنى و قتلوه هناك
قال لي والدى بعد ذلك مدافعا عن صديقه أنه كان حديث شخص أطلقوا عليه النار لإغتياله . . و لكنه بعد قليل بدأ يغير رأيه .. لقد قبضوا علي عدد من أصدقائه ..و كان يتصور أن عليه الدور فجهز شنطة بها بعض الغيارات و الملابس .. وضعها بجوار باب الشقة .
أمي قالت أنه حضر درس ديني لواحد من الأخوان و أن من حضروا معه تم القبض عليهم ..و هو ينتظر البوليس السياسي .
و بدأت اخبار الإعتقالات و التعذيب تداول في منزلنا .. نسمعها نحن الأطفال و لا نعلق .. كنت أجد مبررا للقبض علي الأخوان ..و لكنني كنت أيضا حزينا علي ما سيحدث لوالدى ... من أعمال سمعت عنها تحدث من أصدقاء أبي زوار منزلنا ..
الحمد لله .. لم يضار والدى .. و لم تتدمر حياتنا ..و إختفت الشنطة التي كانت بجوار الباب .
رغم هذا .. كنت شديد التحمس للجيش و الثورة .. حتي أنه عندما بدأوا في جمع التبرعات لشراء أسلحة.. و كانت عربة محمل عليها ميكرفون تذيع أغنية (( زود جيش أوطانك و إتبرع لسلاحة ) ) تركت المذاكرة .. و أخذت حصالتي .. إديتها للضابط و مشيت ورا الموكب أشاهد السيدات و هن يتبرعن بذهبهن .. أو الرجال ..و كل منهم يخلي محفظ نقوده من العملة و يعطيها للضابط .
عندما سألت عمي محمد الصعيدى عن ما تم شراؤه بهذه التبرعات ضحك .. و قالي تعرف المدفع الهاوتزر تمنه كام .. ثم أكمل التبرعات راحت لصحاب نصيبها .
المرة الثانية التي قفزت فيها فرحا .. يوم 26 يوليو 1956 ، كنت حينها قد انهيت دراستى الثانوية واستعد لدخول كلية الهندسة . .. و كنت راقدا أستمع لخطبة الريس بمناسبة مرور أربعة سنوات علي الثورة عندما أعلن تأميم الشركة العالمية لقناة السويس.. لم أتمالك نفسي زعقت مع من يزعقون ..و وقفت حائرا في الغرفة لا أعرف ماذا أفعل .
كان والدى يجلس في الفراندة التي تطل علي شارع كنيسة الإتحاد .. الاضواء خافتة .. بحيث لا ترى من يجلس امامك .. .. جلست امامه نتبادل حديث عن ما سمعته من دقائق .. قال .. ليه بس كدة يا جمال .. القناة كان فاضل سنين قليلة و ينتهي عقد إمتياز إدارتها .. (( 99 سنة تبدأ من حفل إفتتاحها 1869 ..بمعني سنة 1968 ))
إندهشت من حديثه .. أكمل م صدقنا خلصنا من الإنجليز دلوقت .. حيعتبروها حجة ..و يرجعوا تاني .
كان أبى قد ابتعد عن رجال الانقلاب ، ولكنه كان يراسل ( من طرف واحد ) عبد الناصر ، يرسل له وجهات نظره التى كان بعضها معارضا لقراراته فلقد كان يعتبر نفسه صديقه ومع ذلك لم يلحق به أى أذى من هذه الهواية الغريبة
لم يعجبني هذا الحوار ..فلقد كنت متأثرا بما فعله مصدق و تأميم البترول الإيراني ..و أرى أننا لسنا اقل من الإيرانين .. فرددت .. حنقاومهم .. حنحاربهم..
رد .. و هو فين الجيش اللي حيقف قصاد الإنجليز.. رددت الشعب حيحارب .. حنوقفهم بأجسادنا.. قام و غادر المكان و هو يقول و الله م إنت فاهم حاجة .
كنت أتابع خطب جمال عبد الناصر وقراراته وأدافع عنها كما لو كانت قراراتى شخصيا
المرة الثالثة التي لم أستطع وقف دموعي عن السيلان .. كانت عندما خطب فى الجامع الأزهر معلنا مقاومة الشعب للعدوان الثلاثى ، وكنت قد أصبحت فعلا طالبا بكلية الهندسة .
لقد صحت توقعات والدى .. و هاجم القناة قوات من إنجلترا و فرنسا .. و تحركت قوات إسرائيلية في سيناء .. و قررت أن أتطوع للدفاع عن الوطن ..
سالت فعرفت أن هناك جماعة من الجيش تجلس قرب شارع القبيسي تتلقي طلبات التطوع .. ذهبت هناك و وقفت في طابور طويل .. حتي جاء دورى .. نظر لي الضابط من فوق لتحت .. كنت رفيع و شكلي ضعيف .. سأل سنك كام .. قلت له 16 .. رد بسرعة أقل سن 18 .. روح يابني ذاكر دروسك أنفع لك .
و لكنني لم أسمع النصيحة .. رحت لبتوع الدفاع المدني .. الذين قبلوني و أصبحت وظيفتي أمشي في الشارع ليلا أنادى طفي النور .
عندما عدنا للكلية .. كانت هناك دعوة .. لإعادة تعمير بورسعيد بعد العدوان و كان المطلوب متطوعين ..و بسرعة كنت أقف في الطابور ..و لكن حدث معي نفس الحوار .. الضابط سألني إنت في سنة إيه .. قلت إعدادى .. رد بزهق .. يعني متعرفش هندسة .. قلت لسة .. رد إحنا عايزين طلبة في السنوات النهائية .
زميلنا محمد صلاح .. قبلوه .. راح بورسعيد في عربيات الجيش ..و لكن بعد يومين رجع ... قال دى فوضي مش معقولة ..
محدش عارف هو بيعمل إيه .. حطونا في خيام وسخة و مقطعة .. بدون أكل أو مية ..و بعدين شغلونا في نقل الرتش بقفف .. كاوتش .. و في النهاية لا لقينا مية نستحمي و لا مكان للنوم ..و سهرت طول الليل أراقب الفيران الضخمة التي كانت تتصارع معنا علي الأكل اللي جيبناه علي حسابنا .. تاني يوم إعتذرت و رجعت . ..
و كبر الطفل و أصبح ولد ..و كبر الولد ليصبح شابا .. فوق العشرين .... لا يرى في عبد الناصر إلا كل ما هو جميل
عندما أصبحت فى السنة الثالثة وكان على أن أرسم وأجهز وأحبر لوحات مشروع نهاية العام ، كان هو يقرأ الميثاق الوطنى ..
كنت حريصا على أن أحصل على أعلى تقدير وفى نفس الوقت سماع حبيب الملايين ، لذلك فلقد أحضرت الراديو ووضعته بجوار اللوحة وكنت اتبادل التركيز على الرسم وسماع كلمات مثل .. الكفاية والعدل .. العمل حق العمل واجب العمل حياة .. تحالف قوى الشعب العامل .. الحرية الاجتماعية .. حتمية الحل الاشتراكى .
بعد ذلك عندما حفظت الميثاق ، كنت لا أمل من ترديد ((ان الحرية الاجتماعية طريقها الاشتراكية ، إن الحرية الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق إلا بفرصة متكافئة أمام كل مواطن فى نصيب عادل من الثروة الوطنية .. إن ذلك لا يقتصر على مجرد إعادة توزيع الثروة الوطنية بين المواطنين ، وإنما هو يتطلب أولا وقبل كل شئ ، توسيع قاعدة هذه الثروة الوطنية ، بحيث تستطيع الوفاء بالحقوق الشرعية لجماهير الشعب العاملة ، إن ذلك معناه ان الاشتراكية بدعامتيها من الكفاية والعدل هى الطريق الى الحرية الاجتماعية )) .
الله يا ريس .. ما أجمل هذه اليوتوبيا .. لقد كان نورا ونبراسا وأملا لطالب كلية الهندسة الذى كان على وشك الدخول لمجال العمل فى وطن (( تتلاقى فيه جميع عناصر الانتاج ، على قواعد علمية وأنسانية ، تقدر على مد المجتمع بجميع الطاقات التى تمكنه من أن يصنع حياته من جديد وفق خطة مرسومة و مدروسة وشاملة )) ..
و توقفت صور الصندوق الأسود ليحل محلها أفكار تشربها الشاب قطرة قطرة حتي أصبح ناصريا