تونس: حول الانتخابات الرئاسية 2024


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 8037 - 2024 / 7 / 13 - 00:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

حول الانتخابات الرئاسية 2024 في تونس (1)

انتخابات أكتوبر 2011 صعدت كما هو معلوم حركة النهضة كأغلبية وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية في المجلس التأسيسي وجاءت أيضا بحكومة الترويكا برئاسة حمادي الجبالي التي تلتها حكومة علي العريض وهما من حزب النهضة قبل أن يقع الإعلان في شهر جانفي 2014 عن الدستور الجديد ويقع حل هذا المجلسمثلت فترة 2011 ـ 2014 فترة الصراع الكبرى بين مختلف قوى الانقلاب والتي ستنتهي بإرغام حركة النهضة على إقالة حكومة الترويكا عقب اعتصام الرحيل.

لقد شهدت هذه الفترة بداية ظهور الاستقطاب الثنائي حركة النهضة وظلالها من جهة والعائلة الحزبية اللبرالية (الحداثية) واليسار من جهة ثانية وتمكن هذا الاستقطاب من الالقاء بظلاله على مجريات الشأن السياسي والعام برمته ودفع بالصراع بعيدا عن المسائل المتعلقة بأوضاع الجماهير المباشرة وبالتغيير الجذري وبسيادة الأغلبية على قراراها وعلى موارد البلاد وثرواتها وبمسألة المحاسبة وبوقف المديونية ووو إلى مسائل أخرى متعلقة بطبيعة الدولة والهوية والحداثة... وتحول الصراع من صراع اجتماعي من أجل التغيير الجذري لصراع هووي يختزل كل المسألة في الانتصار لشق من شقي هذا الصراع النهضة ومشروعها السياسي والمجتمعي أو الشق اللبرالي ومشروعه السياسي والمجتمعي.

مقابل هذا الاستقطاب لم يستطع ما بقي من القوى خارج هذا الاصطفاف وكذلك مناضلي 17 ديسمبر الخروج من دائرة تأثير هذا الصراع والالتحام بالحركة الشعبية لكسر هذا الاستقطاب ودفعها للانخراط في المقاومة على قاعدة مصالحها وتعثروا كثيرا في القدرة على العمل مع الأغلبية ومن داخلها وقد تجلى ذلك في فشل عديد التحركات والاعتصامات التي نظمت خلال هذه الفترة ولكنها بقيت عاجزة على تثوير الوضع عموما وتحويل حركتها الجذرية المحدودة إلى حركة جذرية شاملة تمس كل الجهات وكل القطاعات وتستأنف الثورة على قاعدة تنفيذ مهام 17 ديسمبر.

الاستقطاب الثنائي سيتحول مع انتخابات 2014 البرلمانية وانتخاب الباجي قايد السبسي رئيسا للجمهورية لتوافق بين شقيه الرئيسيين حركة النهضة ونداء تونس اللذان سيشكلان الأغلبية البرلمانية بعد هذه انتخابات وسيشكلان معا حكومة الحبيب الصيد وحكومة يوسف الشاهد التي جاءت بعدها. الثنائي سيتحول مع انتخابات 2014 البرلمانية وانتخاب الباجي قايد السبسي رئيسا للجمهورية لتوافق بين شقيه الرئيسيين حركة النهضة ونداء تونس اللذان سيشكلان الأغلبية البرلمانية بعد هذه انتخابات وسيشكلان معا حكومة الحبيب الصيد وحكومة يوسف الشاهد التي جاءت بعدها.

توافق حركة النهضة ونداء تونس الذي وقع الحديث عنه كثيرا على أنه صمام الأمان بالنسبة للانتقال الديمقراطي في تونس كان في الحقيقة توافقا هشا بين شقي البرجوازية التونسية التي لم يكن كل شق منهما قادرا على الحكم بمفرده وهو ما يعكس هذا التفكك الهيكلي الذي عليه الطبقة البرجوازية التونسية المكونة من فئتين ظل الصراع بينهما مستمرا منذ أواخر الحكم البورقيبي فئة الكمبرادور الرثة والتي تحول جزء كبير منها إلى التهريب والمضاربة و أفرزت من داخلها مجموعات مافيوزية لم يعد لنفوذها حدود وهي منتشرة تقريبا في كل القطاعات والإدارات و الأجهزة وفئة برجوازية الخدمات والصناعات التحويلية والعقارات في المدينة وكبار الملاكين العقاريين والمتوسطين في الريف.

كذلك كان توافق النهضة والنداء يعكس وبصورة جلية تطبيع النهضة مع بقايا نظام بن علي واستجابة سياسية عملية لرغبة جزء من التجمعيين الذين التحقوا بحزب النهضة بعد 17 ديسمبر هذا دون الحديث على أنه أيضا كان تكريسا لموقف بعض الدول الأجنبية التي عينها على مصالحها في تونس وعلى رسها فرنسا وألمانيا.
الخمس سنوات الأخيرة من حكم النهضة والنداء وبرغم ما اعتراها من صراعات بين الطرفين كانت حاسمة في كشف فشل الانقلاب على 17 ديسمبر على إنعاش منظومة الحكم الفاسدة بكل مكوناتها لقد بينت هذه الفترة القطيعة الحاصلة بين هذه المنظومة وبين تطلعات أغلب الجماهير كما كشفت أيضا زيف الصراع الذي جرّ إليه شقي هذه المنظومة الجماهير وأثبتت أيضا بُعد منظومة الأحزاب بكل تلويناتها على تمثل مطالب الجماهير وعجزها عن ترجمتها والدفاع عنها ناهيك عن تحقيقها.

بكل هذا الفشل دخل هذا الفوق السياسي الفاسد بيمينه ويساره اللبرالي انتخابات 2019 الرئاسية مفككا منهكا فاقدا لأي إمكانية لتجاوز أزمته ـ والحقيقة أن هذا الانهاك والتفكك كانت بدأت بوادره منذ إسقاط حكومة الحبيب الصيد وقد توضح أكثر بالاختلاف حول مبادرة الباجي قايد السبسي المتعلقة بالمساواة في الميراث ـ متصورا أن الأوضاع لم تتغير كثيرا لدى أغلبية التونسيين ولكن الصدمة كانت مروعة لهذا الفوق المهترئ لمّا أسفرت انتخابات الدور الأول عن نتائجها وظهر أن الأغلبية الساحقة ممن ذهبوا للانتخابات صوّتوا لواحد هو وقيس سعيد الذي تحصل على أكبر نسبة من عدد المصوتين ولثان مافيوزي فاسد ولكنه يرفع عاليا معارضته لمن حكم من 2014 إلى 2019.

فمن هؤلاء الذين صوتوا لقيس سعيد ونبيل القروي وما دفعهم للحسم في رموز منظومة الحكم القائمةـ أولا ما يجب أن نؤكد عليه في بداية هذا الجزء الثاني من المقال هو أن تغيير موقف أغلبية جمهور المنتخبين وتحوله من النقيض إلى النقيض في إطار الديمقراطية التمثيلية هو أمر ليس جديدا وكثيرا ما حدث في بلدان عديدة وهو ولئن كان دليل على رغبة جذرية في التغيير إلا أنه لم يكن وفي كل البلدان التي حدث فيها بالموقف الذي يرقى لتغيير العلاقات الطبقية السائدة في المجتمع ولا بالمساس من طبيعة النظم القائمة وأقصى ما كان يحدثه أنه يستبدل رموز المنظومة القديمة برموز جديدة وهو أمر وفي كل الحالات التي حدث فيها كان بمثابة عملية شكلية هدفها بعث الروح من جديد في نظم أفلست نهائيا سياساتها وأفلست أجهزة دعايتها كما أفلس رموزها وكل ممثليها السياسيين وتعمقت داخلها أزمة الطبقات التي لا تملك وصارت تنذر بالقطيعة مع النظام. حدث هذا في إيطاليا وألمانيا في بداية القرن العشرين وحدث كذلك في بلدان عديدة في أمريكا الجنوبية خلال النصف الثاني من نفس القرن وقد كانت النتائج دائما المحافظة على الجثة المتعفنة لبعض عافيتها مؤقتا لتعود إلى إنتاج أزمتها من جديد وهوما يؤكد أن هذه النظم برمتها قد تعفنت بما فيه الكفاية ولا تقوى على البقاء إلا بمزيد إنتاج الأزمات.

ما حدث في تونس أثناء الدور الأول من الانتخابات الرئاسية سنة 2019 كان أتى في المجمل في الاطار العام الذي ذكرنا حول امكانية انقلاب موقف الناخبين من رموز المنظومة الحاكمة المهترئة والرغبة في تجديد هذه الرموز ولكنه مع ذلك له خصوصيات لابد من التطرق إليها فمن جهة حدثت ردة الفعل هذه عقب ثورة مجهضة و ومن جهة أخرى جاءت من شرائح اجتماعية وعمرية بعينها هي شريحة الشباب وفئات القاع الاجتماعي الأكثر فقرا وتهميشا و أيضا وهذا مهم جدا فموقف رد الفعل نفسه ذهب في اتجاهين متناقضين من حيث أن الرهان كان على شخصيتين وبرنامجين مختلفين تماما.

فالأغلبية التي انتخبت قيس سعيد مثلا هم أولئك الذين ليس لهم ما يخسرون كما يقال أولئك الذين لم يعد بإمكان لا وسائل الدعاية التقليدية للسيستام ولا للخطاب الحزبي الخشبي لممثليه الرسميين أن يدجنهم. لقد خبروا هذا الخطاب ووقفوا أكثر من مرة على زيفه. إنهم أولئك الذين لم يعد يجمعهم بالسيستام القائم أي جامع وأصبحوا يرون أنهم غير معنيين بصراعات الفوق الفاسد وبخطابات الدعاية الممجوجة للأحزاب وفي كلمة هم أولئك الذين لا يعنيهم غير قلب الأمور جميعا لعل أملا ما يمكن أن يتحقق وينقلهم من الأوضاع التي هم فيها إلى ما هو أحسن وليكن حتى المجهول فليس لهم ما يخسرون بالنهاية وأغلب هؤلاء من الفئة العمرية الشبابية المتعلمة والحاصلة على شهائد جامعية في جزء كبير منها. لكن لا يجب أن نغفل على أن الشريحة التي صوتت لقيس سعيد و إن كانت في عمومها تنتمي هي أيضا للقاع الاجتماعي إلا أنها تحمل تمايزا عن الشريحة التي صعدت نبيل القروي وهو أن طليعتها وتحديدا الذين قاموا على تنظيم حملة قيس سعيد هم من "شباب الثورة" كما يطلقون على أنفسهم وهم فئة من المتعلمين الشباب الذين ظهروا بعد 17 ديسمبر ونشطوا كثيرا في تياره الواسع و عايشوا مختلف منعرجات الانقلاب عليه باسم الانتقال الديمقراطي وتبنوا ملف شهداء وجرحى الثورة وجمعهم تصور سياسي يقوم أساسا على فكرة استبدال الثورة بالدولة وعلى مجموعة من الأفكار الهلامية المتعلقة برؤيتهم للدولة وللنظام السياسي ولأشكال الحكم تتقارب كثيرا مع طرح قيس سعيد المتعلق بقلب هرم النظام السياسي وتغيير النظام الانتخابي وإرساء ما يسميه بالحكم المحلي ونظام الاقتراع على الأفراد.

أما الشريحة التي انتخبت نبيل القروي فأفرادها هم أولئك الذين يقبعون في القاع الاجتماعي مذ عشريات وداست عليهم دولة بورقيبة ودولة بن علي ودولة الانتقال الديمقراطي تلك الشريحة التي ضاقت بها سبل الحياة وصارت تعيش بخوف دائم وعجز مستمر حتى عن تلبية أبسط المقومات شريحة تعيش باستمرار تحت غائلة الفقر والتهميش ولم يعد لها من أمل في تغيير أوضاعها في دولة لم تنجح طيلة أكثر سبعين عاما سوى في مراكمة الفقر لدى الأغلبية والمال والنفوذ لدى أقلية مفصولة فاسدة ومرتبطة.

هكذا يمكن القول بعد التعرّف على الانتماءات الطبقية للأغلبية التي صوتت لقيس سعيد ولنبيل القروي ممن ذهبوا للانتخابات أن محاولات منظومة الحكم طمس الصراع الطبقي والتناقض الحاد بين الأغلبية المفقرة والمستغلة والمهمشة والمجردة من كل قرار ومن كل حقوقها وعلى رأسها سيادتها على موارد البلاد وثرواتها واستقطاب هذه الأغلبية والزج بها في صراع على الهوية وعلى طبيعة الدولة وعلى بعض المسائل الحقوقية الجزئية قد باءت بالفشل فالاستقطاب مازال استقطابا طبقيا لا بل يمكن القول أنه ومع تبين حقيقة نظام قيس سعيد وواقع استمرار الأزمة الخانقة ومزيد وتدهور أوضاع الأغلبية الذي صار أكثر حدّة من ذي قبل والذي يعبر عنه هذا الحسم الصامت في رموز منظومة حكم الانقلاب التي تقدم نفسها على أنها منظومة حكم الثورة.

ولكن السؤال الذي يطرح هو ماهي طبيعة الحكم اليوم وما هو البديل الذي تطمح إليه الجماهير لتغيير أوضاعها.

لقد تبين بعد خمس سنوات من 2019 ان الجثة هي نفسها وأن عفنها فاحت راىحته أكثر ولكن للأسف فالأنوف مسدودة لا تشم.

ان قلب هرم النظام السياسي القائم الأن و الترديد أنه كفل سيادة الشعب على قراره و أطاح بالمركزة التي عليها الدولة لصالح لامركزية كان فاعلا فيها المواطن مغالطة كبرى سيتبينها المواطن لما تسوء حاله اكثر و لما يقف بالمكشوف على من يحكم بالفعلم المتحالفون في الحكم.
ان بالتغيير النظام سوف لن يتيح المجال ألا لانتعاش اللوبيات و المافيات ومراكز القوى الاقتصادية و المراكز الحاملة للسلاح للتقوي وبالتالي أضعاف اي امكانية التغير لتتقدم الأوضاع دائما للأسوء ولاحتداد أزمة الطبقات الفقيرة ومزيد تعمق أزمة الحكم و الحاكم التي ستبلغ أعلى درجاتها بفعل التناقضات التي سيكون عليها نظامها السياسي وما سيترتب عن ذلك من صراعات بين مختلف مؤسسات هذا النظام.
ان ذلك سوف لن يزيد جماهير الأغلبية إلا قناعة في أن لا خلاص لها إلا باستقلالها التنظيمي والسياسي عن النظام و أجهزته وبمواصلة المقاومة وتجذيرها من أجل فرض التغيير المنشود
12 جويلية 2024