لماذا لم تطورنا الحرب


محمد حسين يونس
الحوار المتمدن - العدد: 8119 - 2024 / 10 / 3 - 08:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الموت حدث جلل..عند الأفراد ..يتم لمرة واحدة .. ينهي وجودهم..و تاثيرهم و دورهم..و لا عودة منه ..و هو مصيبة .. لا يمكن إصلاحها .. يتالم منها القوم عندما تحدث لعزيز .. أو لشخص يعتمدون علي تواجده لإستمرار حياتهم ..
و لكنه عند البعض .. حرفة ..يقومون بها بدم بارد ..ويجهزون من أجلها أدوات الفتك و الدمار.. من ينجح ويتسبب في موت ناس بأعداد كبيرة .. يصبح بطلا
الموت عند حضرات الضباط و السياسيين .. شيء عادى .. مجرد أرقام لبشر فارقوا الحياة و لم يعد لهم دور ..و أصبح لا يأتي من قبلهم .خطر.. 20 مليون بشرى غادروا الوجود في الحرب العالمية الثانية ..و لم يبق منهم إلا نصب تذكارى للجندى المجهول يقام في مكان ما .. مكتوب عليه إسم أحدهم ضمن الأف الأسماء
الحروب وضع غير إنساني لا أرجوها لكم ....خصوصا في هذا الزمن الذى يطلق فيه شخص جالس في حجرة مكيفة الهواء يتناول مشروبات منعشة ..صواريخه ..و يشاهدها تتحرك من خلال شاشات العرض حتي تسقط علي الرؤوس الأمنة تقتل و تدمر و تنهي حياة بشر كانوا يتحركون بيننا ..و لهم أحلام و أمال ..و خطط ..و ناس تعتمد عليهم و تحبهم .
الحروب الحديثة تكلفتها مرعبة ..مليارات من الدولارات تحترق في دقائق ..و الأف من الضحايا و المعوقين ..و ملايين من الخائفين المرعوبين
و مع ذلك فهي للاسف مع الثورات الشعبية تعتبر المحرك الأساسي و الدافع للتغيير و التطور و بدونها يحدث ركود للمجتمعات.
الحروب عادة ما تغير الذين نجوا.. تصهر الشعوب بنارها ..تطهرها من الضعف.. تحرق الخبث .. ولا تبقي إلا الاقوياء.. فالموت و الخوف .. و فقدان الممتلكات و الأحباء .. و تدمير المدن والمساكن.. و التعطل عن العمل .. و الجوع و العطش وعدم توفر الإحتياجات الأساسية .. و الهجرة المضطرة .. كلها عوامل يعقبها تغيرات في حياة الناس .
يقولون إذا لم تقتل فستخرج منها أكثر قوة .. وفي الغالب .. سينتهي عالمك القديم .. وستبشر بمستقبل.. يزدرى فيه القوم ..العنف و الظلم ... .و يصبحون أكثر عقلا ..وإنسانية .
رأينا هذا بعد حروب ..أوروبا العظمي.. و حرب الإستقلال الأمريكية ..و الثورة الفرنسية أو البلشيفية .. وفي أغلب البلاد التي شهدت صراعات. دموية ..مثل الصين و كوبا و اليابان و المانيا و إيطاليا ..كذلك بعد الحروب الأهلية القبائلية (التوتسي والهوتو) في رواندا أو في إثيوبيا و الصومال و ساحل العاج .
كل من ذاق مرارة المعارك و قسوتها .. عرف قيمة الحياة و لم يعد يقبل إستمرار نظامة القديم ..و عمل علي إرساء أخر يراعي فيه العدالة و مصالح الخلق .. و مستقبلهم .
الحروب هي الدافع الرئيسي للصراع التكنولوجي .. فالطيارة والدرون و المدرعة و الغواصة .. و الصواريخ .. و القنابل النووية .. كلها تم إختراعها و تطويرها .. بسبب و أثناء القتال ..
معظم العلوم جرى لها طفرات ملحوظة مع الحروب .. مثل تلك الخاصة بالإتصال ( تليفونات تلغراف ..لاسلكي و أقمار صناعية و إنترنيت. بما في ذلك إرتياد الفضاء )..أوعلوم الهندسة والطب والنفس و السلوك والتواصل الإجتماعي و البيولجي. و الجرثومي .
الناس عبر التاريخ ..طورتها الحروب .. إلا لدينا ..في هذا المكان الذى نعيش فيه .. لقد نقلنا الموتي و عالجنا الجرحي و واسينا أهل المصابين ..و رأينا منشأتنا يصيبها الدمار ..و هجرنا أبناء سيناء و القنال ..و إنفقنا الأموال و عانينا من الفقر و الجوع و الخوف ......و مع ذلك .... فنحن علي مستوى القيادة و الشعب .. لم نتغير أثناء أو بعد حروبنا و هباتنا الثورية التي دائما ما يعقبها تدهورا.. مجتمعيا و سياسيا و إقتصاديا..لا نتعلم منه بل نكرر الأخطاء .
لقد حاربنا في 48 و رجع الجيش الذى لم ينتصر ..ليقوم بإنقلاب ضد الملكية الليبرالية الديموقراطية المستقرة من قرنين .. و إحتل كراسي إتخاذ القرار و دواوين الحكومة .. و تسلط علي الشعب جورا و ظلما و محاكمات وإعدامات و سجون و معتقلات .. و جعل من الفقر و الجبن والخوف أمورا معتادة . بيننا.
و حاربنا في 56 .. و فقد الجيش سلاحة في سيناء و لم تصمد قواته علي ضفاف القناة و مع ذلك عادوا يرفعون رايات النصريغنون و يحتفلون و يزيدون من نفوذ عبد الحكيم عامر و جبروته .. و تحكمه.. ولم يعرف أى منا كم بشرى إنتهت حياته أو أصيب أو تشوه ليصبح هو المشير .
و حاربنا في اليمن و سيناء و لم نحقق أى هدف لقد فشل كبار رجال الجيش فعادوا يخططون لعمل إنقلاب.
بعد الهزيمة تصبح كل إمكانيات البلد (بهدوء و دون شوشرة )..مخصصة للمجهود الحربي ....لا تسمح لصوت أن يعلو علي صوت المعركة .. فتنهار الصناعة و الزراعة .. و المرافق و نعود القهقرى للعصور الوسطي .
وهكذا بعد تجنيد كريمة أبناء البلد .. حاربنا في 73 .. و تقدمت قواتنا لمسافة 12 كيلومتر ..ثم توقفت تلهث و نحن نشاهد العدو يعبر القناة و يجول حول مدننا و عاصمتنا ..
و مع ذلك عندما سكتت المدافع عاد الضباط يصخبون و يمتلكون الثروة و النفوذ و السوق.. يفقرون الناس و يرهبونهم و يزدرونهم و يتعالون عليهم..
في حروبنا .. يتضرر الناس .. يدفعون الثمن ..و يخرج القادة .. يزهون ..و يكذبون ..و يضللون ..و يحتلون مراكز إتخاذ القرار علي اساس أنهم الأبطال .
حتي عندما ثرنا رفضا للقهر و العوز.. كانت الموجة تستغرق أيام معدودات .. ثم تعود الأمور لما كانت علية لتشتد قبضة الحكام علي رقاب الخلق .
لماذا لم تحدث حروبنا و هباتنا تغييرا لانظمتنا و حياتنا و تتجه بنا في إتجاه الديموقراطية و الحرية و حقوق الإنسان كما حدث للأمم الأخرى في أوروبا و أسيا و أمريكا ..
لماذا لم تطورنا الحرب و تجعلنا نتمرد علي سلطة الفاشيست .. كما حدث للمهزومين في اليابان و المانيا و إيطاليا .. بعد الحرب العالمية الثانية ..
لماذا لم تتغير مصانعنا و إنتاجنا و أبتكاراتنا .. بل تدهورت و عجزت و توقفت
لماذا سكنا منتظرين ما يمليه علينا ديكتاتور محدود الثقافة و الفهم .
أسئلة عديدة لا إجابة لها إلا أننا لم نحارب و لم نثور ..
لقد ذهب نفر منا مرتزقة يتعيشون من مهنة إرتداء الزى العسكرى إلي ميدان قتال بعيد .. و عاد أغلبهم ..و قد أذهلتهم الخيبة لا ينطقون إلا بما يملي عليهم قوله .... أما الملايين فلم تتغير حياتهم في الحقول و المصانع و قهاوى المدن ..و..ظلوا علي حالهم. يشجعون فريق لا ينتصر
لم نحتاج لتطوير أسلحتنا .. فنحن نستوردها ..و كلما فقدها الجند إشترينا غيرها بالديون..و لم نطور افكارنا ففي كل مرة لا نعترف بالقصور بل نتغني بأيات مجد لم تتحقق أو تحدث إلافي خيال المؤلفين ..
و لم نغير من قادتنا .. نهمس بنقائصهم .. وقلة خبرتهم ..و سوء قيادتهم في السر أما في العلن فهم الابطال الذين و هب الله أمتنا اياهم .
نحن شعب غير محارب (كما قال جمال حمدان ) قارئا للتاريخ منذ الأف السنين .. هؤلاء الزراع يفضلون الظلم و القهر .. و الإستسلام للغاصب .. عن الثورة و القتال و الحرب
حروب ( محمد علي ) كنا نقاد لها بالسخرة نتهرب منها حتي ولو بتشويه أنفسنا ..و إذا ذهبنا مجبرين نظل نغني (( يا عزيز عيني أنا بدى أروح بلدى )).
.
لقد رأيت بنفسي هؤلاء المساقون للمعارك في 67 ..يحاولون التملص من المصيبة التي يواجهونها عندما أرسلوا لنا الضباط و الجنود الإحتياط بجلاليبهم .. كل منهم كان يبذل الجهد لإزاحة تلك المهمة الثقيلة عن كاهلة..
و ستراهم أنت أمام مقرات التجنيد و هم يوزعون الشربات لان إبنهم لم يصيبه الدور و ستسمع أنهم يجمعون الدولارات لدفع بدلية للفتي حتي لا يجند .
ثوراتنا تحدث في المدن .. و لا تصل للريف .. فمنذ قهر المأمون البشموريين .. لم نر من الفلاحين من يثور علي الظلم و القهر و الأتاوات المبالغ فيها و ما أكثرها في زمن (الإنجازات )
لم يحدث لنا ما جرى علي أبناء فلسطين أو لبنان أو السودان أو سيناء أو مدن القناة .. لم نهجر .. لم نخاف .. لم نحاول مقاومة المحتل ..لم تضيع ثرواتنا .. لم نفقد أعزاء لنا ..لم ندفع الثمن
. لقد دارت الحروب كما لو كانت في بلد أخر .. لم يتأثر إبن أسوان أو الواحات أو مرسي مطروح أو شلاتين .. و لم يسمع عن الحرب إلا من الإذاعة و التلفزيون أومن بضعة أفراد جندوا بين رجال القوات .. و عادوا قليلي الحديث ..أو إستشهدوا و رجعوا جثثا.
أبناء القاهرة و الأسكندرية و طنطا و دمياط .و المنصورة ... لم يعرفوا معني الحرب.. و لا ويلاتها .. و لم تصبح الحياة عزيزة عليهم بعد أن تعرضوا للفناء.. لم يسمعوا صوت طلقة أو قنبلة .. و لم تهتز منازلهم من الإنفجارات .. و لم تدمر مدنهم .. ..وتضيع ثرواتهم حتي يصبح عليهم مقاومة الغاصب.
أبناء مصر في الريف و المدن .. لم يتغيروا كما تغير أبناء الأقطار المحتلة .. و لم ينظموا أنفسهم ليقاوموا الغزاة .. و أصبح كل جهدهم هو الغناء و الدعاء في الجوامع و الكنائس من أجل نصر قوات المحترين التي أنفق عليهم دم قلبه و هي تحارب علي خطوط الجبهه .. أو البحث من خلال الأزمة عن مكاسب تجعلهم من أثرياء الحرب
أخر مقاومة ريفية كانت في نهاية القرن الثامن عشر لعساكر الفرنسيس الغزاة الذين يسرقون ما في قراهم من خير .. أو فلنقل للعساكر الإنجليز في رشيد عام 1807 ..
و منذ ذلك الزمن لم نسمع إلا عن قهر المحتل لناسنا في دنشواى و كيف تم شنق العديد منهم ظلما. .أو إعدام البقرى و خميس أطفال كفر الدوار.. وإرهاب عدلي لملوم في المنيا ..مع إنقلاب يوليو المجيد ..
ثم إستسلم الشعب للطغاة لسبعين سنة
هذا المكان .. لم تغيره الحروب .. إلا للأسوأ .. ليعاني في كل مرة من حكم الديكتاتورية الفاشيستية التي تنتهز الفرصة و تشدد قبضتها علي رقاب الخلق ..و يصبح الحديث عن التغيير خيانة وطنية
المصرى كان عليه أن يدفع راضخا ثمن الأسلحة التي تركت دون إستخدام مرتين في سيناء .. و يستسلم لحواديت أجهزة البث و الدعاية عن بطولات القوات المنهزمة .. و يرى أن تغيير النظام رغم خسائره..إثم و كارثة ستؤدى إلي فوضي لا يمكن معرفة حدودها ..فيفقد إيمانه بالتغيير و الديموقراطية
الشعب لم يحارب و لم يصارع و لم يعاني مباشرة من ويلات الحروب لذلك لم يراجع مسلماته و لم يتعلم من خسائره..و تكتم أخبار الإخفاقات لا يتداول إلا سرا
و هكذا منذ زمن طويل
لم نخض حروبا أو ثورات.. فأصبحنا فريسة سهلة لأصحاب الإقتصاد الريعي المتخلف .. وفساد الكومبرادور الزاكم للإنوف..سعداء بشراء اللحمة و السمك و الفلفل الملون .. من الشوادر الميرى .و زؤية ما يدور حولنا علي الشاشات .. نهلل أو نحزن .. ندمع أو نزغرط .. ثم نشتكي من الصداع بسبب الإلتصاق بالتلفزيون بحثا عن الأخبار ..و إرتفاع الاسعار ..و تزايد عددنا بمتوالية هندسية