Niang


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 7973 - 2024 / 5 / 10 - 22:04
المحور: الادب والفن     

كم ليلة ظل يحلم بشمس أخرى لا تُلهب ظهره كما كانت شمسه تُلهبه… ولكن يبدو أن الشمس في قريته قريبة جدا من الأرض لذلك كانت له بمثابة الحريق دائما وهذا ما ظل يعتقده طيلة سنوات.
تذكر وليت ذاكرته كانت معطبة فارغة ولم تذهب به إلى هناك…وصار يشهق ويصيح ويبكي…
وتذكر ما روته له تلك المرأة وهو ما يتداوله الناس هناك في قريته… كبر وفي بطن أمه صار طويلا جدا ولم يبلغ التسعة شهور حتى أنه لما جاءها المخاض رفض أن ينزل من بطنها…
طوله منعه من النزول… وحاولت أمه بكل جهدها أن تخرجه ولكنها لم تتمكن… لقد أجهدت نفسها حتى ماتت.
القابلة تقول إنها لم تمت نتيجة ما بذلته من جهد أثناء الولادة ولكنها ماتت لأن نيانڨ «تَخَطَّرَ»… إنها تؤكد ذلك وترويه في كل مرة يرد ذكر اسم نيانڨ
وبقي نيانڨ يعتقد دائما أنه ليس كخلق الله بل هو كالعود المعوج الذي لا يستقيم. ظل دائما يردد بينه وبين نفسه كيف يستقيم وهو أعوج منذ الولادة ثم لماذا هو لا يخجل كبقية الناس من هيئته ومن سواد بشرته واعوجاج قامته ولكم أن تتصوروا رجلا طويلا طويلا ومن شدة طوله انحنت أكتافه ومال رأسه نحو الأسفل ولكنه كان دائما لا يخجل بل يرى نفسه جديرا بكل الخير. جدير بما للناس الآخرين من خير…
كان دائما يتساءل بينه وبين نفسه.
ترى لماذا يخجل الناس؟
ومما يخجلون؟
وما الخجل أصلا.
نيانڨ لا يعرف الخجل لقد كبر هناك تحت تلك الشمس وربما منها تعلم أن لا يخجل ربما هي لم تعلمه وحده أن لا يخجل من أي شيء بل علمت كل بني قريته.
ها أن للشمس أخيرا فضيلة ما… هكذا كان يفكر نيانڨ… وهكذا نشأ وكبر حتى جاء ذلك اليوم…
هو يذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله والحقيقة أنه لا يذكر يوما واحدا بل أياما كثيرة… لكن ذلك اليوم كان فريدا… لقد تغير نيانڨ…
تغير يوم نام. واستيقظ نيانڨ آخر لا ملامح له ولا مشاعر ولا أحاسيس…
يوم استيقظ كانت الأسئلة التي بقيت معلقة لا يدري لها جوابا تشدّد عليه تسحقه ولكنه لا يدري لها جوابا.
كان يوما حمله إلى ضفة لا يعرفها لا يعرف أهلها ولا يعرف أرضها ولا شمسها…
يوم استيقظ بالأسئلة الكبيرة: لماذا ذهب؟ لماذا ترك كل شيء وذهب؟ لماذا لم يشده أي شيء لقريته؟ هل كان مخطئا لما اعتقد أنه لا يستطيع الابتعاد عن الشمس الحارقة والتربة الصفراء كما كان يعتقد قبل اليوم؟
نيانڨ استيقظ اليوم لكن ليته لم يستيقط هذا ما كان يشغل كل تفكيره وهو يجمع بعض الأغراض ويخرج.
نيانڨ لم يودع أحدا… ما أشدّ على الانسان ألا يكون له من يودّع… نيانڨ ليس له ما يودع.
وجثا على ركبتيه وأمسك حفنة رمال ونشرها في الفضاء لتتساقط حباتها على وجهه. وانتصبت قامته المديدة وقام ثم نظر نظرة أخيرة لشمسه التي كان يعتبرها من عوضت أمه التي قتلها لما «تخطّر» في جوفها. وسقطت من عينيه دمعات بللت الأرض وخرج…
أرض الله واسعة هكذا ردّد وهو خارج… أرض الله واسعة ماذا؟
الأرض لم تعد لله لقد جاء من نسبها لنفسه وسيّجها وانتدب من يحرسها… الأرض لم تعد للّه كما أتصور… كل شيء تغير يا نيانڨ إلا أنت لم تتغير بقيت كما أنت تلك القامة المديدة المعقوفة من أعلاها بتلك القشرة السوداء التي تجلب النحس. أنت نحس يا نيانڨ…
رافقته هذه الأحاسيس طيلة رحلته التي لا يعرف لها لا بداية ولا نهاية… ربما هي رحلة التيه أو رحلة البحث عن الذات أو رحلة استعادة الماضي...
أي ماض يا نيانڨ هكذا خاطب نفسه… ألا تذكر ما قاله لك ذلك الرجل يوما وأنت في أول مرحلة الشباب…
أي ماض تريده وتبحث عنه؟
عما تبحث؟ هل تبحث عن بقايا تلك السلاسل وعن تلك الخرب أين قبضوا على أبيك وأسرتك وكامل عائلتك وأكملوا كل شيء بالقبض على جميع أفراد قبيلتك؟ ووضعوكم في سفن وسافروا بكم بعيدا لشمس أخرى وأرض أخرى ووضعوكم في معارض فرجة للرائح والغادي…
هل تبحث عن بقايا لذلك الرجل الذي اعتقدوا أنهم قتلوه وحملوه لديارهم بينما هم حملوا شبيهه وحتى لجوئهم لمقارنة نصف الفك الذي بقي من جمجمته مع صور الأشعة التي مدتهم بها مخابرات بلدهم لم تفدهم فقد ظل الرجل الأسمر كما ينادونه مختفيا عن الأنظار لا يرى ولكنه يحيا في القلوب…
هل تبحث عن «شاكا» … هل تريد أن تكون كشاكا زولو[1]…
قال نيانڨ: ذلك عصر وهذا عصر. كن كما أنت يا نيانڨ وواصل أن لا تخجل ولا تتردد … فكل أرض هي أرضك.
قضّى نيانڨ أيام وليال طوال يمشي ويمشي ويمشي… لقد تعود أن لا شيء يمكن أن يمنعه من المشي…
هو يذكر يوم قبض عليه ويوم ظن الحرس الحدودي أنه لا يريد أن يتكلم سوى لغته لم يفكروا في أن الرجل لا يعرف لغات أخرى ولم يتكلم يوما لغة أخرى.
أحد الحراس قال: «هذا نيد موش عبد» لابد أن نستشير في أمره القيادة… الحقيقة أن نيانڨ لم يفهم ما يقولون ولكنه بحدسه عرف أنهم يسخرون منه عرف أنهم يتعجبون من هيئته…
غفا وهو بين أيديهم مكبلا بالسلاسل. وحين استيقظ لم يدر كم ظل نائما…
إنه مرهق حدّ الموت.
أياما قضاها في المشي وها هو بعد كل ذلك بين أيدي أناس شداد غلاظ ببشرة ليست بشرته ويسخرون منه…
الحقيقة أنهم لا يسخرون منه فقط بل أن هناك منهم من هو خائف منه.
نعم خائف منه.
وتساءل بينه وبين نفسه هل إلى هذه الدرجة أنا مختلف مخيف…؟
هل إلى هذه الدرجة لا يعرف هؤلاء معنى للاختلاف…؟
ثم لماذا يخافون من مختلف؟؟؟ أليسوا مدججين بالسلاح وأي حركة منى يستطيعون أن يردوا عليها برميي بوابل من رصاصهم…؟
يا لهؤلاء الناس كم هم خائفون…
نيانڨ صار مخيفا للبعض…
نيانڨ صار مخيفا حتى لمن هو مدجج بالسلاح… هكذا كان يخاطب نفسه ويبتسم نصف ابتسامة صفراء.
ابتسامته الصفراء يجب أن يتوقف عنها حتى لا تثير غضب الحراس لو يلحظوها عليه.
يجب أن يبقى كما هو.
الابتسامة الضحكة الإشارة أو حتى كلمة هكذا قد تودي به وبحياته…
رن جرس هاتف في غرفة الإيقاف التي اتخذ منها الحراس مطبخا أيضا. في الجانب الآخر القيادة تقول: تصرّفوا معه… الحلول كثيرة… اختاروا حلا ونفذوه… المهم لا تشاوروننا مرة أخرى…
لم يفهم نيانڨ فحوى المكالمة ولكن التجربة علمته ألا يسبّق الخير… الشر اليوم هو السبّاق فليستعد إذن لما هو قادم…
كلمة واحدة ظلت تذهب وتجئ ولا تبرح ذهنه وها هو يعيدها في سره اتقاء رصاص الحراس «واد الزرقة» «واد الزرقة» «واد الزرقة»…
[1] . شاكا قائد من قبائل الزولو. ولد عام 1787 تقريباً، وتوفي في 22 سبتمبر 1828 تقريباً. يُنسب إليه فضل تحويل قبائل الزولو من مجرد تنظيمات قبلية إلى أمة تسيطر على معظم مناطق جنوب أفريقيا. اشتهر بمهارته العسكرية العالية. يصنّف على أنه عبقري عسكري اشتهر بإصلاحاته وابتكاراته في المجال العسكري.
ــــــ
10 ماي 2024