الشرك في الأديانِ التوحيدية
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8135 - 2024 / 10 / 19 - 18:11
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أقول ابتداءً للقراء الملحدين واللأدريين دعونا نفترض وجود إله، بالصورة التي أؤمن أنا بها استنادا مني على العقل، مع عدم التعارض مع العلم.
ومع اعتذاري لعقلاء المسلمين، إذ لا شغل لي مع المتعصبين وغير العقلاء منهم، أقول رغم كل نقدي للقرآن، الذي تركزت عليه كل كتبي ومقالاتي الناقدة للدين، لم يصدق إلا في القليل من نصوصه، وقد صدق عندما قال «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ».
فقد خطرت على ذهني مساء الخميس ١٧/١٠/٢٠٢٤ فكرة كتاب بعنوان (الشرك في الأديان التوحيدية)، وأعني تلك المسماة بالإبراهيمية، فسارعت كعادتي غالبا، إلى فتح ملف للكتاب في حاسبتي، ووضعت له عنوانه، الذي ربما لم أحسم اختياره بشكل نهائي، فوضعت خيارين للعنوان، إما (وَإِنَّ أَكثَرَ المُوَحِّدينَ لَمُشرِكونَ)، وإما (الشِّركُ فِي الأَديانِ التَّوحيدِيَّةِ)، الذي هو الأرجح. وعلى الفور رأيت أن أختار هذه الآية من قرآن المسلمين، التي تعبر خير تعبير عن هذه الحقيقة، ألا هي «وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ»، رغم إن الإسلام هو أحد الأديان التوحيدية، بل ربما أوضحها في اعتماد التوحيد، من مجموع الأديان الإبراهيمية، إلا أنه معني أيضا بكونه يتضمن الشرك المغلف بشعار التوحيد، لأنه رغم كل العبارات التي تدل عناوينها على التنزيه، مثل «لَيسَ كِمِثلِهِ شَيءٌ» أو «لَم يَكُن لَّهُ كُفوًا أَحَدٌ»، إلا أنه في التفاصيل بعيد عن التنزيه بعد كوكب الأرض عن أبعد مجموعة شمسية في الكون. ومع إن الكتاب يريد تناول الشرك من أصل عقيدة كل من الأديان الثلاثة، ومن كتبهم (المقدسة) عندهم، والتي يؤمنون بها وحيا إلهيا، رغم الاختلاف الحاد فيما بينها، وأعني الشرك الوارد في أصل الدين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، سأحاول في كتابي تناول الشرك في عقائد وأقوال وطقوس وشعائر أتباع كل من الأديان الثلاثة، فيما أضافوا إليه جيلا بعد جيل، سواء كانت إضافات من رجال دينهم ولاهوتييهم، بما فهمه كل منهم، اجتهادا وتأويلا منه، ابتداءً من الجيل الأول بعد المؤسس لكل من تلك الأديان، أو إضافات التدين الشعبي، لاسيما في عصرنا هذا في كل من أول الثلاثة وثالثها، دون تبرئة الثاني ما بينهما، الذي أقر بالأول وأسماه بالعهد القديم، والذي أقولها بالعراقية (لِعَبِ بْأَلَّه طَـُوبه). وهنا أنقل مقتطفات مما وضعته كمقدمة أولية لمشروع الكتاب.
بالرغم من أني أريد تناول الشرك في كل هذه الأديان الثلاثة المسماة بالإبراهيمية، إلا أني سأركز على الشرك في الإسلام باعتباره أكثرهم وضوحا في اعتماد التوحيد، وجعله الأصل الأول من لاهوته، ولو كان قد اعتمد مؤسس هذا الدين التنزيه أصلا أول، وجعل التوحيد من لوازم التنزيه، لعله كان سيبلغ درجة أعلى، ولو قليلا، من درجات التوحيد نفسه، لكننا إذا انطلقنا من كونه هو مؤلف القرآن، هذا في حال ثبت، أن القرآن وصلنا كما تلاه خلال الاثنتين وعشرين سنة (شمسية) على أتباعه، دون أن يطرأ عليه شيء من تغيير، إضافة، أو حذفا، أو تحويرا، نستطيع عندها أن ندرس شخصية مؤلف القرآن، فكرا وشعورا وسلوكا، مما يجعلنا نجزم، أنه حتى لو كان قد اعتمد التنزيه أصلا أول لدينه، لما كان سينزه الله كما يستحق. هذا رغم أن الكثير من آيات القرآن تنزه الله حق تنزيهه، أو بما يقترب من حق تنزيهه، لكن يبقى كل ذلك كما لو كانت عناوين، تنقضها التفاصيل، إذ أن القرآن من جهة أخرى مكتظ بما يتنزه عنه جلال الله وجماله وعدله ورحمته وحكمته وعلمه تنزها عظيما.
فمثلا أشهر سورة في توحيد الله في القرآن، هي ما تعرف باسم (سورة التوحيد)، أو (سورة الإخلاص). وإذا استثنينا كلمة «قُل» الزائدة عن اللزوم في مطلعها فنصها: «هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ لَم يَلِد وَلَم يولَد وَلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ». ولو إن عبارة «لَم يَلِد وَلَم يولَد» هي بمثابة حشو زائد على هذه السورة، ويبدو أن مؤلف السورة، الذي هو مؤلف القرآن، إلا إذا صدقت بعض الدراسات التي تذهب إلى غير ذلك، يكون المؤلف قد وضعها فقط لنقض عقيدة المسيحيين أو النصارى، بينما كان يجب أن تكون مثل هذه السورة، التي جاء في حديث أنها تعدل ثلث القرآن، كم إن الفاتحة تعدل ثلثيه؛ كان يجب أن تكون مختصرة بأقصى الممكن، ومحايدة، ولا تأتي لنفي عقائد أديان أخرى، مما ثبته القرآن في طياته بما هو فوق الكفاية، بل كان يجب أن تقتصر هذه السورة القصيرة، حصرا على تثبي مبدأت (التوحيد)، باعتباره أهم أصل في دعوة الإسلام، وإلا لو جاز التفصيل في مثل هذه السورة، لكان الواجب أن يرد أيضا فيها أيضا نفي عبادة الأصنام، خاصة ولأن كون الله «لَم يَلِد وَلَم يولَد» متضمنة في قول «لَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ»، وإلا إذا وجب نفي أن لله والدا قد ولده، أو ولدا ُولِدَ منه، مع العلم أن ليس من دين يقول بأن لله والدا، ليرد نفي ذلك، ومن أجل اعتماد السجع الذي كان يستهوي مؤلف القرآن كثيرا، لكان يكفي قول «هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَم يَكُن لَّهُ وَلَدٌ، وَّلَم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ»، أما لو أريد نفي كل ما يتنزه الله عنه، لكان يجب المضي أكثر في نفي ما يتنزه عنه، بقول «هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لَم يُنزِل كِتابًا، وَّلَم يُشَرِّع دينًا، وَّلَم يوقِد لِخَلقِهِ جَحيمًا، وَّلَم يَكُن لَّهُ رَسولٌ وَّلا كَليمٌ وَّلا وَلَدٌ، وَلم يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ».
ثم لو جئنا إلى شعار الإسلام، المعبر عنه بما يسمى بالشهادتين، لا ثالثة لهما، كما تذهب إليه فرقة من فرق المسلمين، وهما «لا إِلـاـهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَّسولُ اللهِ»، فعندما ندرس القرآن بتدبر وتمعن وتركيز وحياد وتجرد، نجد أن جوهر الإسلام إنما هو في الحقيقة: «لا إِلـاـهَ إِلَّا مُحَمَّدٌ، اللهُ مُسَخَّرٌ لِّمُحَمَّدٍ». وهنا أقول كم كان تنظيم الدولة الإسلامية محقا من خلال الخطأ الذي ورد في رايته السوداء، وهي سوداء لونا ومضمونا، إذ جعل الشهادة الأولى أفقية «لا إِلـاـهَ إِلَّا اللهُ»، ولا أعرف لماذا اختار أن يجعل الشهادة الثانية عمودية، بجعلها:
محمد
رسول
الله
بدلا من «مُحَمَّدٌ رَّسولُ اللهِ» أفقيا، لكن عبقرية الدواعش أبت لهم أن يجعلوا اسم نبيهم فوق اسم الله تألق جلاله، لأنهم رأوا أن من غير المناسب أو يُعلى اسم نبيهم على الله، رغم أنهم الأشد أصالة في اعتماد إسلام ما بعد الهجرة، فرتبوا العبارة، لتقرأ من أسفل إلى أعلى، فجعلوها هكذا:
الله
رسول
محمد
وبما أننا اعتدنا أن نقرأ أفقيا من اليمين إلى اليسار في العربية وأمثالها، وعموديا من أعلى إلى أسفل، وحَسَنًا فعلوا إذ جعلوا العبارتين من غير تشكيل، مما جعل الشهادة الثانية تُقرَأ «اللهُ رَسولُ مُحَمَّدٍ»، ولو كانوا قد كتبوها مشكلة لكانت «اللهِ رَسولُ مُحَمَّدٌ»، وهذا كان سيكون خطأ نحويا واضحا، مما سيجعلنا نقول أنهم كتبوها من أسفل إلى أعلى، خلافا للمألوف. ومن هنا كان من المناسب قلب الشهادة الأولى أيضا بجعلها «لا إِلـاـهَ إِلَّا مُحَمَّدٌ»، فصحيح إن القرآن نعت محمدا بعبد الله، وأكد بشريته مثل سائر البشر، وعبوديته لله، وصحيح إن الإسلام يدعو إلى أن تكون صلاة المؤمن العابد ونسكه وحياته ومماته لله وحده لا شريك له، كما ورد عن لسان إبراهيم، لكنه جعل الطاعة على الأعم الأغلب بالنتيجة لمحمد، وليس لله، وبرر ذلك بقول «مَن أَطاعَ الرَّسولَ فَقَد أَطاعَ اللهَ»، ومن منطوق هذه الآية، كما يعبر المناطقة، نستوحي بالضرورة مفهومها «مَن عَصَا الرَّسولَ فَقَد عَصَا اللهَ». وأقول إنه من الطبيعي بل ومن الواجب، إذا كان الله قد أرسل حقا رسولا إلى الناس، ألّا ينطق هذا الرسول المرسل منه عندها عن الهوى، بل إن هو إلا وحي يوحي، لأن طاعة الرسول المرسل حقا من الله، تكون عندئذ في طول طاعة الله، وليس في عرضها، لكن بما أن دراسة القرآن دراسة معمقة ومركزة ومتدبرة من جهة، ومن خلال اعتماد تنزيه الله من جهة أخرى، تجعلنا نصل إلى الامتناع العقلي بالمطلق، نعم بالمطلق، ثم ألف مرة بالمطلق؛ أن يكون القرآن كتاب الله، تعالى الله عنه تعاليا كبيرا، وتنزه عن أكثر ما ورد فيه تنزها عظيما. إذ جُعِلَت «مَن أَطاعَ الرَّسولَ فَقَد أَطاعَ اللهَ»، ومفهومها بالضرورة «مَن عَصَا الرَّسولَ فَقَد عَصَا اللهَ»، مبررا لاعتبار أحكام محمد أحكام الله، وما أوجبه محمد فرض الله، وما نهى عنه نهي الله، وما أباحه حلال الله. وحيث كانت معظم أحكام الإسلام بالضد من العقل العملي، أي الحكمة، ومن العقل الأخلاقي، أي القيم الإنسانية، فكيف نقبل أن تكون هي أحكام الله، وهو بالنسبة للمؤمنين به مثلي المثل الأعلى الذي يعلو كل المثل العليا بالمطلق.
١٩/١٠/٢٠٢٤