جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء السادس والأربعون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8151 - 2024 / 11 / 4 - 02:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الآن، حان وقت الحديث عن الحرية كشرط ممكن لوجود الموجود وفقا لهيدجر. تشكل الحرية جوهر كل موجود يكون قريبا من ذاته. جوهر الإنسان يعتبر المكان المتميز لتحديد الوجود بشكل عام ومن حيث ماهيته. في الفصل الثاني، عند معالجة ماهية الحرية الإنسانية، استشهدنا بكانط الذي يعرف الحرية كقوة موجود له وجود-سبب خاص ومتفرد (ص: 65 في النسخة الاصلية). فماذا لو أصبحت السببية، حتى بالمعنى الكانطي، مشكلة؟ السببية، مثل المقولات الأخرى للموجود التي في المتناول (vorhandenheit)، هي وفقا لكانط، خاصية موضوعية الأشياء. الأشياء هي الموجود كما هو متاح في التجربة النظرية كتجربة للإنسان المحدود. المقولات هي خصائص وجود الموجود المتجلي هكذا، تحديدات وجود الموجود، تسمح لهذا الموجود بأن يصبح متجليا في ذاته تبعا لجوانبه الأنطولوجية المختلفة. ومع ذلك، يقول هايدجر، لا يمكن للموجود أن يظهر من تلقاء ذاته، ولا يمكن حتى أن يتواجه كشيء إلا إذا كان ظهور الموجود، بالتالي، بالدرجة الأولى، ما يجعل مثل هذا الظهور ممكنا، فهم الوجود، له في حد ذاته خاصية الانفتاح على شيء ما. وهذا ما يسميه جاك تامينيو: الاختزال الفينومينولوجي. إنه يوحي بأن هذا الاختزال الفينومينولوجيي يعني، انطلاقا من فهم الموجود بغض النظر عن الطريقة التي يتم تحديده بها، إعادة توجيه النظرة الفينومينولوجية نحو فهم وجود هذا الموجود، أي نحو المشروع القائم على نمط لا تحجب هذا الوجود.
لنتركه-يفعل-التقابل لشيء كما تحدثنا عنه سابقاً، باعتباره معطى، يقال بطريقة أخرى: ظاهرية الموجود في الخاصية الإلزامية لوجوده-هكذا ولإنيته، لا تكون ممكنة فقط إلا عندما يكون السلوك تجاه الموجود من حيث هو كذلك سمة أساسية يتم بموجبها منح هذه الخاصية الإلزامية لما يمكن أن يوجد بطريقة أو بأخرى ظاهرة (لمعرفة نظرية أو معرفة عملية). لكن المنح المسبق للصفة الإلزامية، كما يؤكد هايدجر، هو أمر ذاتي، ارتباط بالذات: يجعل الارتباط ملزما لذاته، بمعنى آخر، باستعمال المعجم الكاتطي، فهو يمنح نفسه قانونا.
اتركه-يفعل-التقابل للموجود، السلوك تجاه الموجود بأي نمط كان من أنماط فاتحة الشهية لا يكون ممكنا إلا عندما تكون هناك حرية. هكذا إذن، بحسب هذه القراءة الكانطية، يمكننا أن نؤكد دون أدنى شك أن “الحرية هي شرط إمكان ظاهرية وجود الموجود، فهم الوجود. لكن تحديد وجود الموجود بين موجودات أخرى هو السببية. تتأسس السببية على الحرية. الحرية هي الماهية التي تضم الوجود-الإنسان وتنقله من طرف إلى طرف آخر؛ إنما إليها يجب على الإنسان أن يتوجه ليصبح إنسانا حقا، ومن هنا الاستنتاج: يقوم جوهر الإنسان على الحرية. وتبقى نقطة أخيرة يجب توضيحها: وهي موقف الفكر الهايدجري من اللاهوت الدوغمائي المسيحي.
لننتقل الآن إلى البعد الثاني: القطب اللاهوتي للفكر الهايدجري وتوافقه مع الرسالة الإنجيلية حول الحقيقة. يرى بعض المعلقين أن هايدجر، في رسالته، يبشر بالإلحاد. أما نحن فلسنا من هذا الرأي وسنحاول إلى حد ممكن، باستخدام نصوص هايدجر نفسه واخرى من الكتاب المقدس، إظهار أن رسالة الفيلسوف لا تؤثر سلبا على الرسالة الإنجيلية. سيتم تقديم هذه النصوص للقراء، ولذلك فهم مدعوون إلى المشاركة في النقاش. وبدون شرح مفصل، سوف نستخدم الطريقة المقارنة كما وعدنا بذلك، وسنترك الأمر للقراء لاستخلاص النتيجة. لننخرط في النقاش بالبدء أولاً بنصوص هايدجر. ليتكم تدركون القصد بوضوح. يتعلق الأمر بإثبات التوافق ولا شيء اكثر من ذلك: المفهوم الهايدجري عن الحقيقة يفتح منظورا على البعد الديني الذي بدا أن "الوجود والزمان" يستبعده.
في بداية كتابه: "مدخل إلى الميتافيزيقا" يطرح هايدجر السؤال التالي: "لماذا إذن يوجد الوجود وليس بالأحرى لا شيء؟. لماذا إذن يوجد الموجود..؟ لماذا، أي ما هو الأساس؟ من أي أساس يأتي الوجود؟ على أي أساس يقوم؟ نحو أي أساس يتجه الموحود؟ السؤال لا ينصب على هذا أوكذا أو ذاك من الموجود، على ما هو هنا أو هناك، على الطريقة التي ينشأ بها، على ما يمكن له تعديله، على استخداماته المحتملة، وما إلى ذلك. يبحث السائل عن أساس الموجود من حيث هو موجود. البحث عن الأساس، البحث عن القاع، ذلك يعني التعمق. ما تم وضعه موضع تساؤل يتعلق بأساسه وجوهره. الشخص الذي يعتبر الكتاب المقدس، مثلا، وحيا إلهيا وحقيقة إلهية (حقيقة نؤيدها)، يمتلك بالفعل، قبل كل طرح للسؤال: "لماذا يوجد الموجود وليس بالأحرى
لا شيء؟"، الجواب هو: إذا لم يكن الموجود هو الله نفسه فهو مخلوق من قبل الله. لله نفسه، بصفته الخالق غير المخلوق "موجود". في الفصل الثالث، عند عرض العلاقة بين الوجود والحقيقة، قمنا بتعريف الوجود بأنه phúsis، وفهمناه واستوعبناه كما يزدهر من تلقاء نفسه، كواقعة انتشاره وهو ينفتح، وفي مثل هذا الانتشار، إتجاز ظهوره، قيامه في هذا الظهور وبقائه فبه، باختصار، الهيمنة في ازدهار (انظر ص: 74 من النص الأصلي).
الفوسيس هو الوجود، بفضله وحده يصبح الموجود قابلا للملاحظة ويبقى كذلك. السؤال إرادة-معرفة، لكن ماذا تعني المعرفة؟ يجيب هايدجر: "المعرفة تعني أن تكون قادرا على الوقوف على الحقيقة". حقيقة الوجود هي ظهوره، انكشافه، خروجه إلى النور، أو باستخدام التعبير المسيحي: مجيئه إلى العالم. لنستمع إلى ما يقوله هايدجر عن الله: "إنما فقط انطلاقا من حقيقة الوجود، نستطيع أن نفكر في ماهية الألوهية، وأن نتفكر ونقول كلمة الله". إنما فقط باعتبار الوجود مستنيرا وتم اختباره وفق حقيقته، يمكن ان يظهر المقدس، الإلهي والله. الله هو المقياس الذي يجعل الإنسان يصل فورا إلى بعد عمرانه على الأرض. إنه "المجهول، اللا يمكن الوصول إليه، غير المرئي الذي يظهر من حيث هو كذلك (أي كما هو "موجود") في الإنسان وفي الأشياء المألوفة لذى الأخير. الوجود الهايدجري الذي يمكن وصفه على مستوى الإشكالية الفلسفية على وجه التحديد، من خلال السؤال: "لماذا هناك وجود وليس بالأحرى لا شيء"، مثل الذي لم يسبق له أبدا أن وجد بغير الموجود، يشير إلى مطلق كاشف يمكن أن يكون بكل حرية ظاهرا ومتحجبا في الوجود.
(يتبع)
نفس المرجع