فصل ما قبل البداية من رواية - منتصر السعيد المنسي- الكتاب الثالث من ثلاثية -ورقات من دفاتر ناظم العربي-


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 22:50
المحور: الادب والفن     

كان دائما ما يستفيق في داخلي ويوقظني ليقول لي بصوت الآمر:
«أركض يا هذا... أركض ركضا ولا تتوقّف فالماضي يطاردك...
اُركض اُقتل لا تلتفت للوراء تقدّم فإن التفتَّ أو توقّفتَ فقد تموت فمن يطاردك لَنْ يرحمك لَنْ يصغي لتوسّلاتك في البقاء حيّا.»
إنّه ذلك الصّوت الذي جاءني ليلتها في أحد أقبية آثار قرطاج وصار يأتيني ويشدّ عَليَّ شدّا ولا يتركني إلاّ لمّا أستجيب...
لقد أصبح يتلبّسني هذا الصّوت...
يقودني إلى حيث يريد دائما...
«يأتيني فأنهار ويأمرني فأطيع.
هذا الذي يستفيق في داخلي يأمرني فأنفّذ...
يقرأ مستقبلي ويكشف لي عن عوالم أجهلها فأسلّم أمري.
يطلب منّي فلا أردّ له طلبا...
هو خيري الدبّوسي...
نعم اسمه خيري الدبّوسي.
هكذا قال عن نفسه لمّا سألته هل له اسم يعرف به ككلّ الموجودات على هذه الأرض؟.
من المؤكد أنكم تسمعون هذا الاسم للمرّة الأولى.
لا بأس في ذلك سأخبركم عنه وليكن ما يكون.
خيري الدبّوسي صدى مجرّد صدى ولكنّه... صوت إنسان.
هو لا يجيئني إلاّ لأنّ هناك أمرا ما سيحدث.
خيري الدبّوسي هو الذي علّمني ماذا أقول وماذا أفعل في الأوقات العصيبة.
خيري الدبّوسي كان يقول لي:
تقدّم لا تكن من المتخلّفين. لا تخف، أقدم، اِجر ، تململ، كسّر القشرة، لا تتوقّف... إنّ من يُمْسِكُ العصا من الوسط لا بدّ أنّ يأتي من هو أقوى منه ويستلّها منه ويضربه بها ضربة قاسمة تنهيه إلى الأبد.
كان يردّد على مسامعي ذلك دائما...
كان يقول أيضا:
إن أنصاف الحلول ليست حلولا وإن من يقف عند أنصاف الحلول يمنى بهزائم نكراء وبشتائم الأوّلين والآخرين...
اختفى خيري الدبّوسي شهورا حتّى ظننته لَنْ يعود... ولكنّه في يوم من الأيّام عاد.
عاد... نعم عاد ليطلب منّي أنّ أكتب هذه المرّة فلم يعد مجال للحركة وقال:
أنت قضيت معظم عمرك مع ديكة رومية لا يرون لبعيد نظرتهم مبتورة قاصرة لذلك رأيت أنّ الحركة وحدها ستكون قاصرة...
وقلتَ أنّه لابّد لهم من فكرة يسيرون على هديها... فالحركة وحدها تهلكة والفكر وحده تهلكة أكبر
لذلك لابّد من الجمع بينهما.
نعم ما تقوله سليم جدّا ولكن لا أريدك أن تنسى أنّ زمن ذلك بعيد بعيد...
جيلك وجيلي وأجيال بعدنا ستعاني من هذه التّهلكة حتى يأتي جيل يكون قد بلغ سنّ الرّشد ثم يسكت...
أدفعه لمواصلة الحديث فيسكت...
فأقول في نفسي إن وراء سكوته أمورا ربّما تتجاوز ملكتي في فهم مقاصده لذلك هو يسكت.
أتركنا الآن من قصّة خيري ودعني أبيح لكم بسرّ لم أبح به من قبل لأحد...
في الحقيقة أنا الكاتب لم أكتب شيئا من كل ما كتبت من يوم ظهور خيري الدبّوسي في حياتي...
أنا كنت عبدا لخيري الدبّوسي ولم أفعل إلاّ ما أمرني به. لقد استسلمت له ولم أقدر على مناقشته في شيء اقترحه عَليَّ...
سأزيدكم...
هل تذكرون رواية «ورقات من دفاتر ناظم العربي» هل تذكرون كلّ شخصيّاتها لا شكّ أنكم تذكرون أو ستعودون إليها الآن لتعرفوا...
هل تذكرون «السكيزو» و«الدّكتور سلاّم» لتعلموا أنّني لست من قتلهما...
خيري الدبّوسي هو الذي قال لي أقتلهما خفّف من وزن الحكاية بقتلهما...
لا ترهق نفسك ولا ترهق القارئ بأكاذيب دكتور في الفلسفة وهلوسات مريض...
الدّكتور سلاّم! ماذا يفعل دكتور في الفلسفة في نصّ يتحدّث عن الثّورة! أقتله وأرح نفسك وأعصابك مما قد تسبّبه لك هذه الشّخصية من تناقض بين أقوالها وأفعالها...
والسكيزو أُقتله أيضا، بحجّة أنّ لا حاجة لي بشخصية مريضة علّتها لا برء منها...
صحيح أنّ ذلك السكيزو يفكّر ويعرف أنّه يفكّر لكنّ تفكيره أخرق...
كلّ أفكاره مريضة مثله لا ينتظرها غير الفناء... أقتله وأرح نفسك من وجع الدماغ.
وأذعنت وقتلتهما...
أنا في الحقيقة لا أقوى على قتل ذبابة ولكنّني وجدت يدايا تمتدّان إليهما وتقتلانهما بدم بارد.
أمر آخر لا بدّ أنّ أبوح لكم به قبل أنّ يبدأ خيري الدبّوسي في إملاء الجزء الثّالث من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العربيّ عَليَّ وتضيع الفرصة عنّي وعنكم إلى الأبد.
«أرض النّفاق» هل تذكرون أرض النفاق.
في أرض النفاق لم يكن في الحسبان أنّ تموت فيها الزُهرة ولم يكن في الحسبان أنّ يقتلها ابنها منتصر السّعيد المنسيّ ولم يكن في الحسبان أنّ يتعرّف منتصر على ناظم العربيّ ولم يكن في الحسبان أنّ يكون ناظم مريضا بالزهايمر هذه كلّها من أفكار خيري الدبّوسي أنا الكاتب كان لي سيناريوهات أخرى ولكن قدري أنّ أذعن لخيري أفضل من أنّ أتمرّد عليه...
وكتبت ما أراده...
هو من طلب منّي أنّ أتخلى عن كلّ أفكاري وأن لا أحبّر إلاّ أفكاره...
لست أنا من وضع عناوين الرّوايات الثلاث لا النصّ الأوّل ولا الثّاني ولا الثّالث...
لست أنا من كتب نصوص الكتب الثلاثة ووضع صور أغلفتها... أنا كنت عبدا مأمورا بل أداة للتنفيذ وهو من قادني وأمرني بكلّ ذلك... هو من سلّحني بكلّ المعاني وفرضها عَليَّ...
كان دائما يقول لي:
النّاس ينبهرون بتافه الكلام لا ينبهرون بالمتماسك لا ينبهرون بمن يعرف لا ينبهرون بمن يقودهم لحقيقتهم...
إنهم يُعْلُونَ من يكذب عليهم من يسرق رغيفهم من يملأ كروشهم بالعلف.
من يكون تافها هو الأقرب دائما إلى قلوبهم.
نحن في زمن مائل وفي أيّام غير أيّامنا والنّاس لا يفهمون ذلك. لذلك فلنترك شيئا للمستقبل والتّاريخ هذا ما نقدر عليه. فلنكن للمستقبل فهو مركب نجاتنا الوحيد الممكن. ويظيف: اُكتب يا هذا اُكتب ... ولا تخف فالمستقبل ملتهم، يلتهم الحاضر ويصير منه... يلتهم الماضي ويصير منه وأنت تكتب للمستقبل.
المستقبل لا يرضى إلاّ أنّ يكون وحده.
المستقبل ملتهم أكول بتّار سيفه أعمى وحركته أكثر عماء...
ما نراه بعيدا هو في الحقيقة قريب جدّا وما نراه مكتملا هو في الحقيقة سيرورة لا تكتمل أبدا...
اكتمالها هو عدمها...
التّاريخ هو التّراث هذا التّراث الذي ينبعث من تحت الرّماد كلّما سنحت له الفرصة...
في الحقيقة نحن كائنات نحيا في التّراث.
تاريخنا الوحيد هو تراثنا. ولمّا ينبعث هذا التّراث لا يعود تراثا بل يصر حاضرا جاثما يبحث بيننا عمّن يحوله لمستقبل.
النّاس جميعا تراهم منشغلين بالمستقبل ولكنْ في الحقيقة هم منشغلون بلا شيء...
منشغلون بأمور لا يتحكّمون فيها...
فهم ليسوا سوى قوى ترضخ في آخر الأمر لمشيئة ما يطلقون عليه قَدَرُُ ولكنّه ليس قدرا بل هو تلك العوامل التي أسّسوها وانقادوا إليها وتصوّروها حبل نجاتهم.
النّاس غبار أبيض ينتشر في كلّ مكان ولا تعثر عليه في أيّ مكان يا منتصر.
الناس يعيشون مستقبلهم وهم يعتقدون أنّه الحاضر. إنهم يعيشون مع قاتلهم، يسالمونه، يجارونه، يسلّمون له ولسان حالهم يردّد... «اِشتدّي أزمة تنفرجي... » كلام لا يعني غير العجر والتعويل على القدر... هذا إنّ كأنّ هناك شيء ما آسمه القدر المقدّر
المستقبل يتصوّرونه بعيد بعيد بينما هو في الحقيقة قريب قريب... فهم من على أعينهم غشاوة القدر و«اِشتدّي أزمة تنفرجي». هم من يعيشون مستقبلهم وهم يعتقدون أنّه الحاضر متناسين أنّ المنصف الوحيد لهم هو المستقبل.
كان هذا ما يقوله لي لأقتنع بكلامه وأكتب ما يريد.
الحمامات. تونس. نوفمبر 2024