جزء قصير من الفصل الثالث من كتاب - منتصر السعيد المنسي- الكتاب الثالث من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العربي- بعد الكتاب الأول و أرض النفاق الكتاب الثاني


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 8134 - 2024 / 10 / 18 - 21:23
المحور: الادب والفن     

ـ "أشكون منكم اسمو ناظم العربي"؟
وقف ناظم واستدار نحو الشرطي وقال:
ـ أنا ناظم العربي ...
لا شك أنكم ستطلقون سراحي...
أرأيت كيف أني لست مجرما وأني قضيت الليل في هذه الغرفة العفنة دون سبب...
أرأيت!
ـ تعال معي ... سي الغشام يطلبك في مكتبه وأضاف:
لست أنا من يقرر
هو من يقرر من سيفرَج عنه ومن سيتواصل التحقيق معه...
حمله الشرطي لمكتب سي الغشام وحين دخل تأخر الشرطي قليلا ثم دار وأقفل الباب وراءه وعاد من حيث جاء.
وقف ناظم العربي برهة في مكانه ثم تقدم نحو المكتب الوحيد في الغرفة الذي يجلس أمامه سي الغشام الذي بادره بالقول:
ـ توقف هناك وابق واقفا لا تجلس... وأحب عن كل الأسئلة التي سأوجهها لك.
ـ اسمك؟
ـ اسمي لديكم في أوراق هويتي وتعرفونه جيدا...
نظر إليه سي الغشام مليا وتمتم ثم قال:
نعم نعرفه ولكننا نريدك أن تذكرنا به... لا تنسى أنك أمام بوليس يحقق معك سي الوغد.
ـ ناظم العربي اسمي.
ـ لا... لست ناظم العربي ذلك ما هو على أوراق هويتك... وقد جلبناك لأنك لست ناظم العربي كلنا يمكن أن تكون لنا أوراق هوية مدلسة لا تحمل أسماءنا الحقيقية...
أنا اسألك عن هويتك الحقيقية.
ـ هويتي الحقيقية هي التي في أوراق هويتي يعني ناظم العربي.
تغيرت سحنة سي الغشام وبان عليه الغضب الشديد وقال:
ـ " إنت ماكش باش تجيبها لبرا تحبنا نبولو عليك باش تقول هويتك الحقيقيةّ ... من آمس و إنت تردد في نفس الكلام... أشبيك بالع مسجلة و إلا تتمنيك علينا"
وبدأ يصيح ويكفر ثم قام من مكانه وانتهر ناظم بحقد كبير وقال:
ـ لن يطول كذبك سي منتصر ولن نصمت عن جرائمك "وبرا راهي خوانجية تمشي تقتلها وزيد تخلي حجة عليك"...
أنت فعلا غبي يا منتصر " تقتل وتهرب وادلس أوراقك وناكر كل شيء وتحب تخرج منها... لا سيدي ماكش باش تخرج منها..."
ردد منتصر بينه وبين نفسه " voilaaaaaaa هاي جات الفاس في الراس برا تو أشكون باش يسلكها... هام يعرفو حقيقتي هاو قالي اسمك منتصر موش ناظم... وِحْلِتْ وماهيش باش تتحل تو... "
وجاءه الصوت الذي غاب عنه طويلا وخاطبه قائلا... :
" تغابى يا هذا ... لا تكن حازما ولا تخف... تغابى تو تجيك خفيفة أيامات في الإيقاف ومن بعد تخرج..."
عاد سي الغشام وجلس على كرسيه وقال:
"تعرف سي منتصر وكان حبينا رانا من قبل شديناك ... لكن كان عنا ما هو أهم..."
ـ سيدي ماذا تريدني أن أقول لك ماذا؟؟؟
تريد أن يكون اسمي منتصر وليس ناظم لك ذلك ... نعم لك ذلك فإسمي منصر كما تريد.
واتسع نطاق الغباء في وجه منتصر وصار يلتفت يمنة ويسرة وكأن به مسّ.
ـ "ماك لباس آش تأتى عليك ..." أنا لا أريد أن يكون اسمك منتصر أنا أريد الحقيقة فقط الحقيقة ماك لباس... "يالا ... يالا " أجب ماهي هويتك الحقيقة ثم لا تنسى أن بحوزتنا كل ما يدينك ونعرف هويتك ولكنّ التزامنا بالقانون يحتم علينا أن تقدم أنت هويتك الحقيقية ...
سكت الضابط قليلا ثم أضاف "ماناش مزروبين يطول ليلها وتعلف ... تو نوصلو للصحيح ووقتها تو تقول على هويتك الحقيقية..." ثم وقف من مكانه تظهر عليه علامات الإرهاق ونادى بصوت كالبركان...
"ايجا رجع الخرا وين كان حتى يرجعلو شاهد العقل ووقتها تو انادوه"
وجاء الشرطي...
وعاد الصوت من جديد لمنتصر.
" ألم أقل لك تغابى ستفرج...
ألم أقل لك ذلك... وها أنك وبكلمة واحدة أوقفت التحقيق وتفاديت ما كان سيسلط عليك من عنف من سي الغشام...
لا تخف فأنا سأكون دوما إلى جانبك فقط اسمع لكلام وما تعاندش وما ترتبكش في حضرة المحققين. ولتعلم أن سي الغشام سيرسل لك بعد أيام آخرون سيتداولون على التحقيق معك فكن كما طلبت منك.
تغابى ولا تكن حازما "كل واحد منهم أعطيه شربو... حتى يمضمضو ويفدّو ويسيبوك... أكيد باش يسيبوك..."
...
" اشنوة هذا... عركة مع البوليس يحبني الدبوسي نعملها"
"تو أنا ڨدّها العركة هذي"
إلى أي حدّ سأصمد في اخفائي هويتي؟؟؟ وهل ساقدر؟
إلاهي ... لم أفكر في الأمر من قبل...
كل شيء تسارع في المدة الأخيرة.
موت المعلم، موت أريج، ثم ها أنهم يوقفوني والظاهر أنهم يعلمون عندي كل شيء...
ألم يقل ذلك الغشام أني منتصر وأني تركت دليل إدانتي في مكان الجريمة... إلاهي ...
الدبوسي يقول لي تغابى... هههههههههه وتغابيت بل "اتذكيت" أكثر فـأوقفت التحقيق دون أن يتأكدوا أني بالفعل منصر السعيد المنسي... ماذا بعد؟
ماذا سأفعل في قادم الأيام...؟
أنا هنا لآن بين أربعة جدران محروسة جدا...
كل مربوط يفكر في الهروب.
إلا أنا لا يجب أن أفكر فيه.
لماذا لم يعمل الدبوسي على تهريبي عوضا عن نصائحه الغبية...
الهروب والبحث عن مكان آخر أختبئ فيه أفضل.
ترى لماذا لم يفكر الدبوسي في أمر تهريبي...
وعاد إليه الصوت.
لم أفكر في أمر تهريبك لأني أريدك أن تخرج لست قاتلا بل بريئا ويكف البوليس عن الاشتباه بك. لم أفكر في تهريبك لأن بقاءك عندهم أفضل لك من الهروب... الهروب لن يجعلهم يقتنعون... سيضعون اسمك وصورتك وكل هويتك في كل مخفر في كل مطار في كل ميناء ... في كل مكان وسيتعرف عليك أي شرطي تصادفه وسيقبضون عليك في النهاية ولن تجد حلولا وقتها. سيسجنونك أو يقطعون رأسك فأنت قاتل... قاتل يا منتصر... هل اقتنعت الآن أني أعمل من أجل مصلحتك وأن نصائحي ليست نصائح رجل غبي كما تعتقد بل في صالحك تماما وأنا أعرف ما أقول... أنا لا أريد أن أحملك لعركة مع البوليس...
لا... أنا أريدك أن تتعافى من أوهامك وخوفك... أن تصبح قادرا على كل شيء كما أرى... على سحنتك وقرأته من يوم رأيتك...
المهم الآن عليك أن تصمد ولا تخف...
واصل ترددك... أظهر مرة بذكاء وقاد ومرة بغباء كبير...
سيزرع ذلك الشك في عقل من يستجوبك... ولن يأخذوا أقوالك على أنها أقوال جادة. وأيضا لن يحس من سيستجوبك تجاهك بأي عقد، سيحسبك ذلك الغبي الخائف الذي يعرفونه جيدا ومن أولئك الذين مروا عليهم قبلك... وقتها فقط ستستريح يا منتصر...
الراحة في مخافر البوليس يكون لها مفهوم آخر وها أنت على أبواب اكتشافه.
جاء الشرطي وعاد بمنتصر إلى غرفة الإيقاف.
الوقت يمر بطيئا جدا . لم يميز منتصر الوقت. لقد مر من أروقة عديدة ولم يرى غير وجوه شاحبة صفراء تتكئ على الأبواب.
ساورته شكوك كثيرة أنه في يوم القيامة. فكل من رآهم لم يذكروه سوى بساعة الحشر.
مالهم الناس يبدو عليهم الهزال وثيابهم شبه أسمال؟
ولماذا هذه الخطوط وهذه الرسومات على كل الجدران؟
لماذا كل الأبواب مقفلة؟
لماذا لم ينتبه الواقفون لذلك وظلوا في انتظار أنها ستفتح في وجوههم.
لوحة سريالية هذا الذي يشاهده وهو يعبر الممرات الكثيرة مع الشرطي.
ظن منتصر في البداية أنه سيعود لغرفة الإيقاف التي قضى فيها ليلته الماضية...
تصور أنه سيجد أولئك المجلوبين حديثا أولئك الذين دار بينهم حوار سريع البارحة قبل أن يخلد الجميع للنوم.
نزل الشرطي بمنتصر لـ sous-sol ثم سلكا ممرا طويلا ينتهي بسلم من درجتين يصعد للفوق ويفتح على ساحة واسعة بها غرف كثيرة. عرف ذلك من أبواب الحديد المقفولة على كل محيط الساحة الداخلية.
نهره الشرطي بفضاضة أن أدخل بعد أن فتح له أحد الأبواب.
رماه هناك وأقفل الباب الذي أحدث صريرا كبيرا ثم غاب.
تنفس منتصر الصعداء فها هو أخيرا يعود لغرفة الإيقاف...
تفقد أطرافه، صدره، قدميه، وجهه.
فرك عينيه فلم يرى شيئا.
كانت الظلمة تغطي المكان.
أراد أن يتنقل في الغرفة وما إن خطا خطوتين للخلف حتى اصطدم بجدار. استدار واتجه لليمين وخطا خطوتين فاصطدم أيضا بجدار. استدار لليسار وخطا خطوتين فاصطدم بجدار... وقتها تأكّد أنه لم يعد لغرفة الإيقاف الأولى وأن الشرطي حمله لمكان آخر هو الحبس الانفرادي!
منتصر قرأ قبل أن تنقلب حياته رأسا على عقب عن الحبس الافرادي وعن العزلة في بعض الروايات وشاهد بعض الأفلام والسلاسل التلفزية التي تتحدث عن ذلك. قرأ منتصر كتبا عن المساجين الأكراد في السجون التركية وعن المساجين العرب في السجون الصهيونية وشاهد أفلاما عن ذلك ... كل شيء هنا يذكره بما قرأه وبما شاهده...
ـــــــــــــــــ
18 أكتوبر 2024