من الكتاب الثالث من ثلاثية -ورقات من دفاتر ناظم العربي- الذي بعنوان: منتصر السعيد المنسي:
بشير الحامدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8125 - 2024 / 10 / 9 - 18:11
المحور:
الادب والفن
كان منتصر يظن أنه لن يقضي الليل في الإيقاف وأنه سيكون وحده في تلك الغرفة التي بدأت فجأة تدب فيها برودة لا عهد له بها.
صحيح أن الفصل خريف ولكن هذه البرودة قاسية ولا تطمئن...
الوقت يمر بطيئا، كأن عقارب الساعة متوقفة، أخذته إغفاءة سريعة...
لم يحلم هذه المرة بشيء...
الساعة تقارب العاشرة ليلا... استفاق من إغفاءته ليجد النور منطفئا والغرفة تسبح في الظلمة.
ظلمة حالكة لا تذكره سوى بظلمة تلك الليالي التي قضاها مختبئا في أقبية ليست بعيدة من هنا...
هنا قريبا في قرطاج...
كان يغافل الحارس ويرتمي في قبو من تلك الأقبية الكثيرة في آثار قرطاج ويظل هناك حتى الصباح إلى أن ينقشع الظلام ويدب النور فيخرج متسلّلا دون أن يراه أحد يلعب لعبة السائح المولع بالآثار ثم يتسلل خارجا من المكان...
دأب منتصر على ذلك مدّة ثم انقطع عن الاختباء هناك حين وقع ذلك الأمر.
لقد وقع أمر غريب يحيره إلى اليوم ولا يجد له تفسيرا...
في ليلة من الليالي ولما كان بقبو من الأقبية وسط ظلمة دامسة استفاق على صوت يصيح به...
أنت منتصر السعيد المنسي.
أجب... أجب... أنا أراك ويمكن أن أحولك في لمح البصر لجثة هامدة ولن يعرف بخبرك أحد...
ستبقى جثتك هنا في هذا القبو... أجب ... أجب قبل أن أهوي عليك.
ظنّ أنها الشرطة أولا أو بعض الصعاليك الذين يرتاحون كثيرا لمثل تلك الأوقات ولتلك الأماكن كانوا رأوه لما قفز داخل القبو وعادو في الليل لسلبه أو ربما التنكيل به إن لم يجدوا لديه ما يكون ذا أهمية بالنسبة لهم.
ردّ منتصر بصوت مرتعب خائف: نعم أنا هو منتصر السعيد المنسي.
قال الصوت: بما أنك منتصر السعيد المنسي انتبه لي جيدا وكُفَّ عن خوفك هذا فلا سبب يجعلك خائفا مثلما أراك.
أنا أحد الذين يعرفونك عن قرب وقد تحولت بقدرة قادر إلى هذه الهيأة منذ أمد طويل لكني لا أظهر إلا بين الحين الحين.
لقد كنت وأنا صغيرا كثيرا ما أمني النفس بالتحول إلى شيء غير مرئي وكثيرا ما كنت أسمع أصواتا تأتيني في الليل ولكني في الصباح لا أذكر شيئا منها وحتى لما تحدثت بذلك لأمي فقد نهرتني قائلة:
"خيالات يا ابني خيالات لا تعد إليها" وكلام آخر لا أريد أن أذكره...
ومن يومها صرت كتوما ميالا إلى الوحدة حتى جاء اليوم الذي جاء من حملني معه على شيء يشبه البساط وغبت طويلا عن الوجود لأعود مجرد صوت أظهر متى أريد وأختفي متى أريد وأعرف كل شيء عن الأشخاص وعن المدن عن العائلات الكبيرة والصغيرة البلدية، الرعاع، قطاع الطرق، القحاب، الشريفات، المجرمون، حاضرهم مستقبلهم ماضيهم... كل شيء ... كل شيء...
وبما أننا نتحدث عن الأشخاص لابد أن أذكرك أنك ولدت قريبا من هنا...
نعم ولدت هناك وأشار لهضاب بيرصة .
هناك ولدتك نبيهة العوجة...
أمك نبيهة العوجة وأبوك بوراوي الوكيل.
لقد قتلتها في ذلك اليوم ولكن ما كان عليك أن تترك دليلا قاطعا على أنك أنت هو الذي قتلها
لقد قتلت ناظم العربي أيضا...
ومازلت ستقتل وتقتل الكثيرين...
أنت مكتوب في جبينك ذلك ولكنك ستخرج منها هائما على وجهك لا نصير لك غير الريح وغيري
تمتم منتصر دون أن يسمعه الصوت: أي شرف هذا الذي تذكرني به. و أي مستقبل هذا الذي تستحضره لي...
لماذا تذكرني بنسبي وأعمالي أيها الشيطان؟ ...
لماذا تزعجني بما سأكون عليه في مستقبل قريب...؟
إنك تطأ الأماكن التي تألمني أكثر ألا تعرف.
بلا أنت تعرف ولكنك تريد أن تُذِلَّنِي...
عاد الصوت للكلام فدبت رعشة في أوصال منتصر ولم يعد يستطيع السيطرة على حركاته ومشاعره، وتوقف احساسه بالزمن والمكان فجأة...
صار لا يرى شيئا ولا يحس بشيء يسمع فقط ...
قال الصوت: أنت نذير شؤم على نفسك يا منتصر...
من يوم ولدتك نبيهة العوجة ونذر الشؤم يكبر معك...
أنظر تلك العلامات الظاهرة عليك.
يظنونك ابن القمر ولكنك لست كذلك.
يقولون فيك كلاما كثيرا فيه ما هو صحيح وفيه ما هو خاطئ
يقولون عنك أنك قاتل أمك ويقولون إنك قاتل ناظم العربي
يقولون إن خنتوش المرعي هو أبوك ومنهم من يقول إن أباك هو راوول اليهودي وغيره يؤكد أن أباك هو المعلم... ولكن لا أحد يعرف نسبك الحقيقي غيري...
منتصر اسمعني جيدا سيجي يوم تصير فيه سيدا وهذا اليوم علاماته معروفة...
ستصير سيدا حين يفقد الناس حاسة الشم وحاسة تمييز من هو خيِّر ومن هو شرّير وحين تنعطف الشمس نحو الظلمة الدامسة والبرودة القاتلة وحين يختلط الحابل بالنابل وحين تصير الجموع كالغبار لا تنفع بل تضر وحين تتحطّم الغابات وتغزو الفئران والوحوش الأرض وترثها هي ومن عليها وقتها يا منتصر ستصير سيدا...
سآتي وقتها وأعلمك كيف تسوس الأمور...
ولكن قبل ذلك لتعرف أنك ستنتهي مطاردا، شريدا، خائفا، تتقدم وتتأخر ولا تدري صوابا في كل الأمور...
ستتشابك لديك كل الأشياء ولكن قلبك هو الذي سيخبرك...
سأنتزع منك الآن قلبك وأزرع مكانه قلبا آخر به تستطيع أن تحيا.
قلبك المُنْتَزَعُ قلب جيفة لا يقودك إلا إلى الجيف.
قلبك الجديد هو الذي سيقودك وما عليك فقط إلا الاستجابة لما يحدثك به...
وسأكون إلى جانبك كلما كان ذلك ضروريا... واختفى الصوت.
استفاق منتصر السعيد فوجد نفسه مرهقا يتنفس بصعوبة لا يكاد يقوى على الوقوف مشدودا إلى خيالات كالغيوم تذهب وتجيء وسرعان ما تختفي فجأة لتعاود الظهور مرة أخرى.
قضى منتصر بعد تلك الحادثة أياما كثيرة هائما على وجهه لا يدري ماذا يفعل ولا أين يذهب إلى أن عثر على لمياء وصديقتها وصار يقاسمهما السكن.
...