نصف قرن من الغربة
محمد حسين يونس
الحوار المتمدن
-
العدد: 8137 - 2024 / 10 / 21 - 14:30
المحور:
المجتمع المدني
مصر التي عرفتها عندما كان عمرى 15،سنة غير تلك التي أودعها عن عمر 85..المصريون .. خلال سبعة عقود ..زاد عددهم من 18 مليون ليصبح 105 مليون .. القاهرة كانت مكانا نظيفا .. هادئا ..تشم روائح فل و ياسمين الحدائق أثناء سيرك و تسمع عزف الكمان أو البيانو و ضحكات الصبايا تأتي من المنازل قبل غروب الشمس و إشعال فوانيس الأضاءة في الشوارع . ..الناس تراعي الجيرة .و يودون بعضهم كما لو كانوا أسرة واحدة .. ..المواصلات غير مزدحمة ..و محلات البقالة تمتليء بالبضاعة المتنوعة .. يقف فيها يونانيون ..و طلاينة ..و يهود ..
و الشرطة تتحرك في ورديات الليل .. ينادى بعضهم بعضا فتشعر بالأمان
ثم إنقلب الحال .. كما لو كان عفريت المصباح أمره صاحبة .. بنشر البؤس و الكراهية و الشقاق بين الناس .
حدث للمصريين إنفصام .. طبقي و فكرى و سلوكي ..جعل منهم أمتين ..واحدة .. تسهر للصباح ..و تلبس الميني و الميكرو و البكيني و ترقص و تتناول الخمور و المخدرات .. و تشعر بينها أنك إنتقلت لكباريهات أوروبا ..
و الأغلبية أصبحت سلفية الهوى ..شكلا و موضوعا .. تكاد أن تضع لافته .. أنا مسلم ملتزم ..أو مسيحي تربية مدارس الأحد رغم أنه في مواقف كثيرة هذا الملتزم أو المتربي يرتشي و يبلطج و يعذب .. ويأكل مال أقاربه و معارفة ..و يؤذى خلق الله .
التناغم الذى كنا نسمعه مع تكبيرات العيد من كل مساجد القطر .. و إسلوب تلاوة القرأن و رفع الأذان..و أنغام التواشيح و الإبتهالات ..ومواويل المداحين كانت سمات تميز المصرى .. محببة و مقبولة من باقي البلاد الإسلامية لانها قادمة من تراث زمن موغل في القدم تعبر عن شعب كان دائما .. مؤمنا .. متدينا .. مبدعا
تغير ..هذا بعد إستيراد سلوكيات أبناء عبد الوهاب الأثرياء و أصبح كل ما هو مصرى ممجوجا لديهم غير مستحبا ..ليحل جلباب بدو صحارى شبه الجزيرة العربية و شباشبهم و طرق أداء طقوسهم .. و إسلوب حديثهم و لهجتهم محل ما توافق المصريون عليه من حياة متحضرة لم يتغير شكلها منذ قرون .
في صباى.. كانت العائلة عندما ترزق بطفل تقيم له سبوعا مصريا يجمع الأطفال و الكبار ..يزاولون فيه كل ما تعلمه الناس من الأجداد عن نقع السبع حبات في الماء وإشعال الشموع و ترديد الأغاني الخاصة بالمناسبة... (برجلاتك .. برجلاتك ..مع دقات الهون .. و التهشيك في الغربال ).. عندما كانوا يختارون له إسما كان يدور حول ما هو حديث وموضة.(عصام ،حسام ،طلعت ،نبيه ). .. الزواج الشائع كان من واحدة وموثق ويعتبر التعدد تخلفا..لا يقوم به إلا الجزارون و الفكهانية .. الزوجان كان سنهما له حد أدني لا يمكن تجاوزه .. بالقانون و الأعراف .
الاحتفال بالزواج تقام من أجله الأفراح والغناء والرقص بالمنازل ..في الخطبة والكتاب والحنة والدخلة والصباحية ..أو في صواوين تقام فية الحارة مشتركه للرجال والنساء...
إحتفالات رمضان والعيد لها طقوس و أغاني تتلي و الأطفال يمسكون بالفوانيس في الشوارع و الحوارى ..(( وحوى يا وحوى .. إياحة ..)) وينضم الجيران والأصدقاء والأقارب لموائد الإفطار والسحور...المجمعة .
طعام المناسبات كحك وشريك.... كان يعتني به ..و تحتفل الأسره بإعداده ..و رصه في الصاجات و إرساله للفرن .. و توزيع بعضه علي الجيران .. هو و العاشورة و حلاوة المولد و الفسيخ والملانة والبيض الملون ..
في أعياد الميلاد يحتفل أفراد الأسرة والأصدقاء بالمناسبة ويتم تبادل الهدايا ..و عادة لا يمر اليوم علي المصرى دون الاستماع إلى الموسيقى والغناء أوإرتياد المسرح والسينما.و الشوادر المقامة في الموالد .
اليوم إختلف الأمر الاب يذبح حيوان مع ميلاد طفله فيما يسمي بالعقيقة ( للولد خروفين وللبنت خروف واحد ) و يختارون له ألقاب الصحابة أو ما يتصل بعباد اسماء الله الحسني.. ..والزواج بأكثر من واحدة أصبح شائعا ( خصوصا بين محدثى النعمة) مع تعدد أنواع الزواج.و صفاتها بعضها يتم بين كهول وأطفال لم يبلغن ..
الزيارات أصبحت من أجل وصل صلة الرحم. والزواج في الجامع و تفصل في قاعتين السيدات عن الرجال .
إلاحتفال برمضان بصلوات التراويح والتهجد وختم القرآن و فرد موائد الرحمن .
الإذاعة الوحيدة الأكثر إستماعا لها خصوصا فى التاكسيات والمحلات التجارية إذاعة القرآن الكريم.. وما بها من ترتيل سعودى .
و جرى إنتقاد إحتفالات عموم المصريين بشم النسيم وموالد الأولياء ...فلا أعياد غير العيدين الاسلاميين وكل ما عدا ذلك بدعة .. حتي مراسم الموت الأربعين والخمسان و السنوية لم يعد الناس تهتم بها ....زيارة المقابرأصبحت مكروهة و للعبرة
أضرحة دفن المصريين تلاشت أصبح مكان الدفن بدون شاهد أو تمييز .
العهدة العمرية.. حلت محل التسامح الدينى مع معتنقى الأديان المخالفة .
إحترام المرأة وتفضيلها فى التعاملات اليومية فى مجتمع مختلط .. تحول إلي تجنيبها و تكفينها بالسواد فى مجتمع ذكورى يسمح بضربها إذا إقتضى الأمر .
التحية الودودة المتنوعة عند الحضور والإنصراف صباح الخير .. مساء الأنوار .. يا هلا بالورد ..هجروها الناس ليحل محلها أخرى يهودية بدوية عن السلام المرجو ...و شمل هذا الرد على التليفون ( آلو )..أصبحت ( السلام عليكم).
الصلاة والصوم التي كانت مسائل شخصية أصبحت إعلان عن الطهارة وفى بعض الأحيان تؤدى بالضغط و مطاردة الشرطة للمفطرين و لم يبق إلا حضور المطوعين.
الصور الفوتوغرافية للعائلة المعلقة بالمنزل أصبحت مكروهة وتعلق بدلا منها آيات قرآنية. و حكم دينية .
حواديت الأطفال عن ألف ليلة وليلة تغيرت لتصبح قصص من السيرة ...الأكل بأدوات المائدة مكروه ليصبح باليد اليمنى ... الترفيه والسياحة على الشواطئ والسفر للخارج تقلص ليصبح أداء العمرة لأكثر من مرة فى السنة والحج .
الموسيقى الحالمة فى الطائرات المصرية عند الإقلاع حل محله أدعية وأوراد
التسامح فى بيع وشرب الخمور تم تخفيضه بالضرائب المغالي فيها مع منع الخمور فى الطائرات والفنادق والمحال العامة .
إيداع الأموال والمدخرات فى البنوك أصبح ربا يفضل إيداع المدخرات فى شركات توظيف الأموال الإسلامية ... الذهاب للسينما والمسرح والكونسير الغنائى حل محله الذهاب إلى جلسات الدروس الدينية .
و بعدما كانت البنت زى الولد ماهيش كمالة عدد أصبحت خادمة لأخيها و مرمطونة العائلة .
في بلدنا
عندما كان يحقق لاعب الكرة هدفا يجرى فرحا ويقفز لأعلى الآن يسقط ساجدا ... الرجال والنساء كانوا يتلامسون فى المصافحة والآن أصبحوا فى الغالب لا يتصافحون .
المعددة والغازية والعالمة وكودية الزار شخصيات مصرية تقليدية إندثرت و إندثر معها الفلكلور المصرى الذى عاش لالاف السنين .
لقد تغير المصريون كثيرا .. يلحظ هذا شخص مسن مثلي عاصر العهدين
ذبح حيوانات العيد كان فى السلخانة تحت إشراف الأطباء ...الان يتم فى حديقة العمارة أمام الأطفال ... حفلات لنجوم وعارضات أزياء عالميين كانت تقام في قاعات المدن الرئيسية فإختفت بسبب تهديد النجوم والعارضات بالقتل .
السباحة والرياضة للأولاد والبنات كانت بأزياء رياضية عالمية فأصبحت بالزى الشرعى والرياضة بالحجاب للبنات والشورت الواصل للركبة للأولاد ...الكوافير رجل لتصفيف شعر السيدات إضطر لإستخدام كوافيرة و يخصص قسم للمحجبات.
الاختلاط على الشواطئ وحمامات السباحة حل محله شواطئ خاصة بالسيدات بأسعار مرتفعة وأيام محددة فى حمامات السباحة بالأندية لهن .
لقد إختلفنا
عربة الحريم فى الترام صغيرة ونظيفة و هادئة.. عربة الحريم فى المترو مكان للوعظ والارشاد ومضايقة غير المحجبات... السيدات كن يستخدمن أفضل الروائح وأدوات التجميل ... السيدة الأن تترك نفسها بدون تجميل و نظافة إلا في منزلها .. عند المرض يذهب الشخص للطبيب ويتناول دواء الأن ينصحة المشايخ أن يتداوى بالأعشاب والعسل والسواك وبول الإبل. فيما يسمي الطب النبوى .
لقد تحول المصرى لريبوت يطيع أوامر الكهنة
فإستشارة الأهل والأصدقاء عند الحيرة فى الإختيار أصبح اليوم عمل صلاة إستخارة وإستشارة رجال الدين .
وإتباع الفطرة والعادات عند عدم وجود سابقة للحدث ومحاولة معرفة الوضع القانونى ..تحول اليوم لسؤال أهل الفتوى فى التليفزيون والإذاعة الشيوخ وما أكثرهم .
الدعوة للصلاة التي كانت تتم من خلال الجوامع أو الإذاعة وبأصوات جميلة مدربة أصبح اليوم فى كل مبنى وكل حى وكل كمبيوتر مؤذن يدعو للصلاة بعضهم أصواته لا تطاق ..
صلاة الجمعة كانت محدودة تخص من هم بالجامع ..و الان خطبة الجمعة والصلاة تذاع بالميكروفونات ليستمع إليها كل من يعنيه الأمر أو لا يعنيه ... رنات التليفون الجرس التقليدى أصبحت أدعية وأغانى دينية .
الرجال الذين كانوا يتنازلون عن أنصبتهم فى الميراث لصالح أخواتهم .أصبحوا يتمسكون بتطبيق الشريعة وقد يجورون على حق السيدات .
دورات المياه النظيفة الصالحة والتي بها أماكن مخصصة للوضوء ... أصبحت رطبة مبللة لإستخدامها دون تجفيف....
إستطلاع هلال رمضان له تقاليد متوارثة ....و الان أصبح شكلى وعادة ما يتبع السعودية ...التجارة كانت تتم بالإتفاق الشفوى ..و الأن أصبح التهرب من الإتفاقات المكتوبة وعمل عقود تحتمل أكثر من معنى بواسطة شركات توظيف الأموال الاسلامية .إسلوب التعامل الطبيعي في السوق .
المصرى تغير ..من شخص مرح ضحوك صاحب نكتة يحب الحياة إلي عابس متأفف منتقد لكل ما حوله يحب الآخرة ... إذا قرىء القرآن كان يستمع وينصت فتحولت التلاوة لتصبح تميمة لإبعاد الشرور وجلب الأرزاق ولا يستمع إليه رغم تلاوته طوال اليوم .
يهتف عند التشجيع فى مبارايات الكرة للاعبين ولمصر ... يهتف يارب يارب أملا فى أن ينحاز الله لفريقه .
يفسر الأحلام من خلال علم النفس ..... يفسر الأحلام من خلال المشايخ والفتاوى .
يعمل من أجل الترقية والعلاوة والنجاح فى الامتحان .... يصلى من أجل زيادة الرزق من عند الله .
لا يفارق بلده إلا بشق الأنفس ويرجو أن يموت على سريره ... فاصبحت أمنيته أن يدفن فى البقيع .
وهكذا لم تختلف العادات والتقاليد فقط بل إختلفت مفردات اللغة أيضا والتى إمتلأت بإنشاء الله ..وربنا يستر .. وربنا يرزق ... قدر الله وماشاء فعل وأصبح المصرى الجديد يجد مبررا لكسله وعدم قدرته على العمل بأنها إرادة المولى عز وجل. لقد كان غزوا حقيقيا أدى إلى إنهيار فى الشخصية المصرية لم يحدث لها من قبل .