الورقة الأولى من السجل الممزق الذي عثر عليه أصحاب منتصر السعيد المنسي بعد حادثة سقوط البيت على من فيه.


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 7999 - 2024 / 6 / 5 - 16:21
المحور: الادب والفن     

من فصل قبل البداية من الكتاب الثالث من ثلاثية "ورقات من دفاتر ناظم العربي" المعنون بـ منتصر السعيد المنسي
ورقة أولى
الورقة الأولى من السجل الممزق الذي عثر عليه أصحاب منتصر السعيد المنسي بعد حادثة سقوط البيت على من فيه.
- ما قصصته عليا فعلا غريب يا منتصر…
- ولماذا هو غريب؟؟؟
أين تكمن غرابته؟؟؟
ألا ترى أن كل هؤلاء المحيطين بك الذين معك وتعيش بينهم حياتهم غريبة أيضا وهي حياة مجنونة مثلهم…؟؟؟
لماذا أنا بالذات ما رويته لك رأيته غريبا…؟ صديقي لا يوجد شيء اسمه جنون… الجنون حالة مرضية رهيبة ولا أعتقد أن من تراهم هنا مصابون فعلا… العلة هي أنه يمكن أن تتظاهر بالجنون وتتماهى مع حالتك وتصير فعلا مجنونا…
- الغريب يا منتصر أن كل هؤلاء ملامحهم ملامح مجانين سحناتهم سحنات من به سوء أو مرض أو معاناة حركاتهم حركات مجانين أقوالهم متضاربة فهم يروون لك يوما قصّة ويعودون في الغد أو في الحين ليناقضوها ويظهرون بمظهر آخر.
الحقيقة أني لم أعد قادرا على لملمة أفكاري والخروج بموقف منطقي يخصّ تقييمي لحالاتهم … وضعي كطبيب معالج لهم لا يمنحني أي امتياز لأفهم ولأفهمهم... فربما هذا الوضع اللعين هو الذي يجعلهم شبه مجهولين أمامي…
ما جدوى ما أسجله على أوراقي؟
من يقول أنهم يأخذون ما أقوله لكل واحد منهم مأخذ الجد؟
والأهم من يدري هل يتناولون ما أصفه لهم من أدوية ومهدئات؟
من يدري؟ ربما هم يتظاهرون أيضا…
مرات يا منتصر أعتقد أنهم ممثلون كبار ومرات أترك كل ذلك ولا أراهم غير مرضى خصوصا لما أفتح القوائم وأتفحص سيرهم أو لما أتحادث مع الممرضات والممرضين بشأنهم…
هل تعلم أن أحدهم جاءني يوما وقال لي: "دكتور الماضي هو مأزقي الأكبر لابد لي من التخلص من ماضيا الأسود... لابد لي من الانتحار… أنا لا فائدة مني ومن حياتي…
تظاهرت في البداية أني لم أسمعه ولكنّه أصر وطلب مني وضع كل شيء جانبا والتوقف عن النظر بعيدا وأعاد عليا ما قاله.
فقلت له لماذا ترى أن ماضيك أسود وتريد أن تتخلص من نفسك؟؟؟
فقال: ماضيا أسود نعم أسود والدليل أن نفس الكابوس يقض مضجعي كل ليلة لا بل أن الكابوس صار يأتيني حتى في النهار لما أنام. وأضاف: "هو ليس كابوسا واحدا إنها كوابيس لقد صارت كوابيس… يا دكتور لابد أن تجد لي وقتا لأروي لك كوابيسي" ثم عاد وتراجع عما قال مرددا… "لا فائدة من الحديث… لولين قالو: الحديث ياسر والدواء في كلمة".
وقام وذهب."
هذا الذي جاءني هو ذاك الذي أحرق نفسه في غرفته منذ سنة ولولا يقظة الممرضات لذهب فيها لقد أنقذنه ولكن حروقه كانت بليغة جعلته يمكث في مستشفى الحروق مدة طويلة ليخرج وقد تشوهت خلقته لنسمع بعد ذلك أنه خرج يوما وكتب على جدران البناية الرمادية ألفاظا اعتبرت ثلبا ووقع الزج به في السجن وهو يقضي الآن عقوبة ثقيلة ويقول من يعرفونه أنه يردد هناك كلاما يمكن أن يعيده السجن ثانية.
- ماذا يقول؟
- يقول إنه يرى بعينه أحد أفراد الحكومة يزنى مع أمه ومع كثيرات أخريات وأنه لما يخرج سيقتله.
- ولكن هذا كلام مجانين فهل يمكن محاكمته عن كلام مجنون كذا؟
- نعم يمكن محاكمته فلا أحد يقول إنه مجنون وحتى الأطباء الذين يباشرونه في السجن مشكوك في نزاهتهم وقد أفادوا أكثر من مرة بعكس ما قلتَ …
أنا وحدي من يعلم أنه ربما مجنون وأنه لا يستحق السجن بل يستحق التداوي في مصح نفسي ولكن من يسمعك من يعبرك من يأخذ كلامك مأخذ الجدّ… كلهم سيقفون نفس الموقف الذي سيأخذه المحقق منه.
- نحن كلنا نبحث عن شيء ما ضاع منا ولا يمكن العثور عليه…
المثل يقول: "إلي طيرها مفروض ما يجريش وراها. وإلي يبدل لحية بلحية يشتاڨهم لثنين"
قد يكون السجين على حق وقد يكون ذلك الذي يراه حقيقي وقد يكون المحقق على حق وقد يكون الأطباء المباشرون صادقون قد يكونون أيضا متمرسون على الكذب وقد يكون كل شيء محض خيال مجنون…
الحقيقة صارت لغزا والطريق الأسرع لها هو الجنون.
لا جديد جئتني به صديقي الشيء الوحيد الذي يهمني في كل ما قلته هو أنت… نعم أنت. ماذا ستفعل؟ هل ستتحول للجريدة وتكتب مقالك الأسبوعي عن الموضوع أم أنك ستكتب عن أمر آخر.
هذا هو المهم بالنسبة لي …
ثم أنا يا سيدي أعاني أيضا من أتعاب نفسية كبيرة وأنا تقريبا لي نفس المشاكل النفسية لبطلك هذا الذي حدثتني عنه…
أنا أيضا تقض مضجعي الكوابيس… لا تنسى أني نزيل أيضا بالرازي وأتداوى عندك ولكني أتظاهر بالنسيان…
أنا أتظاهر بالنسيان ولكني في الحقيقة أتألم كثيرا … وقد يأتي وقت لا أستطيع فيه التّحمّل ولكن اختيار الانتحار ليس في منطقة أحلامي اليوم منطقة أحلامي تغطيها أمور أخرى فربما أقلع نهائيا عن النسيان لأنه بالضبط فقدان متعة السعادة إلى الأبد وأنا أريد أن أكون سعيدا ولا أرى الطريق منتهية...
سجينك ذاك مجنون فعلا يا صديقي...
لقد كان عليه أن يسلك طريق أخرى غير طريق الجنون...
تونس في 05 جوان 2024