جزء قصير من الفصل الثاني من نص منتصر السعيد المنسي عنوان الكتاب الثالث من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العربي بعد أرض النفاق الذي نشر في السنة الفارطة.
بشير الحامدي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8119 - 2024 / 10 / 3 - 14:57
المحور:
الادب والفن
... ألا تدري أن التغيير يسري أيضا على الفكر وعلى طرائقنا في التفكير وعلى المصطلح وعلى الذائقة أيضا... نعم على الذائقة!
توقف أرجوك وأنظر حولك فالكون يتحرك ويحرك ونحن نتحرك ونحرك ولا شيء يبقى ساكنا...
إننا دائما مشددون ليس بالأخلاق والمتعارف عنه كما أننا لم نولد ليهودنا آباؤنا أو يمجسونا أو ينصرونا أو يؤسلموننا.
إننا وجدنا لنفكر ولا شيء غير أن نفكر ونعيش.
عادت به الذاكرة لباب الجديد ولأصدقائه ولتلك النقاشات التي لا تنتهي...
تذكر يوم قال له ناظم:
ـ هل تعلم أني من وقتها لا أضع نقاطا متتابعة كلّما كتبت شيئا.
وتذكر ما رواه له بصوته المبحوح حينما قال:
ـ كنت تلميذا في السابعة ثانوي وكان مدرس الفلسفة فلتة من فلتات الزمان...
والحقيقة إن مدرسو تلك السنوات أغلبهم كان فلتة...
وقتها كنا في آخر الثلاثية الأولى من السنة الدراسية وككل التلاميذ أجرينا امتحان الفلسفة عند ذلك الأستاذ. كنت أكتب ولكن عندما تضيع مني الأفكار أو أحسّ أني بدأت أخرج عن الموضوع أضع ثلاث نقاط متتابعة وأواصل... ويوم أرجع لنا الأستاذ المواضيع قال لي:
ـ "أشكون سيادتك طه حسين وإلا سارتر زوز دوبل فايات وشطرهم نقاط متتابعة. محسوب تعمل في النقاط المتتابعة زعمه زعمه راك تعرف... يا ولدي راهم يعملو النقاط المتتابعة ناس معروفين بأفكارهم بمواقفهم بنظرياتهم وما يحبوش يعاودو الكلام هذاكه علاش في كتاباتهم تلقى النقاط المتتابعة. لكن إنت أشكونك أشنوة أفكارك لمتحبش تعاودها. أسمع ولدي من اليوم ماعدش نحبك تحط نقاط متتابعة في مواضيعك ووقت تولي معروف ومشهور وكاتب كبير وإلا فيلسوف أعمل آش تحب نشالله حتى تعبيها بنقاط الاستفهام."
ومن يومها كرهت النقاط المتتابعة وصرت لا أضعها في نصوصي سواء المنشورة منها أو غير المنشورة...
تذكر أيضا ذلك النصّ الممضي بناظم العربي الذي أعاد كتابته وكان قد عثر عليه في أحد المواقع الالكترونية أعجبه النصّ كثيرا حتّى أنه نسخه وقرأه على أصدقائه في الحومة وتركه مخطوطا على ورقة لدى أحدهم.
لقد كتب ناظم حوار عميقا جدا بين نزيل مستشفى المجانين والطبيب الذي يعالجه وقد جاء في النص:
ـ ألا ترى أن كل هؤلاء المحيطين بك الذين معك وتعيش بينهم حياتهم غريبة أيضا وهي حياة مجنونة مثلهم…؟؟؟
لماذا أنا بالذات ما رويته لك رأيته غريبا…؟
سيدي لا يوجد شيء اسمه جنون…
الجنون حالة مرضية رهيبة ولا أعتقد أن من تراهم هنا مصابون فعلا…
العلة هي أنه يمكن أن تتظاهر بالجنون وتتماهى مع حالتك وتصير فعلا مجنونا…
الغريب أن كل هؤلاء ملامحهم ملامح مجانين سحناتهم سحنات من به سوء أو مرض أو معاناة.
حركاتهم حركات مجانين أقوالهم متضاربة فهم يروون لك يوما قصّة ويعودون في الغد أو في الحين ليناقضوها ويظهرون بمظهر آخر.
ردّ الطبيب:
ـ الحقيقة أني لم أعد قادرا على لملمة أفكاري والخروج بموقف منطقي يخصّ تقييمي لحالاتهم …
وضعي كطبيب معالج لهم لا يمنحني أي امتياز لأفهم ولأفهمهم... فربما هذا الوضع اللعين هو الذي يجعلهم شبه مجهولين أمامي…
ما جدوى ما أسجله على أوراقي؟
من يقول أنهم يأخذون ما أقوله لكل واحد منهم مأخذ الجد؟
والأهم من يدري هل يتناولون ما أصفه لهم من أدوية ومهدئات؟ من يدري؟ ربما هم يتظاهرون بأنهم يتناولونها ومواظبون أيضا…مرات أعتقد أنهم ممثلون كبار ومرات أترك كل ذلك ولا أراهم غير مرضى خصوصا لما أفتح القوائم وأتفحص سيرهم أو لما أتحادث مع الممرضات والممرضين بشأنهم…
وأضاف هل تعلم أن أحدهم جاءني يوما وقال لي:
"دكتور الماضي هو مأزقي الأكبر لابد لي من التخلص من ماضيا الأسود... لابد لي من الانتحار… أنا لا فائدة مني ومن حياتي…
تظاهرت في البداية أني لم أسمعه ولكنّه أصر وطلب مني وضع كل شيء جانبا والتوقف عن النظر بعيدا وأعاد عليا ما قاله.
فقلت له لماذا ترى أن ماضيك أسود وتريد أن تتخلص من نفسك؟؟؟
فقال: ماضيا أسود نعم أسود والدليل أن نفس الكابوس يقض مضجعي كل ليلة لا بل أن الكابوس صار يأتيني حتى في النهار لما أنام.
وأضاف: "هو ليس كابوسا واحدا إنها كوابيس لقد صارت كوابيس… يا دكتور لابد أن تجد لي وقتا لأروي لك كوابيسي" ثم عاد وتراجع عما قال مرددا… "لا فائدة من الحديث… لولين قالو: الحديث ياسر والدواء في كلمة". وقام وذهب."
هذا الذي جاءني هو ذاك الذي أحرق نفسه في غرفته منذ سنة ولولا يقظة الممرضات لذهب فيها لقد أنقذنه ولكن حروقه كانت بليغة جعلته يمكث في مستشفى الحروق مدة طويلة ليخرج وقد تشوهت خلقته لنسمع بعد ذلك أنه خرج يوما وكتب على جدران البناية الرمادية ألفاظا اعتبرت ثلبا ووقع الزج به في السجن وهو يقضي الآن عقوبة ثقيلة ويقول من يعرفونه أنه يردد هناك كلاما يمكن أن يعيده للسجن ثانية.
- ماذا يقول؟
- يقول إنه يرى بعينه أحد أفراد الحكومة يزني مع أمه ومع كثيرات أخريات وأنه لما يخرج سيقتله.
- ولكن هذا كلام مجانين فهل يمكن محاكمته عن كلام مجنون كذا؟
- نعم يمكن محاكمته فلا أحد يقول إنه مجنون وحتى الأطباء الذين يباشرونه مشكوك في نزاهتهم وقد أفادوا أكثر من مرة بعكس الحقيقة …
أنا وحدي من يعلم أنه ربما مجنون وأنه لا يستحق السجن بل يستحق التداوي في مصح نفسي ولكن من يسمعك من يعبرك من يأخذ كلامك مأخذ الجدّ… كلهم سيقفون نفس الموقف الذي سيأخذه المحقق منه.
- نحن كلنا نبحث عن شيء ما ضاع منا ولا يمكن العثور عليه…
ـ المثل يقول: "إلي طيرها مفروض ما يجريش وراها. وإلي يبدل لحية بلحية يشتاڨهم لثنين"
ـ قد يكون مريضك على حق وقد يكون ذلك الذي يراه حقيقي وقد يكون المحقق على حق وقد يكون الأطباء المباشرون صادقون قد يكونون أيضا متمرسون على الكذب وقد يكون كل شيء محض خيال مجنون…
الحقيقة صارت لغزا والطريق الأسرع لها هو الجنون يا دكتور.
قال الدكتور: الناس كلهم مرضى...
مجتمعنا مستشفى مجانين مترامي الأطراف ولا أحد يهتم به. كلنا مرضى ولكن هناك منا من مرضه أخف من غيره ولكن عديدون هم من يعانون من كوابيس فعلية
ـ أنا أيضا تقض مضجعي الكوابيس دكتور…
لا تنسى أني نزيل أيضا بالرازي وأتداوى عندك ولكني أتظاهر بالنسيان…
أنا أتظاهر بالنسيان ولكني في الحقيقة أتألم كثيرا … وقد يأتي وقت لا أستطيع فيه التّحمّل.
منطقة أحلامي تغطيها أمور كثيرة فربما أقلع نهائيا عن النسيان لأن النسيان هو بالضبط فقدان متعة السعادة إلى الأبد وأنا أريد أن أكون سعيدا ولا أرى الطريق منتهية...
دكتور سأحدثك بأمر أعرفه حق المعرفة سأحدثك عما رأيت لما ذهبت إلى هناك مع أحدهم وانطلق يتحدث.
"كانت رائحة المكان مقززة خليط من روائح الدم الطازج والمتيبس والعرق والقيح والرطوبة الباردة. خليط من روائح المازوط والشحم والمطاط المحترق واللحم المشوي.
المكان معتّم مظلم ليلا نهارا عدى فانوس صغير معلق في العلو الشاهق لسقف المكان.
أموات بالعشرات ملفوفون في عباءات وسخة ممدين الواحد بجانب الآخر.
قال الذي ذهب بي لهناك أن كثيرين يأتون بهم إلى هذا المكان المحاذي للسجن والذي كتب على واجهة مدخله مصحة السجن بعد أن يُكتشف أمرهم ويصدر بشنهم القرار النهائي…
طبعا القرار النهائي يبقى أشهرا ليكون جاهزا فالحاكم لا يهتم بذلك…
هناك أولويات والحاكم لا يرى أن أمر هؤلاء يتطلب معالجة سريعة...
ولا شكّ أن مثل هذا القرار لا يشغله كثيرا ويمكن أن ينتظر…
المقبوض عليهم والذين يصلون المكان ينتهي كل شيء بالنسبة لهم…
قال لي إنّ كل من يُؤتي به للمكان أول ما نقوم به بشأنه هو أن نعطيه اسما غير اسمه ولقبا غير لقبه…
قال الاحتياط واجب… فأهله سيبحثون عنه سيسألون عنه كل من يصلون إليه… أناس عاديين، ضباط حراس، سجناء سياسيين، مساجين عاديين وقع إطلاق سراحهم… الاحتياط واجب لذلك يقع تغيير أسماء من يصلون فمحمد الرابح مثلا يمكن أن يصبح منصور الأيوبي وعلى الراعي قد يصير محمود بن علي وهكذا المهم أن من يدخل هنا يموت… يموت فعلا أو يموت بالحياة يصير آخر هويته السابقة تمحى وكأنه لم يكن… تمحى من كل السجلات فحتى أهله إن أصروا يمكن أن نمكنهم من السجلات ليقروا أسماء السجناء ولن يعثروا على اسم قريبهم لذلك تراهم يتنقلون من سجن لسجن حتى يكلون ويملون ويستسلمون.
نزلاء هذا السجن ومن يبقى منهم على قيد الحياة هم هامات فقط ليسوا بشرا كي يعاملوا معاملة البشر وأضاف هنا الكلام ممنوع وتقريبا كل شيء ممنوع وهناك ممنوع من ممنوع…
سألته عما يقصد بممنوع من ممنوع فقال: أولا السلطة لا تصل إلى هنا لذلك ترى الحراس طليقي الأيدي يفعلون ما يشاؤون بالسجناء والحقيقة أنهم كلهم مخابرات ولكن تقارير عديدة تصل السلطات العليا فتكون أول من يعرف كل شيء ولكنها لا تظهر في الصورة الحراس هم الذين يظهرون وهذا أول ممنوع من ممنوع.
الممنوع من الممنوع الثاني هو يصادف أن يتعرف حارس على أهل سجين من السجناء فيحوّل الأهل لمصدر تمعّش طبعا هو لا يخبرهم بأن قريبهم في السجن الذي يعمل فيه ولكنه يخبرهم أن له صديقا يعمل في سجن آخر هو الذي تعرف على سجينهم وقد أخبره بذلك ولكن الأمور خطيرة جدا وصعبة وتتطلب الكثير من النقود ليتصلوا بسجينهم طبعا يكون متسلحا بصورة للمعني صورة حديثة تظهره في لباس السجن ولك أن تتصور الباقي…
وإليك ممنوع من ممنوع آخر هناك بعض الحراس يبيعون المخدرات للسجناء… طبعا السلطات تعلم ولكنها تغمض العينين عن ذلك.
أيضا يمكن أن تعثر على الهاتف الجوال وفيديوهات البورنو وكل شيء بثمنه… السجناء هنا يدفعون يا صاحبي…
ماذا يمكن أن يبقى لهم إن لم يدفعوا من لا يَدفع يُنبذ... يصير كالمجنون... يترك لمصيره ومصيره معلوم…
السجن اليوم تطور كثيرا صار كل شيء يمكن الحصول عليه فقط يجب أن يكون لك ما ومن يمكّنك من ذلك.
هل تصدق أن الحياة في السجن خير منها خارجه… هذا الكلام ليس من عندي إني سمعته من أكثر من سجين... وأنهى كلامه.
ـ نعم نعم كل ما رأيته وكل الذي رواه لك صاحبك حقيقي.
في أيامنا صار كل شيء يباع ويشترى...
لا يهم من أين تشتري وممن تشتري المهم أنك تعثر على ما تريد حتى في السجن...
الدروڨ، لقحاب، الهواتف...
كل شيء...
كل شيء صار بضاعة تباع وتشترى...
بضاعة للتصريف.
...
تونس 03 أكتوبر 2024