من أجل استعادة سياق غيبه المهدوي: جدلية القاعدة والقانون


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8157 - 2024 / 11 / 10 - 13:57
المحور: التربية والتعليم والبحث العلمي     

في اللايف الأخير من السلسلة التي أفردها لمحاكمته الحالية، انطلق المهدوي من قولة منسوبة إلى جيروم هيل جاء فيها: "عار على الجنس البشري أن يعلم المرء أن قوانين الألعاب هي أكثر القوانين وضوحا وعدالة". من حق صاحب قناة بديل أن يستشهد بجيروم وغير جيروم، لكن يجب عليه ألا يكتفي بشرح بسيط لشروط العدالة والتكافؤ المتوفرة في الألعاب دون وضع المستمعين في السياق العام كأن يعرف بإيجاز بصاحب القولة وبمجال اختصاصه وعمله، قبل الحديث، ولو في عجالة، عما هو جوهري في هذا السياق؛ وأعني به مقاربة فكرية لجدلية القاعدة والقانون.
في ما يخص المهمة الأولى، أبادر إلى الاعتراف بأن هذه أول مرة أسمع فيها اسم جيروم هيل الذي اعتقدت للوهلة الأولى أنه فيلسوف أو رجل قانون أو كاتب شهير على الأقل لم يسبق لي أن قرأت منشورا من منشوراته، وهذا أمر عادي يحدث للناس قاطبة. ولكني وجدته على الشبكة صاحب إحصائيات تحمل اسمه وتهتم بمجريات ونتائج المباريات الكروية المباشرة. ينشر حساباته وإحصائياته على صفحات تطبيق صوفاسكور الذي أسسه إيفان بيشليتش وزلاتكو هركاتش.
وهكذا نخلص إلى أن القولة إياها تبدو كحكمة يتيمة صدرت عن أحد مجانين الكرة ممن لا قدرة لهم عن تحريك فكرهم حول ما يقولون، عساهم يذهبون بعيدا. وفي هذه الفئة ندرج من يظنون أن العمل الصحافي لا يحتاج إلى التفكير الفلسفي العميق والبحث والتقصي، وأن كل ما يطلبه مسايرة القطيع بالكلام الدارج من حيث الشكل والسطحي من حيث الجوهر، أخص منهم بالذكر صاحب القناة الذي خرجت زوجته قبل أيام تصرخ بأعلى صوتها بما يفيد أنه "تاج على رؤوس المغاربة" !! من أذن لك بأن تتكلمين باسمنا؟ اسمحي لي، كاين تاج واحد على رؤوسنا، وراكي عارفاه.
أما في ما يخص الخوض في ثنائية القاعدة والقانون، فأعتقد أن تلك إشكالية عويصة موكولة فقط إلى رجال الفكر المتمرسين بعلوم التربية والمنطق، ولا يقدر على سبر أغوارها إلا من دأب على الغوص في الأعماق. ولاعيب على من هذا ديدنه الاستعانة بأهل الاختصاص من أمثال فرانسوا گاليشيه، الأستاذ الفخري بجامعة ستراسبورغ الذي يقول في مقال من أربع صفحات (pdf) حول القاعدة والقانون: "عندما يتعلق الأمر بالتربية الاجتماعية والأخلاقية والمدنية للطفل، فمن الشائع استخدام مصطلحي القاعدة والقانون كمرادفين. سيتم تعريف التنشئة الاجتماعية للطفل إما بأنها "تربية على القانون" أو "تربية على القاعدة". الفكرة العامة هي أن الأمر يتعلق بالمرور تدريجيا من الحالة التي تهيمن فيها دوافع الطفل على الحالة التي يكون فيها قد استوعب القوانين والقواعد التي تشكل الحياة الاجتماعية، ولا سيما تلك التي تحكم الدولة الديمقراطية".
في نظر گاليشيه، يكون هذ اللاتمييز صحيحا بشكل خاص عندما نتحدث عن تربية الطفل الصغير جداً. بالنسبة إلى هذا الأخير، المعايير التي يجب في الحقيقة تقديمها هي في الأساس تلك التي تتعلق بالمجموعات الملموسة التي يعيش فيها. معايير العائلة أولا: احترام الجداول الزمنية، متطلبات النظافة والنظام، طاعة أوامر الوالدين، احترام قواعد الأدب، السيطرة على الدوافع العنيفة، إلخ.. معايير جماعة الصف في المقام الثاني: منذ السنة الأولى من روض الأطفال، يقدم المربي حزمة من المتطلبات الجديدة التي تنضاف إلى متطلبات الأسرة، وتساهم في الإعداد لتنمية المواطنة التي ستحدث في وقت لاحق. يُعتقد أن الطفل الصغير ليس لديه في الواقع سوى وعي غامض ومربك للغاية بالعلاقات السياسية والمفاهيم، التي يتم تحديده انطلاقا منها. ولذلك يبدو من الأسهل والأكثر واقعية الحديث عن التربية على القاعدة بدلاً من الحديث عن التربية على القانون، إذا احتفظنا على الأقل بهذا المصطلح الأخير للمجال القانوني السياسي.
لكن في الوقت نفسه، يتحدث فرويد، ولاكان بشكل خاص، خلال المرحلة الأوديبية عن «قانون الأب"، الذي يُدخل الطفل في النظام الرمزي ويكسر الدائرة الاندماجية لعلاقة الأمومة. علاوة على ذلك، تبدأ التربية الأخلاقية في سن مبكر: الإخلاص، الصدق، التضامن، حظر العنف؛ أي القيم التي ينبغي تطويرها في وقت مبكر جدا. لكننا نتحدث عن قوانين أخلاقية كما نتحدث عن قواعد أخلاقية. هكذا نرى أن الارتباك هو السائد، وسوف نصل إلى الاعتقاد أن كلمتي "القاعدة" و"القانون" مترادفتان في نهاية المطاف.
ويرى گاليشي أن اللغة اليومية، رغم كل ذلك، تميز بينهما، وربما لهذا السبب يكون من الحكمة البدء بالاستخدام بدلا من النظريات الفلسفية أو دراسات التحليل النفسي لمحاولة رؤية الأمور بشكل أكثر وضوحا. عادة ما نتحدث عن قواعد لعبة (قواعد الشطرنج، كرة القدم)، أو لتشغيل آلة (قواعد استخدام آلة تصوير، كاميرا فيديو، فرن كهربائي)، أو حتى في الرياضيات (قاعدة ثلاثة) وفي النحو (قواعد مطابقة النعوت لمنعوتاتها). هنا يطرح الكاتب هذا السؤال: ما هو القاسم المشترك بين كل هذه الاستخدامات؟ يمكننا أن نحدد ثلاثة عناصر على الأقل توجدت في كل تلك الأمثلة.
يتمثل العنصر الأول في أن للقاعدة طابعا تقنيا أو وظيفيا. فهي التي يسمح بالتشغيل الأمثل لعملية تقنية (الآلة)، مسلية (لعبة) أو لغوية (نحوية) أو فكرية (رياضيات). وهذا يعني القول بأن القاعدة تجد أساسها ومبررها في مبدأ الفعالية. إنها تحكم على نفسها من خلال نتائجها. قواعد اللعبة تسمح بمتغة قصوى، دون عنف أو توقف من شأنه أن يجعل اللعبة مملة أو خطيرة. القواعد التقنية تسمح بتشغيل الآلة وجعلها تننتج ما هو متوقع منها. القواعد النحوية والإملائية تسمح بالتواصل الأمثل من خلال تجنب الخلط و سوء الفهم. بينما القواعد الرياضية تسمح لنا بحساب ما نبحث عنه: النسبة المئوية لمجموع، مساحة شكل، محيط سطح، الخ.. إذن، تكون القاعدة جيدة إذا كانت "تشتغل"، وهو ما يعني أنه إذا لم تكن القاعدة فعالة، فمن الممكن، بل من الواجب، تغييرها.
أما العنصر الثاني فهو أن لكل قاعدة طابعا عمليا لأنها تقدم نفسها كمجموعة من المعايير التي تتعلق بالعمل وليس بالتفكير، حتى لو كان تعلمها يتم بجهد (أحيانا تتطلب معرفة كيفية استعمال آلة بشكل صحيح عدة ساعات، واستيعاب قواعد لعبة عدة أيام، والتحكم في القواعد النحوية والإملائية للغة الأم عدة سنوات). فهي لا تعمل بشكل جيد إلا إذا لم نعد نفكر فيها، إذا أصبح تطبيقها تلقائيا، وميكانيكيا، إذا صح التعبير. وضعت القاعدة ليتم تطبيقها بدون تردد أو تفكير مسبق. مثلها الأعلى هو أن تصبح عادة، أن يتم نسيانها. تصبح القاعدة المتحكم فيها غير مشعور بها: بينما يفكر المتعلم في كيفية مطابقة نعت معين، ويستشير دليله، يقوم الكهل الذي استوعب قاعدة المطابقة بنفس الشيء تلقائيا ودون أن يشعر بذلك. وبالتالي فإن ما يحكمها هو ما نستطيع تسميته بمبدأ اللاشعور.
ويبقى العنصر الثالث وهو أن القاعدة تعسفية؛ لأنها تفرض نفسها على المستعمل دون الأخذ برأيه. هذا واضح بالنسبة إلى القواعد النحوية والإملائية: لم يقررها أحد، بل حتى الأكاديمية التي تقعدها، لا تعمل سوى على تتبع الاستعمال. ولكن هذا ينطبق أيضا على قواعد الألعاب: يعود بعضها إلى الماضي السحيق ولا أحد يعرف كيف تشكلت (هذا حال قواعد لعبة الشطرنج)؛ والبعض الآخر منها ذو أصل أحدث، ولكنها تظهر اليوم أنها غير ملموسة (هذا حال قواعد الجسر أو البيناكل)؛ أخيرا، تخضع مجموعة أخرى منها لمؤسسات مخصوصة (هذا حال المجلس العالمي بالنسبة للرگبي، الفيفا بالنسبة لكرة القدم) وفي بعض الأحيان يتم تعديلها في تفاصيلها، ولكنها تظل في معظمها كما كانت دائما. ولذلك فإن مبدأ الأحادية هو ما يميزها.
وإذا انتقلنا الآن إلى مجال القوانين - وهو مجال قانوني وسياسي في الأساس - نجد خاصيات متعارضة تماما. أولاً، يستجيب القانون، سواء كان شرعياً و/أو أخلاقياً، من حيث غائيته إلى اهتمامات العدالة، المساواة والتضامن. لذلك لا تتوخى مجرد الأداء الفعال لعملية ما، بل تحقيق القيم المعترف بها من قبل الجميع. هناك القوانين الرئيسية التي ميزت تاريخ الجمهورية الفرنسية - مثل "قوانين فيري" التي أنشئت بموجبها مدارس علمانية، مجانية، وإلزامية، قانون 1905 حول الفصل بين الكنيسة والدولة، "القوانين الاجتماعية" التي أصدرتها الجبهة الشعبية، القوانين التي أقرت الضمان الاجتماعي عام 1945، وقانون إلغاء عقوبة الإعدام لعام 1981 – تمثل هذه القوانين تقدماً ملموساً حاسما في تطوير مجتمع أكثر عدالة وتضامنا ومساواة. ولذلك فإن مبدأ فعالية القاعدة يتوافق مع "مبدأ قيمة" القانون الذي يضحي في بعض الأحيان بالفعالية المباشرة باسم مبادئ أكثر أهمية، أكثر جوهرية.
ثانيا، كل القوانين تقتضي التفكير والمداولة. أولا أثناء لحظة تبلورها: في مجتمع ديمقراطي، تكون صالحة إلا إذا افسحت المجال لنقاش، لمناقشة أولية. البرلمان (وهو اشتقاقيا المكان الذي نتحدث فيه) هو الهيئة التداولية التي هي الوحيدة المخول لها إصدار القانون. ولكن حتى بعد صدوره، يظل القانون فاسحا المجال للتفكير والمداولة. وهذا أمر واضح بالنسبة للقانون الجنائي: فالمحاكم موجودة من أجل تطبيق القانون، لكنهل تحتفظ بهامش من الحرية أثناء هذا التطبيق، اعتبارا للحالات الفردية. ولكن حتى بالنسبة للقوانين الأخرى، هناك أيضا محاكم - مجلس الدولة، المحاكم الإدارية - تبلور فقها في تطور مستمر. بينما تتجه القاعدة كما رأينا نحو التطبيق التلقائي واللاشعوري، يستدعي كل قانون مهم التفسير الذي ينطوي على التفكير والمناقشة والمداولة. مبدئيا إذن، تقابل لاشعورية القاعدة مبدأ التفكير المتأصل في القانون.
ثالثا، أي قانون، في بلد ديمقراطي، لا يكون صالحا إلا إذا تم التصويت عليه من قبل أغلبية المواطنين، سواء بشكل مباشر أو عن طريق ممثليهم. وإذا كانت القاعدة، كما رأينا، تعسفية وتشير إلى جهة خفية (التقني في مختبره بالنسبة للقواعد التقنية) بل مجهولة (القواعد النحوية والإملائية)، فإن القانون يعني ضمنا مشاركة الجميع في بلورته كما في تطبيقه: المحاكم تحكم "باسم الشعب الفرنسي"، ويجب تعيين القضاة وفق إجراءات شفافة يقبلها الجميع. مبدأ أحادية القاعدة يقابله مبدأ تبادلية القانون. كل قانون يتحدد كمقيم لعلاقات تبادلية بين المواطنين: تكون فيه الحقوق دائما نظير الواجبات. الالتزامات التي يفرضها لا تهدف سوى إلى تقديم الخدمات التي تعود بالنفع على الجميع: وهذا، مثلا، هو حال القوانين الضريبية والاجتماعية.
نرى أنه ليس من الممكن الخلط، كما فكرنا منذ البداية، بين التربية على القاعدة والتربية على القانون.
إن التربية على القواعد مسألة سلطوية: فالقواعد لا يمكن مناقشتها، بل نتعلمها. نحن لا نتعلم قواعد الأدب أو النحو أو الإملاء من خلال مناقشتها، بل من خلال الخضوع لها. التربية المناسبة هي إذن تربية ترويضية. إن التربية على القواعد مسألة تكرارية: فمن خلال العادة يتم استبطان القاعدة وتصبح آلية ذاتية. لا توجد طريقة أخرى لترسيخ قاعدة غير التمرن على تطبيقها حتى يتم اكتسابها. إن التربية على القواعد أمر لا هوادة فيه: لأن من طبيعة القاعدة عدم التسامح مع الانحراف. إذا لم نحترم قواعد تشغيل الجهاز، فإنه لن يعمل. إذا انتهك اللاعب القاعدة في ملعب كرة القدم أو الرگبي، يتم إطلاق صافرات الاستهجان، وفي الحالات الأكثر خطورة يتم طرده (بطاقة حمراء). إذا أخطأنا في تطبيق قاعدة الثلاثة، تكون النتيجة خاطئة.
بخلاف ذلك، تكون التربية على القانون في الأساس تربية على الكلام (الفردي والجماعي) على التفكير، على المناقشة وعلى النقاش. إنها تعني ضمناً الصعود من القانون إلى القيم التي تستلهمه، هي تفترض فحصا مستمرا ودقيقا لشروط شرعيتها، وترتبط كذلك بالتالي بتعلم التفكير النقدي. وتفترض أيضا النزول من القيم إلى التجارب التي تدخلها حيز التنفيذ، وان نمارس إذن فن تفسير المواقف (التأويل)، وتحليل الحالات (الحجج) حيث تكون هذه القيم موضع تساؤل بل ويبدو أنها متعارضة في المعضلات الأخلاقية.
من الممكن والضروري أن يتم تلقين هذين النوعين من التربية منذ سن مبكرة. منذ روض الأطفال، يمكننا أن نجعل الأطفال الصغار حساسين تجاه الفرق بين القواعد التي تحدد "الدخول في المجتمع" والتي لا يتم مناقشتها في المحصلة النهائية (مثل حظر زنا المحارم، منع العنف، قواعد الأدب، القواعد التقنية للسلامة، إلخ..) و"قوانين الفصل الدراسي" التي تنتج عن قرار جماعي تسبقه مداولات. وفق هذا المنظور من المهم أن تقام، منذ السنوات الأولى في المدرسة، مناظرات فلسفية يتم فيها طرح سؤال القيم، ومجالس يتم فيها تناول ومناقشة المشاكل الرئيسية للتنظيم والحياة المشتركة.
هذه المناضرات والمجالس هي المقابل الضروري للتربية السلطوية بالضرورة التي تلقن القواعد. وبدون هذا المقابل تفقد التربية توازنها وتتأسس على التزوير: ما يصدر على أنه تربية على القانون والمواطنة يكون مجرد تربية على القواعد. هكذا نعد ليس مواطنين ناقدين و مسؤولين، ولكن ذواتا يشترط عليها الطاعة أو القيادة. فليس لأن هذا اللبس يسود على أعلى مستويات الدولة والمجتمع يجب الحفاظ عليه منذ الطفولة المبكرة. بل بالعكس، إنما بإقامة التمييز بين القانون والقاعدة منذ السنوات الأولى في الأسرة وكذلك في المدرسة وفي جميع المؤسسات التربوية نخلق بعض الفرص لتقدمه في المجتمع.