ليته لم يمت
بشير الحامدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8121 - 2024 / 10 / 5 - 16:11
المحور:
الادب والفن
مقال قصير قصير صادر بجريدة الشعب الخميس 03 أكتوبر 2024
ليته لم يمت...
هو ليس خورخي أمادو ولا جبرا إبراهيم جبرا ولا ميلان كونديرا ولا ديلان توماس ولا توفيق زياد ولا جورج حاوي لكنه عبد الجبار العش فقط... أريد أن أقول هو أن يكون لك مكان بين هؤلاء وأن تعدّ من بينهم حتى لما تقفل الباب وتغادر فذلك هو الشيء الكبير في نظري...
أن يختطفك الموت اللعين بغتة أو بعد معاناة طويلة فذلك أمر طبيعي...
أما غير الطبيعي فهو أن تسكت إلى الأبد. والخوف كل الخوف أن يضاف إلى السكوت النسيان... نعم أنا لم أتعرف إلى الرجل مباشرة لم يكن صديقي في الواقع ولكنه كان أكثر من ذلك كان صديقي الحميمي في ما هو أكبر من الواقع...
أنا لا أقول فيه كلاما جميلا لأنه مات... أنا أكتب لأن في داخلي قلق كبير وتوتر وقولة تريد أن تخرج من أعماقي ولكنها تحجم عن ذلك. وأتعثر في إخراجها.
القولة ببساطة هي: ليته لم يمت! نعم ليته لم يمت... نعم أقول ذلك لأننا نحن شعوب لا تعترف بمن يموت... شعوب تتقن النسيان... شعوب تبخس موتاها كما أحيائها... شعوب تنسى بسرعة.
ربما شظف العيش الذي نحن عليه هو ما يجعلنا كذلك ولكن اعتقادي راسخ في أن هناك أمرا ما آخر يجعلنا ننسى ونبخس الحي والميّت وهذا الأمر هو: أننا شعوب لم تعرف السعادة... شعوب يهمها ما تقذفه في البطن أكثر مما يهمها ما تقذفه في الدماغ... أنا أكتب عنه لأنه لم يحمل يوما مزمارا ولم يرقص يوما في حلبات الرقص الرخيص. كتب يحاكم الكلب. كتب عن المدينة المنهارة المدمرة. كتب عن غرائب البلدان وغرائب الرجال وغرائب الزمان... أنا أكتب عنه وله لأنه لم يكتب يوما لغير المشردين بين الأديان والنظريات والفلسفات... لأنه كان جبارا في ما يكتب...
لذلك لن تذكره كتب السير الوردية المتملقة. سيذكره فقط أحبابه الخُلّص ممن عرفهم وممن لم يعرفهم... كتب وقائع المدينة الغريبة وقبل ذلك كتب محاكمة كلب وجلنار وأفريقستان. ثم ذهب بعد أن أقفل الباب وراءه وأطفأ النور.
هذا ما ترك لنا عبد الجبار وذهب...
لمن ترك كل هذا؟ ليت سواق التاكسي، الباعة المتجولون، الخدامة، ربات البيوت عرفوه. ليتهم طرقوا الأبواب ورأوه وسمعوه. ليت كل الناس عرفوا عبد الجبار... ليتهم عرفوه على الأقلّ كما عرفته. وقتها لا شك في أنهم سيمشون في جنازته ويغنون على الأقل مع كل أحبابه ومع سميح القاسم... منتصبَ القامةِ أمشي مرفوع الهامة أمشي في كفي قصبة زيتونٍ وعلى كتفي نعشي.