الأحداث الراهنة ومستقبل المنطقة ٣
ضياء الشكرجي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8120 - 2024 / 10 / 4 - 08:59
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الأحداث الراهنة ومستقبل المنطقة ٣
من هنا، أي مما انتهيت إليه في الحلقة السابقة، يمكن أن نبرر لإسرائيل قتلها للأمين العام لحزب الله، وقبله لعدد غير قليل من القياديين المهمين للحزب، لولا أن القتل جرى على يد حكومة، هي نفسها تمارس جريمة الإبادة الجماعية في غزة منذ العملية الإرهابية الجنونية واللامسؤولة التي قامت بها حماس، بقرار من يحيى السنوار، ولذا اعتبرت دائما أن قتل ما تجاوز الستين ألف من أهالي غزة الأبرياء، اعتبرتها كما هي جريمة التشريد وتدمير غزة، هي جريمة مشتركة، مسؤول عنها كل من حماس والحكومة الإسرائلية على حد سواء، كما إن كل ما أصاب لبنان واللبنانيين وما سيصيبهم ربما، يتحمل مسؤوليته أيضا طرفان، هما حزب الله الإرهابي وحكومة نتنياهو المجرمة.
وهنا أريد أن أتناول الفرق بين الكفاح المسلح المبرر بشروطه والعادل، والمضطر إليه كحل وحيد أحيانا، وبين العمل الإرهابي. فالإرهاب مرفوض بل مدان، حتى لو افترضنا أنه يمارس من أجل قضية عادلة، فلا يمكن استخدام مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة) هنا، وإن كانت هذه القاعدة قد تصح في حالات وبشرطها وشروطها، ذلك عندما تكون الغاية من الأهمية مما يجعلها تبرر لبعض الوسائل غير المقبولة في الظروف الطبيعية لتحقيقها، لكن هذا يكون بشرطين، شرط ألا يُتجاوَز في ذلك حدود الاضطرار الحقيقي لا التبريري، وأن يُحتمَل من تلك الوسيلة احتمالا كبيرا، وليس مجرد على نحو الظن، ولا مجرد كتبرير، أنه ستتحقق به تلك الغاية الكبيرة، وهذان الشرطان غير متحققين، لا لحماس والجهاد الإسلامي من جهة، ولا لحزب الله وأنصار الله أي الحوثيين من جهة أخرى؛ هذه القوى الإسلاموية التي لا تعير وفق عقيدتها قيمة لحياة الإنسان. ثم على فرض انتصار قوى الإسلام السياسي، هذه وإنهائها للاحتلال، فنحن أمام خطر استبدال احتلال باحتلال من نوع جديد ربما يكون أشد خطورة وأقدر ديمومة، ألا هو الاحتلال الداخلي من قبل الديكتاتورية الإسلاموية، التي ستكون على الأرجح أشد وطأة على الشعوب المعنية من الاحتلال الخارجي. ثم نسألهم لو افترضنا أنكم حررتم فلسطين، من قبيل أن فرض المحال ليس بمحال، فما هو مصير الأجيال من العوائل اليهودية، التي فتحت أعينها ولم تعرف وطنا لها غير إسرائيل، حتى لو اعتبرنا الجيل الأول جيلا محتلا (مُحْتَئِلًا تمييزا عن المُحْتَأَل)، لا يمكن معاقبة أجيال متعاقبة على ما ارتكبه أجدادهم، وإلا فيجب معاقبة الشعب الألماني على سبيل المثال على الجرائم الفظيعة التي ارتكبها آدولف هتلر والنازية.
نعم، أنا لا أؤمن بشرعية دولة إسرائيل، ذلك لثلاثة أسباب، الأول لأني أرى التأسيس جرى على باطل، مع إن الباطل لا يجب أن يزال بالباطل، خاصة عندما يتحول ذلك الباطل بعد أجيال متعاقبة إلى أمر واقع، يجب التعاطي معه بواقعية، وتحقيق أقصى الممكن من العدالة من خلاله. والثاني أني كعلماني ضد إقامة دولة على أساس ديني، ومن هنا رفضي لدولة إسرائيل لا يختلف من هذا الجانب عن رفضي لجمهورية إيران الإسلامية وإمارة أفغانستان الإسلامية، وكذلك رفضي لكل الأحزاب الإسلامية سنية وشيعية، لأنها تستهدف عند الاستطاعة (أو ما يسمى بالتمكين عندهم) إقامة أنظمة إسلامية. والثالث أني لا أؤمن بوجود شعب يهودي، كما لا أؤمن بشعب مسلم أو شعب مسيحي. صحيح إن إسرائيل تختلف عن الإسلام السياسي، لأنها لا تقوم على أساس تطبيق الشريعة اليهودية، ومن هذه الزاوية فقط يصح القول أنها دولة علمانية، لكني أفهم العلمانية ليس حصرا بالفصل بين السياسة والدولة من جهة، والشرائع الدينية من جهة أخرى، بل الدولة العلمانية الديمقراطية الحديثة تقوم على أساس مبدأ المواطنة، وبالتالي التعددية الدينية والعرقية والمساواة بين مواطنيها بعيدا عن النتماءاتهم الدينية وأعراقهم وجذورهم. أما القول بأن اليهود ليسوا أتباع دين فحسب، بل هم شعب، لأنهم ينحدرون عن سلالة يعقوب (إسرائيل)، الذي هناك احتمال كبير بأنه ليس إلا شخصية أسطورية وهمية. وحتى لو افترضنا أنه شخصية حقيقية، وأن كل اليهود اليوم ينحدرون فعلا منه ومن سلالته، فهل يمكن أن نتصور أو نقبل بدعوى فريق من الشيعة، الذين يُسمَّون بـ(السادة)، أي الذين ينحدرون من علي بن أبي طالب وفاطمة بنت محمد، إذا ثبت صدق (شجرة) نسب كل منهم، أنهم يمثلون شعبا، ومن حقهم أن يؤسسوا دولة خاصة بهم، بكل أعراقهم من عرب وفرس وكرد وآذريين وهنود وپاكستانيين وغيرهم، ويسمونها (دولة علي وفاطمة) أسوة باسم (دولة إسرائيل) أي (دولة يعقوب)؟
نعم أنا مع بقاء دولة إسرائيل من جهة، ومع زوال دولة إسرائيل من جهة أخرى، وليس من تناقض بين المعنيين. فإني مع بقاء دولة إسرائيل، لأني ضد إزالتها عبر الحروب أو الإرهاب، ولكني مع زوالها في المستقبل، سواء في هذا القرن، أو القرن القادم، لكن بإرادة ذاتية، أي بقرار أكثرية (الشعب المسمى حاليا بالإسرائيلي) بالتحول إلى العلمانية ومبدأ المواطنة الحاضنة للتعددية الدينية والعرقية. وسبق وقدمت تصوري لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بخمس مراحل، المرحلة الأولى بحل الدولتين بالممكن، إن لم يكن بأفضل الممكن، المرحلة الثانية دمقرطة الدولة الفلسطينية، المرحلة الثالثة علمنة كلا الدولتين الجارتين، المرحلة الرابعة الذهاب إلى توحيد الدولتين في إطار نظام كونفدرالي، والخامسة توحيدهما في دولة واحدة ديمقراطية علمانية فيدرالية، فلو بدأنا بالمرحلة الأولى، لا أقول الآن أو قريبا، بل سنة ٢٠٤٨، أي بعد مضي قرن على تأسيس إسرائيل، يمكن أن نصل إلى تحقيق المرحلة الخامسة سنة ٢١٢٤. أما كيف تلغي إسرائيل نفسها ذاتيا، وبإرادة غالبية شعبها، فهو مع نمو الفكر العلماني، سواء الليبرالي، أو اليساري الديمقراطي، وتتحول إسرائيل إلى دولة علمانية، لا بد أن تلحقها مرحلة بإلغاء يهودية الدولة، أي كونها دولة للشعب اليهودي، ولا أستبعد، ولو بعد عشرات السنين، أو حتى بعد قرن من الآن، أن سيفكر علمانيو إسرائيل، ما معنى أن نسمي دولتنا بدولة النبي إسرائيل، أي يعقوب، في الوقت الذي لا نجد دولة باسم (دولة اليسوع)، أو (دولة محمد)، كما من الممكن يوما أن يفكر السعوديون بتغيير اسم دولتهم، لأنها سميت باسم أسرة لا تنتمي إليها أكثيرة شعب هذه الدولة، وكما لو تحولت تركيا يوما ما إلى دولة علمانية حقيقية وليبرالية، يمكن أن تعيد النظر بتسمية نفسها باسم قومية من قوميات الأناضول (آناتوليا)، حتى لاو كانت هذه القومية تمثل أكبر القوميات عددا من شعب الأناضول متعدد القوميات.