جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثامن والاربعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8160 - 2024 / 11 / 13 - 00:52
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

والآن ماذا عن التزام هايدجر القومي الاشتراكي في ضوء إصرار فكره على العلاقة بين وجود-حقيقة-حرية؟ هذا السؤال يقتضي الآن سؤالا آخر حقيقيا، يطرحه كل إنسان يحركه، في هذه الحالة، الاهتمام بالتفكير: ما الذي حدث لهايدجر عام 1933-1934، حتى ينقاد إلى دعم النظام الذي تم تأسيسه للتو دون تحفظ من خلال الوعد بـ "ثورة قومية اشتراكية"؟ قبل أن نتناول هذا السؤال الحارق، نود أن نوضح ما يلي: (1) رغم أن هايدجر لم يسحب بطاقة عضويته لمدة خمس سنوات تقريبا، فهناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن قناعات هايدجر في ما يتعلق بالأيديولوجيا القومية الاشتراكية لم تدم أكثر من سنة توليه رئاسة الجامعة، وهي السنة التي استقال في نهايتها. (2) تم إدراك الالتزام القومي الاشتراكي نفسه - بسذاجة دون شك - كالتزام بالهيمنة السياسية والثقافية لألمانيا في أوروبا، الهيمنة التي من خلالها كان على الأمة الألمانية أن تحقق حريتها وحقيقتها. ولكن هذا لا يصل إلى العلاقة الأساسية التي يقيمها الفيلسوف بين الحقيقة والحرية. وفي ما يلي شرح هاتين
القصيتين.
(1) لفهم انخراط مارتن هايدجر في الاشتراكية القومية وأنشطتها في ظل نظام هتلر، سيكون من الضروري الاهتمام بتحليل الحركة الطلابية في الجامعات الألمانية. وهذا قد يسمح لنا بالمشاركة بشكل أفضل في النقاش حول إصلاح الجامعة والمواجهات التي أطلقها. إنما في علاقة بهذين المشكلين، يؤكد فيكتور فارياس، سيتخذ مارتن هايدجر قرار الانخراط بوضوح في المعركة السياسية. وقد لاحظ هتلر التوجه السياسي لحركة الشباب، ولا سيما الحركة الطلابية، وقدرتها على التوسع منذ عام 1930. وأشار إلى اختراق حزبه صفوف الطلاب: تجاوز عدد مناضليه بكثير عدد المجموعات الجامعية المنظمة الأخرى مثل المنظمات القومية الإشتراكية غير الطلابية. ومن المؤكد أن أساتذة الفلسفة والتاريخ والاقتصاد كان معظمهم مقتنعين بأن الشعب الألماني هو "شعب ميتافيزيقي في معارضة عنيفة لسطحية الغرب الديمقراطي." كما يشير فرانسوا فيدييه في: "هايدجر، تشريح الفضيحة"، بعد حرب عام 1946 مباشرة، كتب جان بوفريه رسالة إلى هايدجر، سأله فيها هذا السؤال: "كيف نعيد إعطاء معنى لكلمة إنسانية"؟ إذا لم يُفهم هذا السؤال على حقيقته، أي كسؤال يطرحه التاريخ الحديث، وعلى وجه الخصوص، الرؤية التي كانت لنظام هتلر وأتباعه، تعظم المجازفة بعدم الاستماع إلى جواب هايدجر. ذلك أن "رسالة في النزعة الإنسانية" تجيب على هذا السؤال. هذه الرسالة، وفقا لفرانسوا فيدييه، ليست على الإطلاق رسالة ضد الإنسانية (مثلما أن فكر هيدجر الأخير ليس ضد الميتافيزيقا، ولا ضد التكنولوجيا). الجواب نجده في الصفحة 345 من المجلد التاسع من الطبعة الكاملة، ننقله حرفيا كما يلي:
"إعادة إعطاء معنى بكلمة [الإنسانية] لا يمكن أن يعني إلا ما يأتي: إعادة تحديد معناه. هذا يتطلب، من ناحية، القيام بتجربة نمط وجود خاص بالإنسان بطريقة أكثر أصالة؛ الشيء الذي يعني، من ناحية أخرى، إظهار إلى أي مدى هذا النمط من الوجود، على طريقته، مرتبط بمصير".
ماذا تعني تجربة نمط الوجود التي تحقق الإنسانية في الإنسان؟ هل يمكننا القيام بهذه التجربة دون أن نكون، بهذا المعنى الأصلي، ملزمين بالوجود؟ هل ما زال من الممكن، هناك، التمييز بين الممارسة والنظرية، مثلا؟ في نفس الكتاب، يقول هايدجر: "الفكر يفعل في هذا الذي يفكر فيه". ومن الواضح أنه في عام 1933، مع الأخذ في الاعتبار توليه رئاسة الجامعة، أراد هايدجر التفكير أكثر من مجرد الفعل. أراد أن ينقل الفكر إلى الواقع، ليس كما يمكننا أن نقرأ هنا وهناك، من خلال الرغبة في ممارسة سلطة؛ أو حتى وفقًا لصيغة أوتو بوجيلر، من خلال الرغبة في "توجيه هتلر". من الضروري أن نفهم ما أراده هايدجر نفسه، حتى لو كان ذلك يعني التساؤل في ما بعد عما إذا كان من المشروع بالنسبة إليه أن يريد ذلك في عام 1933.
لكن ما كان يريده هو ثورة في الجامعة الألمانية لجعلها قادرة على تربية "قادة المستقبل والأوصياء على مصير الشعب الألماني". نعثر هنا مرة أخرى على كلمة المصير. في عام 1946، أعلن هايدجر أنه من أجل إعادة إعطاء معنى للإنسانية وفق تحديد جديد تماما لجوهره، ذلك الذي يقدمه تحت اسم الدازاين (الوجود-هنا) (على اعتبار أن الأساسي على وجه التحديد هو تجربة وجود هذا هنا - تجربة يمكن بل يجب أن تقال بكل اللغات)، ما يعني في نفس الوقت إظهار العلاقة الضرورية للدازاين بمصير. إذا كان لدينا أدنى تردد تجاه هذه الكلمة (المصير)، فلنستبدلها بالتاريخ، بشرط أن ندركه أكثر من مجرد تسلسل زمني بسيط: كبعد محدد نكون فيه (جميع البشر)، إذا كان حاضرنا الحقيقي مؤهلا بالفعل لجعل المستقبل ممكنًا بما يتناسب مع ما ورثناه. إن اختيار تسمية هذا البعد مصيرا وليس تاريخا، وفقا لما قاله فرانسوا فيدييه، هو طريقة هايدجر لتوضيح حقيقة أننا لسنا "في" التاريخ، بل إن لنا بعدا، أي أننا نقف في "الزمان" على قدر محدد ما نكون قادرين، وقد صرنا متلقين للمصير، على معرفة الذي يصير. ونعلم أيضًا أن مارتن هايدجر ألقى يوم 13 نونبر 1935 في فريبورغ محاضرة بعنوان: "في أصل العمل الفني". في الفقرة 30 من الجزء الثاني من المحاضرة نقرأ: "الإثنيات والأعراق، تزداد قوتها بالاتحاد، عندما تعي جيدا ما يعود إلى مهمتها؛ بمعنى تصبح تاريخية وهي تنظر نحو المستقبل".
ذلك ما قاله هايدجر بعد عام ونصف من استقالته من رئاسة الجامعة، وبالضبط بعد ثمانية أسابيع من صدور قوانين نورمبرغ، التي تقوم على مبدإ الفصل المنصوص عليه في القانون، بين كامل المواطنين على حدة؛ أي المواطنين الذين يجري في عروقهم الدم الألماني أو ذوي القربى، والمواطنين من الدرجة الثانية الذين لا يتمتعون يحقوق سياسية.
لإنهاء هذا الجزء الأول، يبدو من الضروري أن نستشهد بتصريح آخر لهايدجر عن الأيديولوجيا النازية. آلان بولوك في كتابه "هتلر" (ر. ص. 394) يخبرنا بأن: "ما سعى هتلر إلى التعبير عنه بكلمة "العرق" هو ​​إيمانه بعدم المساواة - بين الشعوب والأفراد - كقانون طبيعي لا يرحم". إن مفهوم العرق، عند النازيين، طبيعي، وجسدي بحت. الدم هو أولا الدعامة المادية. بهذا المعنى، هناك في النازية تماما اختزال للأيديولوجيا: كل كنوز الحضارة والفن ليست في نظر النازيين إلا تعبيرا عن العرق المتفوق.
ما موقف هايدجر من هذه الأيديولوجيا؟ نلاحظ منذ عام 1934، في محاضراته، أن مؤلف كتاب "الوجود والزمان" يعارض عمدا مثل هذا الاختزال البيولوجي. ما قاله وردده هو أن تأسيس الحركة الثورية على مفهوم العرق نصف إجراء. وطالما لا نعرف إلى أي مدى كان هايدجر مفكرا ثوريا براديكالية نادرة، لن نكون قادرين على فهم أي شيء عن التزامه السياسي. راديكاليته ليست سياسية في المقام الأول. ومن المحتمل جدا أن هايدجر عرف في وقت مبكر جدا ما في تداعيات اكتشفاته مع تقدمه في عمله من أمور مزعجة تماما: أولاً، الحدس حول الرابطة الوثقى التي تربط وفق إيقاع البشر ب"الحقيقة" بالمعنى اليوناني لكلمة alèthèia - بحيث يعني الوجود بالنسبة إلى لإنسان الوجود في علاقة بالحقيقة - (alètheuein)، وذلك الوجود بفضل الحقيقة يصبح هو نفس تعريف الفكر. وهذا يقودنا إلى شرح النقطة الثانية.
(يتبع)
نفس المرجع