سيد عقلاء قريش وإسلامه تحت حد السيف
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن
-
العدد: 7840 - 2023 / 12 / 29 - 18:15
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الزهرة الكاظمي
بعدما تحول محمد من نبي مرسل من الله، كما قدم نفسه، وداعية إلى توحيد العبادة لله، ونبذ عبادة الأوثان في مجتمع التعددية الدينية المتعايشة؛ بعدما تحول إلى رئيس دولة، اجتمعت فيه الرئاسة الدينية، والتشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والعسكرية، ونظم جيشا سار به نحو موطنه مكة، ليذل أهلها، بسبب عدم تصديقهم لدعوته، وأذى المتعصبين منهم له ولأتباعه، ولينتقم منهم لما لاقاه والمتبعون له أيام ضعفه من أذى، بسبب تعصبهم لعقائدهم، ككل فئة ترث الدين عن السلف، فتألفه وترفض أي جديد، حقا كان أو باطلا أو خليطا من الحق والباطل، وهكذا أصبح المتعصبون من المسلمين، بعدما قويت شوكتهم، وكذلك المتعصبون من اليهود والمسيحيين وغيرهم.
عندما وصل الخبر إلى قريش، اجتمع أهل الرأي للتداول حول ما سيكون لهم من موقف إزاء زحف جيش الاحتلال القادم من يثرب بقيادة النبي القائد، فما كان منهم إلا أن يستدعوا أبا سفيان كواحد من أبرز وجهاء وقادة قريش، بل كان يعد سيد قريش، وبينوا له أن محمدا قادم لا محال بجيشه، ليطؤوا مكة ويذلوا أعزة أهلها.
عندها اعتدل أبو سفيان في مجلسه، مهموما مغموما حائرا خائفا من المصير الذي سيحل به وبأهل مكة على يد جيش الاحتلال اليثربي المحمدي. فما كان من الجمع إلا أن اقترحوا على أبي سفيان سيد قريش وأحد أبرز وجهائها وعقلائها، أن يشد الرحيل إلى عاصمة إمبراطورية محمد يثرب، التي غير المسلمون اسمها إلى (المدينة)، أو (المدينة المنورة)، أو (مدينة رسول الله) ملحقا اسمه بالصلعميات. واقترحوا عليه أن يرجو من قائد جيش الاحتلال وملك العرب الجديد أن يمدد معاهدة الهدنة لسنتين أخريين بينه وبين قريش.
وسبق أبا سفيان خبر قدومه إلى عاصمة ملك العرب المتوج من السماء محمد ابن بنت وهب. وعندما وطأت قدماه أرض عاصمة إمبراطورية ابن عمه محمد، انتاب أبا سفيان شعور من الرهبة، لما أصبح للنبي من قوة ومنعة وأتباع، ولما يحتمله من حنق وبغض يملأ قلب ابن أخيه تجاهه، بسبب الصراع الحاد بينهما لاسيما في السنوات السبع الأخيرة. اضطرب سيد قريش، وانتابه الخوف والرهبة، وهو مقبل على أمر جلل. وعندما أراد أن يتوجه إلى إمبراطور العرب الجديد، تردد كثيرا، لأنه كان يحتمل احتمالا راجحا جدا، أن الإمبراطور سيرد طلبه. ولأن ابنة أبي سفيان أم حبيبة هي إحدى زوجات الملك المرسل من السماء، فكر أن يذهب إليها، إذ لا بد للبنت أن يرق قلبها لأبيها في محنته، ولم يخطر على باله إن إيديولوجية الدين الجديد الشمولية المتطرفة قد انتزعت الرأفة من قلوب المؤمنين بها. فلما دخل بيت ابنته، وبدلا من أن ترحب بأبيها، نهرته عندما رأته يكاد يضع قدميه على بساط سيدها ورسولها وزوجها المقدس، فطوت البساط من تحت قدميه، فلما بان عليه الاستغراب من هذا التصرف البعيد عن الأدب واللياقة والأصول، قالت له بكل صلافة: "هذا فراش رسول الله، وأنت رجل مشرك نجس". فلنتصور مشاعر أب تواجهه ابنته بعبارات البغض والصلف هذه، وهذا يدل على عمق إيمانها بدين ناكحها، لأن الإيمان لا يكون إيمانا راسخا، إلا إذا امتحن المؤمن قلبه، كم يحمل من البغض والكراهة والعداوة تجاه الأب أو الأم أو الابن أو الابنة أو الأخ أو الأخت أو الصديق، إن كانوا على غير دينه. فخرج الأب من بيت ابنته غاضبا حزينا مصدوما، لا يجد تفسيرا لهذا الصلف من فلذة كبده تجاهه، وهو أبوها الذي ولدت منه. وهذا ما رباها دين بعلها كما ربى أتباعه عليه " كانت لَّكُم أُسوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبراهيمَ وَالَّذينَ مَعَهُ إِذ قالوا لِقَومِهِم [...] قَد بَدا [الصحيح بَدَت] بَينَنا وَبَينَكُمُ العَداوَةُ وَالبَغضاءُ أَبَدًا حَتّى تُؤمِنوا بِاللهِ وَحدَهُ"، ويفترض أن الله الحكيم يأبى للمؤمنين به أن يكرهوا ويعادوا الذين لا يؤمنون بما هم به مؤمنون، لكن هكذا هي أمراض الناطقين باسمه.
عندها لم يبق لأبي سفيان خيار، إلا أن يستجمع ما تبقى من شجاعته، ويجر ذياله إلى مجلس الإمبراطور الجديد. ولما أقبل على (رسول الله) كما أصبح اسمه الرسمي بقرار نازل من السماء، وما أن رآه المسلمون، حتى فتحوا له الطريق، إلى أن وقف بين يدي المقام الأعظم، يتيم قريش بالأمس، وكلمه بما كلف به من قومه في مكة، ملتمسا منه الموافقة على تجديد اتفاقية الهدنة. فما كان من صاحب المقام الأعظم إلا أن يعبر له عن عدم احترامه له، بعدم الجواب، وكأنه لم يتكلم إليه بل إلى جدران البلاط الملكي (مسجد رسول الله)، وبهذا جسد مقولة "وَإِنَّك لَعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ"، التي قوّل الله بها في قرآنه، حسب فهمه للأخلاق. وبقي أبو سفيان سيد قريش ينتظر ذليلا وهو عزيز قومه، وطال به الانتظار، فأخذ يتوسل بهذا وذاك من صحابة رسول الله، من معارفه وأصدقائه الذين هاجروا مع السيد القائد إلى معق انطلاق حملات الفتح، التي واصلها خليفته الثاني ومن بعده من أباطرة أمويين وعباسيين وعثمانيين. وابتدأ بأبي بكر، ثم بعمر، ثم بعثمان، فلم يأبه به أحد منهم، زيادة منهم في إذلاله. فنصحه أحد المسلمين أن يذهب إلى عليّ، الذي يبدو أنه لم يكن حاضرا المجلس، فذهب إلى بيته. لم يكن هينا على سيد قريش أن يذهب متوسلا بعلي فيطرق بابه، فعلي عدوه اللدود وعدو كل من لم يصدق بنبوة محمد، ابن عمه، وكافله ومربيه، وأبي زوجته، كما إن أبا سفيان نفسه وزوجته هند كانا يكنان البغض الشديد لعلي، لأنه كان من أشرس مقاتلي الإمبراطور السماوي، كما إن عليا لا يمكن أن يكون قد نسي فعلة هند بابن عمه وابن عم رسول الله الحمزة، وهي التي مثلت بجثمانه ومضغت كبده، بل وكان علي أحد المرشحين للقتل بإيعاز منها أيضا. هذا الفلم كان يمر أمام عيني أبي سفيان، وهو يجر ذياله إلى بيت علي، الذي لم يكن ينتظر منه خيرا، لولا النصيحة التي نُصِحَها، ولولا إيصاد بقية الأبواب بوجهه. لكن الذي خفف من روعه علمه بأن عليا رغم قسوته في الحرب، لم يعرف عنه الغدر في غير الحرب، مما كان يمارسه غيره من المقربين من النبي السلطان. عندما طرق أبو سفيان باب عليّ وزوجته ابنة السلطان، وبعكس ما قابله الآخرون به، لم يعبسا في وجهه، ولم يمنعاه من الدخول. ولما سأل عليّ ضيفه اللدود عما جاء به إليه، طلب منه أن يشفع له عند رسول الله لشدة قربه منه. لكن عليا عبر عن عجزه عن ثني الإمبراطور المتوج بأمر من السماء عن موقفه الشديد والحازم ضد أبي سفيان. وفكر عليّ بابنه البكر الحسن ليذهب إلى جده ليجير أبا سفيان، لكن لم يكن هو الذي طلب ذلك من ابنه، بل أوكل الأمر إلى سيدة البيت ابنة الإمبراطور، إذ لم يجرؤ على أن يسبقها في ذلك، وهي المعروفة بتشددها، أن ترسل ابنها، فلم تر جدوى من ذلك. وبعد محاولات يئس أبو سفيان، فرجع ذليلا خائبا إلى مكة، المرشحة للفتح والاحتلال من أتباع مدعي النبوة والرسالة.
وزحف جيش الفاتح بعشرة آلاف مقاتل صوب مكة، وكان النصر والفتح والاحتلال والإذلال. وكان الهدف إجبار أهل مكة على أن يدخلوا الدين الجديد عنوة، رضوا أو لم يرضوا، اقتنعوا أو لم يقتنعوا، ذلك إذا أراد كل منهم أن يبقى رأسه يعلو كتفيه. ونستطيع أن نتصور مشاعر أبي سفيان في تلك الساعات، التي كانت تمر اللحظة فيها كساعة، وتمر الساعة كيوم؛ دقات القلب تتسارع، ورجفة تفرض نفسها داخل جسد أبي سفيان في كل ذراته، متصببا عرقا، يحسب ألف حساب وحساب لما سيكون بعد حين مصيره. هذا خاصة وكان قد أكد له العباس على أن محمدا مصمم على ضرب عنقه. فأخذ العباس أبا سفيان إلى محمد معلنا أنه أجاره، ليحقن دمه، حتى يعرف حكم القيصر المرسل من السماء عليه.
وحيث إن جنود إمبراطور الإسلام، ولتجذر إيمانهم بنبيهم، تعلموا ألا إيمان حقيقيا من غير أن تمتلئ القلوب المؤمنة بغضا لأعداء الله، حيث آمنوا أن رسول الله ظل الله في الأرض، فمن عادى الظل عادى الأصل، ولذا كانوا يحدقون بعدو ربهم في الأرض محمد بعيون محمرة، ويسيل لعاب كل منهم متشوقا لرؤية دم أبي سفيان يقطر من عنقه، بعد فصل رأسه عن جسده، وكل منهم يتمنى أن يحظى سيفه بشرف التحني بدم (عدو الله). واكتظ المجلس بصخب النقاش، لاسيما بين العباس بوصفه مجير أبي سفيان، وابن الخطاب الذي كان متحمسا ومتحفزا لقطع رأس المسكين أبي سفيان. وأخيرا قرروا أن يعود أبو سفيان بعد انقضاء تلك الليلة وانجلاء الصباح، ليرى رسول الله ووكيله المدعى في الأرض في مصيره.
وفي الصباح وبعدما مثل أبو سفيان بين يدي المقام الأعظم، وأخيرا نطق هذه المرة المقام الأعظم مخاطبا الماثل ذليلا بين يديه: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟" ولكون أبي سفيان من عقلاء قريش، فقد اقتنع بإيديولوجية التوحيد التي جاء بها ابن عمه الإمبراطور يتيم قريش بالأمس، فعبر عن قناعته صادقا ودون نفاق بقوله: "بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لو ظننت أن لو كان مع الله إله غيره يغنى عني شيئا، لما جئتك". ولنتأمل في أن أبا سفيان لم ينافق ويخاطب محمدا بـ(يا رسول الله)، كما يفعل أتباعه. إذن تحقق ضمنا إقرار أبي سفيان بالشهادة الأولى، وهو لا يعلم إنما هي ليست إلا مقدمة للشهادة الثانية، التي هي الأهم عند رسول الله المُصَلعَم. فجاء بيت القصيد في قول سلطان العرب الجديد للواقف بين يديه: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟". وهنا أبت كرامة أبي سفيان له أن ينافق، بل كان صادقا بقوله: "بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك، وأعظم عفوك، أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا." وهنا أيضا لم ينافق أبو سفيان، بل كان صادقا، ومع هذا أبقى الباب مفتوحا، ليمنح لنفسه فرصة، لعله يقتنع لاحقا بنبوة محمد، وهذا ما يتبين من عبارة "حتى الآن". لكن (حلم) الرسول الحليم لم يكن بمقدار أن يمنح أبا سفيان مهلة، لكي يقتنع ربما لاحقا ويقر بنبوة محمد، بل كان الجواب أن امتدت الأيدي إلى السيوف، كل منهم يريد أن يحظى بشرف فصل رأس أبي سفيان عن جسده، وكان عمر أشدهم تحمسا لذلك. فما كان خيار لأبي سفيان إلا أن يمارس ما لم يكن يحبه لنفسه فيكون منافقا ويقر ظاهرا بالإيمان بما لم يؤمن به، لكنه لم يكن هذه المرة نفاقا منه، بل هي التقية أو (التقاة) كما يصطلح قرآن محمد، الذي مارس هنا كما في العديد من مواقعه الازدواجية، فإخفاء المسلم إسلامه في وسط يهدد المسلمين بحياتهم يعد تُقاةً رخصها الله لهم، بينما اضطرار غير المؤمن بالإسلام ادعاء إيمانه به حقنا لدمه وحفظا لحياته يعد نفاقا، يتوعد مزاولوه بالخلود في نار جهنم. فمحمد بعدما جاء (نصر الله) والفتح نسخ "لا إكراه في الدين" عمليا، إذ لم يكن لابن شبه الجزيرة العربية إلا ثلاثة خيارات، إما أن يقتنع بالإسلام ويدخله مؤمنا به، وإما لا يقتنع فيدخله ظاهرا دون أن يؤمن به حقا، وهنا يعتبر صاحب هذا الخيار منافقا، يمتلئ القرآن بشتمه، وعليه أن يتحمل كل هذه الشتائم النازل بها من السماء ساعي بريد الملك الأعلى الجالس على عرشه في الطابق السماوي السابع، فيعفى عن (المنافق) في الدنيا، ويخلد في الآخرة في نار جهنم بقرار من محمد نفسه، وليس من الله، الذي لم يخلق نارا يدخل فيها عباده، تنزه وتعالى عن ذلك.
المضمون أخذ من كتاب "بين يدي الرسول الأعظم" لمحمد بحر العلوم، الجزء الثالث، من الصفحة 125 حتى الصفحة 134، لكن جرت صياغته بلغة أخرى.