شيء من الذكرى قبل أن يزحف عليها النسيان


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 8139 - 2024 / 10 / 23 - 16:11
المحور: الادب والفن     

الذاكرة قل ما تشاء سواء الذاكرة الوهاجة أو الجريحة أو المتعبة أو القصيّة أو الذاكرة فقط سوف لن يغير ذلك شيئا مما سأحبّر…
يا لذاكرتي كم تشدني للماضي بكل ما فيه… تحملني إلى هناك
وتتركني عاريا متعبا قلقا ربما على حافة الجنون أو ربما صرصورا أتحول ولا أدري …
يا لها من ذاكرة هي لا تمنحني سوى شذرات تأتي وتذهب تلّف حول الفتي في حركة دوران لولبية حتى أكاد أنسى كل شيء من شدة ما تلّف وتدور…
شذرات كلوحة زالت عنها ألوانها المائية فبقيت فارغة عدا ندوب وخطوط ونقاط هي كل شيء…
في الحقيقة لم تكن اللوحة سوي تلك الندوب والخطوط والنقاط…
هي فقط حين تتجمّع لتشكل تلك اللوحة.
يا لها من لوحة صارت كالحلم بل أعمق منه…
أعمق منه لأنها تحمل تواريخ ولها وهج …
أعمق منه لأنها لها هامة وخط على اليابسة…
لا أدري متى كان ذلك.
نسيت فعلا.
نسيت وما أذكره أنه كان يوما غائما – أيامنا كلها ولازالت غائمة – اقتربت منه وكان الوقت ليلا قريبا من القاعة 14 وللقاعة 14 حكاية أخرى سأرويها مرة أخرى.
الحقيقة أن روابط كثيرة كانت تقربنا ولكننا كنا بعيدين لا أدري لماذا… وقتها كان أستاذ العربية كعلم في رأسه نار… كان شابا عائدا من فرنسا بإجازة في اللغة العربية كان يقرأ علينا أشعار
امرئ القيس وعنترة العبسي والبحتري وجرير وغيرهم ويحدثنا عن بعض مغامراته… يدرسنا بانت سعاد… ويطالبنا بحفظ القصيد
ويتوعدنا…
وعيده لم يكن يعني غير التجاهل.
التجاهل كان يهلكني… يدمرني…
أذكر أنه مرة دنا منى وقال لي بصوت لا يسمعه غيري «أأنت حقا حامدي هل أنت قريب فلان» وذكر لي اسم أحد معارفه من المهاجرين في فرنسا…
وعاد لهيبته أمامنا وخلفه ذلك اللوح الأخضر الذي لا أنساه، حتى أنني لما التحقت بمهنة التدريس اشترطت أن يدهن لوح القسم الذي سأدرّس فيه بالأخضر… وقتها لم أكن أدري لماذا كان ذلك.
هو شرطي وأنا أباشر العمل في أول يوم…
ما أشدّ عليا العودة للخوالي من الأيام.
ما أشد عليّ الكتابة.
الكتابة ليست بالشيء الهين الكتابة ليست ترفا. إنها منحدر لا يتماسك فيه سوى قليلون.
الكلمة كالصوت ربما تتلاشى ولكن شظاياها تظل هنا وهناك تحت الجلد وفي مسامّه…
الكتابة هي أن تقف على جثتك وتغني …
أن تشرب من غدير قد يكون جفّ نبعها ولكنك تشرب وتَرْوِي...
أنا لا أريد أن أكتب ولكني سوف أكتب على أي حال.
...
وكان الفتى عاشقا ولا شك أنه لازال.
من يعشق لا يمكن أن ينسى أو ربما لا يمكن أن يتغير وذلك هو المعنى الأدق.
قال العربي القديم:
لخَوْلَةَ أطْلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ تلُوحُ كَبَاقِي الوَشْمِ فِي ظَاهِرِ اليَدِ.
من المؤكد أن لهذا البيت وقع على الفتى. حتى اليوم أعتقد أن وقعه شديد عليه …
هل يحدّق الفتى في ظاهر يده… لا شك سيعثر عليها سيعثر على وشمة تلوح… فقط هذا ما سيعثر عليه… سراب ووشم تلك هي الذكرى…
...
هرب الفتى إلى ميخائيل نعيمة ثم إلى التصوف ثم إلى النباتيين أوقل بالأحرى بدأ ينظّر لنفسه عن النباتيين وكتب لها رسالة أغلقها وقرّر ألا تُفتح إلا سنة 1990 … يا للأيام … ها قد مرّ اليوم أكثر من 34 سنة على ذلك العام ولا أدري هل فتحت الرسالة وماذا كان محتواها… ترى هل أعدمت هل مازالت لدى صاحبها… كل ذلك لا يهم اليوم.
ما يهم أني بصدد البوح بصدد الكتابة والقول بل قل الحفر في الأيام الخوالي. نعم من منا بلا تاريخ من منا لم يحب ولم يحلم.
من منا لم يعشق.
كان الفتى كتوما صامتا عميقا كل الوقت. أساتذته يشدهم بعمقه وسعة اطلاعه كنت قريبا قريبا منه وعرفني على ميخائيل نعيمة وسارتر ونجيب محفوظ ويوسف السباعي وجبران وغيرهم.
كُتُبُ نجيب محفوظ ويمكن القول كل كتبه كان قد قرأها كلها في سن مبكرة.
كتاب الأرض للشرقاوي وكتاب بين الأطلال اذكريني ليوسف السباعي قرأتهما من عنده… لا أدري هل كان يعلم أني بمثل شغفه للقراءة ولكن الحقيقة أنه لم يلمح لذلك يوما…
...
ربما كانت هي من يربط بيننا هي نعم هي التي كانت بيننا وفي الحقيقة هي كانت له أنا لم أكن إلا ذلك المؤتمن على سره الغرامي هو من يحبها هو من يعشقها وأنا أحببت ذلك الحب أحببت ذلك العشق منه لها لأنه عشق صادق.
لم أكن أحبها ولم أكن أكرهها بل كنت أقدرها أقدر صمتها أقدر شموخها.
كانت جميلة حدّ البذخ … جمالها لم يكن يجلب لها عشاقا فالكل ربما يتحاشى الاقتراب من ذلك الجمال وحده كان قد حطم القشرة
وأظهر رأسه قائلا « أنا لها لا أحد يقترب منها»
لم يقترب منها غيره لا أدري هل كانت لهما لقاءت أم لم تكن… لم يكن يعني ذلك كثيرا فكل ما كان يعني لي هو أنني أعرفه صادقا. يحبها بصدق وربما يعشقها بحرية.
ابن الفلاّحة والفلاح وبنت التاجر تلك كانت حكاية وحكايات أخرى كثيرة ها أني أصرّ على روايتها… قد أنسى بعض التفاصيل وقد أتلعثم مرات وأهرب بعيدا ولكني سأحاول أن أكون وفيا. وللوفاء أيضا قصة معي ها أني أبوح بها لأول مرة… فلا أحد يعرفها أو يمكن أن يتعرف عليها لوحده.
وقتها كنا في عمر الشباب وبيني وبين نفسي قلت لماذا لا أجرب…
ماذا ستجرب يا بشير؟
سأجرب الإمضاء بالوفي أبدا ولكنها يجب أن تكون مقلوبة هكذا كان الإمضاء.
وكان كل هذا قبل السنة الفصل.
سنة 1979 كانت سنة أخرى…
سنة المحنة الأولى التي ستبقى ماثلة في كل منعرج…
سجن القصرين، غرفة الإيقاف، أصغر سجين سياسي، ومن القصرين لصفاقس.
في سجن القصرين بات الفتى إلى جانب أولاد القابسية … عاشر القتلة وتعرف على سرائرهم…
التقينا بشخصيات أسطورية مغمورة جلبت إلى هناك لأنها خرقت القانون… أي قانون؟؟؟ ردّ أحدهم قانونهم… قانون الدولة. قال آخر أي دولة جاءه الجواب دولتهم ألا تدري أن بورقيبة بخصية واحدة ورغم ذلك كون دولة وسمّى نفسه رئيسها وهناك من يعليه ويتكلم عن فضله في أنه علم الناس ونزع عنهم القمل وصنع من البعض جيشا رمي به في بنزرت ذات عام وبوليس آواه في البناية الرمادية أخاف به خلق الله ويقولون سرا أنه علمهم فنون التعذيب ونزع الحقائق بالقوة ودفع االموقوفين للإمضاء عن تهم لم يقترفوها…
كل هذا والرجل بخصية واحدة… يا لقرف الأيام.
كان السجناء يردّدون كل ذلك ولم يعرفوا لا جماعة برسبكتيف ولا جماعة العامل التونسي ولا حزب الشعب الثوري ولا الشعب السرية ولا جماعة العوالم الثلاثة ولا الهياكل النقابية المؤقتة ولا الشيوعيين الثوريين ولا لينين ولا ستالين ولا تروتسكي ولا ماو ولا جيفارا.
وتنافست المنضمات في نسبة هؤلاء أبناء الفلاحين لجيشها السري حتى أن جريدة الشعب السرية خرقت سريتها وكتبت أن الموقوفين على ذمة التحقيق والقابعين في سجن القصرين من الشباب التلمذي هم من أتباعها ومنتميها وكان دليلها على ذلك أن من بينهم أصغرسجين سياسي في البلاد.
يا للعبث والسخرية…
كان الكل يتسامر سرا
يأكل سرا
ويزحفون مرات على بطونهم أيضا في السرّ.
كان كل شيء يتم في سرية مطلقة فالحراس هناك دائما واقفون يترصدون ويتربصون …
في سجن صفاقس أدخل الفتى غرفة بها سرير مخصص له قاده السجان لهناك… وفي الجانب الآخر كان يشاهد الطالبات وهن ينزعن ثيابهن ويتعرين في غرفهن في مبيت الطالبات غير مباليات أن هناك ربما من سيراهن عاريات. وربما كن يفعلن ذلك عنوة خصوصا وهن
يعملن أن ليس هناك من سيراهن غير محبوسين...
...
يا لها من أيام…
في مرافعته قال المحامي « سيدي القاضي إن من بين الواقفين في قفص الاتهام أمامكم من كان سيجتاز امتحان الباكالوريا وسيكون نجاحه مؤكدا فهو صاحب أكبر معدل في أقسام السابعة في معهده…
سيدي القاضي ها أنك ترى أن خطأ بوليسيا تسبب في حرمانهم من النجاح لا بل فصلهم من المعهد ووضعهم في السجن… أنظر سيدي القاضي لقد بقي هؤلاء التلاميذ 14 شهرا في الإيقاف قبل أن يمثلوا أمامك ومن الصدف العجيبة أن يمثلوا أياما بعد الذي وقع في قفصة… هم ليسوا لا عزالدين المرعني ولا الساكري ولا غيرهما إنهم أبرياء ولا ينتظرون منك إلا أن تراهم كذلك… »
يومها كانت المحكمة غاصة بالأهل وبالفضوليين كذلك.
أعتقد أنها كانت أطول محاكمة في ذلك الوقت.
لم يمنحنا القاضي أي فرصة للراحة…
كمال من عند من اشتريت السائل الذي سكبته مع بشير تحت
سيارة البوليس التي احترقت…
بشير هل رافقت كمال أثناء شرائه « السباولو والقاز » وسكبت معه
السائل تحت السيارة بعد أن بللت «السباولو» …
صالح لماذا لم تخبر البوليس لما علمت بالأمر …
الإمام من أعلمك أنه من أضرم النار في سيارة البوليس للرد على زيارة الوزير الأول للبلدة ولماذا لم تعلم البوليس…
أحمد أنت أيضا كنت تعلم ولم تخبر لا مدير المعهد ولا البوليس...
لم يكن الفتى خائفا من المحاكمة والحاكم كان واثقا أنه سيطلق سراحنا
خوفه كله كان في جهة أخرى
كان الفتي يخاف أقوال الناس.
كان يخاف نظرة مْنَى إليه
كان يخاف عليها بقدر ما يخاف على نفسه منها
جهة الخوف الأخرى لم يبح بها برغم أنها كانت بادية للعيان ظاهرة
كالوشم خضراء على جبينه…
ضاع كل شيء
ضاعت اللؤلؤة
ضاعت بنت التاجر… ذهبت بعيدا… افترقا… ولم يلتقيا…
أذكر أني زرته هناك في قرية العمران ومكثت عنده أياما عرفت فيها منى وزايد … كنا صغيرين.
أذكر الغرفة التي خصصتها له أمه وتلك المكتبة الصغيرة وقتها…
أذكر حركة منى وكل سعيها. كم كانت تذكرني بحركة أمي في البيت.
لعن الله النسيان…
ها أن ذاكرتي بدأت في شحّها فلم تعد تزودني إلا بالقليل القليل.
أذكر أني حملت له شريط كاسيت هدية له لا أذكر بما عدت ولكني
متأكد أني عدت بشيء ما ثمين…
ما أبشع النسيان…
هو لا يعرف أني بكيت بحرقة وأنا أغادر قرية العمران إنه بالضبط مثل ذلك البكاء الذي بكيته يوم انقلاب الشاحنة بالعاملات في قرية سبالة أولاد عسكر يوم نشر على فايس بوك صورة لمحرمة هي عندنا رمز للفلاحات يومها عادت بي الذكرى فتذكرت أمي وتذكرت مْنَى… وكانت في القلب غصّة…
...
نجحنا جميعا ونجح الفتى بامتياز كبير… لم يكن النجاح بالشيء الكبير ولكنه نجاح؟؟؟
هل نجحنا؟؟؟
هل نجح الفتى؟؟؟
الفتى صار طالبا وعاد لمحنته الأولى عاد الفتى لشغفه الأول الفلسفة وهو الذي قيل عنه في حوار «رجل طعامه وشرابه وأسفاره وعشقه الفلسفة… » صدق الصحافي الذي وضع العنوان نصف صدق…
فقط نصف صدق
صحيح أن طعامه وشرابه وأسفاره الفلسفة ولكن أن تكون أيضا عشقه بطرح المجاز جانبا فأنا أعرف غير ذلك…
في محراب المعارف درس وتخرج جاب البلاد متكلما ثم عاد للمحراب فلا يحلو له كلام في غير مساربه… مساربه وعرة وشاقة ولنقل عنيدة يكفي بما في كلمة العناد من تنافس وقذف باللسان… كان كل ذلك يمر والساعة تقترب من نهاية سنة 2010 .
أكثر من عقد من الزمن كان عمر الغياب… غبت وغاب وجرت في النهر مياه كثيرة ولكن النبع ظل هو هو. صاف رقراق …
عقد من الزمن لفّت فيه الأيام لفاّتها هناك وهنا.
...
هناك التهمه سبينوزا والرجل الأسود وكثيرون… والتر بنجامين… كستروياديس… ادوارد سعيد … وارتحل الفتى في جيوب أمريكا الجنوبية وفي الهند ورافق كثيرين من مواطني تلك البلدان …
الرفقة كانت عن بعد كانت رفقة مسارات رفقة في الكلام وفي المعنى ودائما كانت الفلسفة حاضرة بقوة تدافع عمّا بقي لها من حيز عما ارتأته لنفسها في مواجهة مركزية أوروبية غربية مكينة تمتلك التاريخ المزيف…
وصاح الفتى … وسّعوا فهناك من يتصدّى لا تتأخروا قولوا كلمتكم عاليا فاليوم هو يوم القول الفصل… فالتاريخ لنا والماضي لنا والمستقبل لنا…
ومازالت الرحلة مستمرة.

ماي 2024